مآلات الصورة في العصر الرقمي
د. علي وطفة
النسق الرمزي للصورة
تنطلق الثقافة الرقمية اليوم من ثقافة الصورة وومضها، لتعمل على هندسة النوازع وتشكيل القيم عبر الإغراء والجاذبية والإدهاش، وتنتهك الوعي الإنساني وتعيد تشكيله على نحو يستجيب لتطلعات الشركات الإعلامية الجديدة في تشكيل الإنسان على مقياس الاستهلاك والانصياع لنسق رمزي جديد يريد أن يفتك بالقيم الإنسانية الخلاقة، ويدمر المنطق العقلاني، ويغرق الإنسان المعاصر في لجة المتعة.
ومن هذا المنطلق ينظر إلى الثقافة المعاصرة حاليا بأنها امتداد مخيف لثقافة الصورة والومض الضوئي، وذلك إلى الحد الذي دفع بكبار المفكرين إلى إطلاق عصر الصورة على العصر الذي نعيش فيه. وهو عصر يتصف بتراجع كبير في الثقافة النقدية المكتوبة التي تفسح مكانها لثقافة الضوء والصورة وومض الصورة وسحر الشاشات الضوئية.
حرب الصور
تتجاوز الصورة حدود الثقافة إلى جغرافية الصراع بين الدول والأمم والشعوب والثقافات، حيث تدور المعارك الكبرى بين الدول في تقاسيم الهيمنة والسيطرة. وهنا يتجلى دور الصورة عبر وسائط الإعلام الجبارة التي تتمثل في الفضاء الإعلامي عبر الشاشات والقنوات الفضائية وشبكات الإنترنت المعززة بوسائل التواصل الاجتماعي.
والصورة كسلاح غالبا ما تكون مشفرة محمّلة بمضامين وغايات وأهداف خفيّة مضمرة تستهدف عقل الإنسان وقيمه. فالصورة التي تبث عبر الأقمار الاصطناعية والحواسيب والإنترنت لا يمكنها أن تكون حيادية وشفافة، بل غالبا ما تكون أداة أيديولوجية تستهدف الآخر في قيمه ومعانيه. فالمجتمعات الإنسانية تعيش حالة استلابية اغترابية تحت تأثير الصورة الإعلامية بوصفها طاقة استلابية كليّة القدرة.
ونجحت الصورة في العصر الرقمي بتوليد طيف غير متناهٍ من التدرجات الصورية المرئية، لمخلوقات شتَّى، بعضها يمكن أن نعدَّه مسخًا اختياريًا، يمزج بين الحقيقة وعبث الخيال البشري، وآخر يلجأ إلى توليد صور جديدة لمخلوقات مستحدثة، لم تألفها النفس البشرية؛ بَيْدَ أنها بدأت تتعود على التفاعل معها، بعد أن عجز الخيال المودع في نصوصنا عن اللَّحاق بركب الإنشاء الصوري المعاصر بواسطة تقنيات المعلومات وأدواتها.
وتطور الصور الرقمية أدى في ثمانينيات القرن الـ 20 وتسعينياته إلى تحولات جذرية في معنى الصورة في الثقافة الإنسانية. والصور الرقمية هي نوع من الصور التي يتم توليدها عبر البرمجيات الحاسوبية المتطورة. وتستمد الصورة الرقمية قيمتها من الدور المعرفي الذي تمارسه في الفضاء المعلوماتي، وتتميز بتدفقها الهائل في العصر الرقمي لتكون في متناول الراغبين والمستهلكين، وبخصائصها الفنية التي تتمثل في سهولة التعامل والقدرة على معالجتها والتفنن في فهمها وتحليلها وتخزينها ونشرها. ومكنت الحواسيب مستخدميها من إنتاج الصورة وبنائها وإعادة تشكيلها وتوزيعها بطريقة مذهلة. وغدت الصور البصرية عناصر أساسية في الروايات التفاعلية التي يمكن من خلالها الإبحار لخلق مسار فردي لشخصياتها.
الصور والذكاء التكنولوجي
لم تعد الصور التي يشاهدها المتلقون مجرد صور، لكنها صور تمثل الذكاء التكنولوجي الذي حوَّل طرائق الرؤية الإنسانية ذاتها من الأفراد إلى ما يشبه الأقنعة المهجنة حيث لا تكمن الهوية في مكان أو موضوع أو شخص بعينه. لقد تحول المشاهد من التعامل مع «تمثيلات» للأحداث إلى التعامل مع «صور» للأحداث، أصبحت كأنها هي الأحداث.
وتحول المشاهد من التعامل مع مجرد تمثيلات عقلية للموضوعات والأشخاص والأحداث إلى التعامل الإدراكي البصري معها والذي يوشك أن يكون فعليا، مع أن التكنولوجيا والوسيط الخاص بالصور يقومان بالتوسط بين الصور والمتلقي. والطرائق المألوفة حاليا في الحديث عن عوالم الصور تجعل عمليات الوساطة أو التوسط هنا كما لو كانت غير مهمة.
لقد أدت الصورة بأشكالها المختلفة في التلفزيون والسينما والإنترنت وفنون الإعلان والإعلام دوراً أساسياً في تشكيل وعي الإنسان المعاصر بأشكال إيجابية حينا وسلبية حيناً آخر، فهناك حضور جارف للصور في حياة الإنسان الحديث، وهي حاضرة في التربية والتعليم، وفي الأسواق والشوارع، وعبر وسائل الإعلام، وفي قاعات العرض للأعمال السينمائية والمسرحية والتشكيلية، وفي بطاقات الهوية، والحواسيب، وفي ملاعب كرة القدم والتنس والمصارعة، وفي العروض الفنية.
حضرة صورية عابثة
تحت تأثير التقدم الهائل في استخدام الصورة وتنامي سطوتها الهائلة، أصبحت الإنسانية سجينة قضبان حضارة صورية عابثة فقدت اتصالها مع التناسق الكوني في انعكاساته المرئية، وأصبحت كل توليفة مرئية من أجزاء صورية متناثرة مقبولةً ما دامت قابلة للإنتاج بالتقنيات المعلوماتية الصورية المعاصرة.
وأسهمت الصورة في حدوث انتقال جذري في العلاقة التقليدية بين التربية والثقافة والمجتمع، فحلت ثقافة الصورة محل ثقافة الكلمة. وهناك فرق جوهري بين صور اليوم وصور الماضي؛ ذلك أن صور اليوم تسبق الواقع الذي يفترض أنها تمثله في حين كانت صور الماضي تجيء تالية للواقع ومتوقفة عليه. وأصبح الواقع صورة شاحبة من الصورة، فالصورة هي الأساس، وليس الواقع.
وما زالت مباحث الصورة في الوطن العربي تعاني الضعف والوهن، نظراً إلى هيمنة اللغوي على البصري في حقل الثقافة العربية المعاصرة، وللتعقيد المنهجي الذي تفرضه مقاربات الصورة بمختلف أنواعها وأنماطها.
إن الفيض الغامر من الصور التي تقطن في كل مساحات المواقع على الإنترنت، وزواياها المظلمة والمضيئة، هو الذي يجعل المخيالَ الإنساني العام يتجه بقوة وسرعة نحو ما يمكن أن نسميه بحالة فقد الاتصال بمحددات الزمان والمكان، التي تعين الإنسانَ على الإحساس القوي بمعنى وجوده ووجود الآخرين من حوله. وفي زحمة السياق الصوري المكثف، تفقد الكلمةُ جاذبيتها وهيبتها، بعد أن أصبحت تابعًا للصورة، حتى لكأن اللغة لم تَعُد بيت الكائن؛ لأن الصور أصبحت حلمه ومتاهته، وإن كان البعض يمتلك من فرص ووسائل التكيف مع هذه الوضعية الثقافية «الصورية» بمعنى ما؛ وذلك لقدرتها على إدراك فحوى الخطاب الجديد، وحضوره في كل تفاصيل حياته اليومية.
وبفعل الثورة التكنولوجية نعيش عصر الـصورة، ويعتبـر التـصوير الرقمي مميزاً لحقبة ما بعد الحداثة، وأصبحنا في عالم تهيمن عليه الصورة والواقع في خلفيتها، ولم تعـد هنـاك صـورة وأصل، بل صور ذات أصول متعددة. إنه عالم أزرار إلكترونية تجعـل المـرء يـشعر ويحس بإحساسات واقعية وهي ليست كذلك. >