السموم في الطب الشرعي أدلة دامغة في كشف الجرائم والاغتيالات
د. وليد عبد الغني كعكه
استشاري وأكاديمي
عندما تحدث الجرائم في كل مكان، يبدأ رجال المباحث الجنائية والمتخصصون في الطب الشرعي، وغيرهم من المعنيين بهذه الجرائم، في البحث عن أي دليل يسهم في معرفة تفاصيل حدوثها، وأسباب ارتكابها، والتوصل إلى فاعليها. وتشمل رحلة البحث عن الأدلة معلومات عدة، بما في ذلك السموم التي ربما استخدمت في تلك الجرائم، من حيث أنواعها ومكوناتها وطرائق استخدامها. ويستخدم في اكتشاف بعض الجرائم علم السموم الشرعي Forensic Toxicology ، الذي يطبق مبادئ الكيمياء التحليلية وعلم السموم للأغراض الطبية والقانونية حيث يحتمل استخدام نتائجه في المحكمة أو للإجراءات الإدارية. وتغطي تخصصات علم السموم الشرعي التحقيق في الوفيات (بفحص حالات التسمم في الأحياء والجثث لمعرفة سبب الوفاة)، والجوانب المتعلقة بالأداء السلوكي أو البشري مثل القيادة الضعيفة بسبب تعاطي المخدرات، واستخدام الستيرويد من قبل الرياضيين، واختبار المخدرات في مكان العمل.
وهناك ما يسمى بعلم تحليل السموم في الحشرات Entomotoxicology التي تتغذى على الجثث (بشكل أساسي الذباب والخنافس). والمعروف أن المواد السامة الموجودة بكميات ضئيلة جداً في الدم والبول ومحتويات المعدة والشعر والأظافر من الدلائل التي تشير إلى سبب الوفاة، لكن هناك مصدرا مهما أيضاً هو وجود اليرقات ولاسيما يرقات الذباب على الجثة. وقد تشمل العناصر التي يتم تحليلها ضمن علم السموم عينات بيولوجية، ومخدرات، وسموما، ومواد كيميائية بيئية، وأي منتج قد توضح فيه نتائج التحليل الأنشطة الإجرامية والأحداث الماضية أو الحالية.
الكشف عن الجرائم
يهتم علم السموم الشرعي بتحليل الأدلة ذات الطبيعة الإجرامية، مثل التحقيق في القتل، أو انتهاك الإجراءات مثل الفحص العشوائي أو قبل العمل للكشف عن تعاطي المخدرات. وقد يتعاون علماء السموم الشرعيون مع محترفين آخرين مثل الفاحصين الطبيين واختصاصيي علم الأمراض أو هيئات تنفيذ القانون للحصول على أفضل النتائج. وتعد الخبرة في التحليل الكيميائي الحيوي والصيدلاني والكيميائي النباتي من المتطلبات الأساسية للتميز في علم السموم الشرعي. إن الإلمام بالتحقيق في مسرح الجريمة وجمع العينات ومعالجتها وفحص بصمات الأصابع وكذلك القانون الجنائي والإجراءات الجنائية يعزز قدرة اختصاصي السموم الشرعي وإنتاجيته.
تشمل العينات في هذا التحقيق عادة الأدوية والسموم والكحول، أو أي مادة كيميائية، لإثبات تأثيرها في الوفاة. ويعتبر تركيز وتقدير المادة الكيميائية في الدم أو في أنسجة معينة أمرا مهما من أجل إقامة علاقة السبب والنتيجة. ويعد استخدام أحدث التقنيات والأدوات التحليلية أمراً مهما أيضا لأن القضايا قد تضيع في المحاكم إذا ثبت أي شك. عادة ما يكون هناك اهتمام، مفصل بالوثائق، حول الأسباب المحتملة للأخطاء في التعامل مع العينة أو حساسية الاختبار، والآثار بعد الوفاة وكذلك تأثير إعادة توزيع الدواء في الجسم بعد الوفاة.
هناك توازن وثوابت مختلفة لتحركات الدواء من الدم إلى أعضاء مثل الكبد والرئة والدماغ، حيث تحدث معدلات حركة الدواء هذه إلى أعضاء مختلفة لها تركيزات مختلفة في الوقت تأثيرات عدة، ويمكن استخدام تركيز الدواء في الدم أو في عضو معين للتنبؤ بالتركيز في نسيج آخر. يمكن بعد ذلك استخدام التركيز المقدر لعقار أو سم لربطه بالسمية في كائن حي. والمسألة معقدة؛ لأن إعادة التوزيع تحدث بعد الموت مما قد ينتج عنه تركيز في العضو ربما يبلغ 10 أضعاف ما كان موجوداً قبل الوفاة. ومن أمثلة الأدوية التي تظهر هذه الظاهرة بعض مضادات الاكتئاب وأدوية الألم التي يعاد توزيعها بتركيزات أعلى في الكبد. وقد يؤدي تلف الأنسجة والموت أيضاً إلى تغيير التمثيل الغذائي داخل الخلايا مما يتطلب انتباه طبيب السموم الشرعي. ونظراً لأن الجسم يتدهور أو يجف وتتوقف الأعضاء عن العمل، فإن جميع افتراضات بيانات حركية الأدوية (امتصاصها وتوزيعها وعملية استقلابها وفترة نصف العمر للتخلص منها) ربما لا تكون قابلة للتطبيق بعد الوفاة، كما أن استخدامها دون الاهتمام الدقيق بتغييرها سيؤدي إلى خطأ في الاستنتاجات. لذا يجب على خبير السموم أن يكون ملماً بالعوامل التي تسهم في سرعة تحلل العينات والمواد السامة التي قد تحتويها.
عينات الضحايا
واستناداً إلى ما ذكر آنفا، فمن المعروف أنه لا يمكن الحصول على عينات من محتويات المعدة والبول والدم من جسم الضحية بعد انقضاء فترة من الزمن، لكن يمكن أخذ عينة من محتويات اليرقات الموجودة على الجثة أو في مسرح الجريمة، وبذلك يمكننا تحديد ما إذا كانت الأدوية قد وجدت في الجسم وقت حدوث الوفاة.
ويعتبر استخدام هذه التقنية تقدما كبيرا في العلوم الجنائية، إذ لم يكن هناك استطاعة لاستخدامها سابقاً، ولاسيما بالنسبة إلى الجثث المتحللة بشكل كبير. وقد أتاحت الدراسات الحديثة المتعلقة بتأثير الأدوية والمواد السامة المختلفة على تطور ونمو مفصليات الأرجل تحديد فترات ما بعد الوفاة بصورة أكثر دقة.
والعامل الحاسم والمجهد لطبيب السموم الشرعي هو محدودية حجم العينة التي قد تؤثر في عدد الاختبارات التي يمكن إجراؤها وإعادة إنتاجها بدرجة مقبولة من اليقين. على سبيل المثال، قد تشير بصمة إصبع المشتبه فيه إلى وجود شخص ما في مسرح الجريمة ولكن ليس ضرورياً أثناء الجريمة. ومع ذلك، فإن بصمة الإصبع التي تحتوي على دم الضحية تشير إلى الوجود أثناء القتل أو بعده بفترة وجيزة، وبصمة الإصبع التي تتضمن دم الضحية الملوث أيضاً بالعقار المستخدم في الجريمة تشير بقوة إلى التورط. قد يكون لدى طبيب السموم الشرعي بضع بصمات فقط ملوثة بدم الضحية، ودواء بكمية صغيرة جداً، لإجراء جميع الاختبارات اللازمة. لذا، يعتبر اختيار العينة المراد تحليلها وطريقة حفظها ونقلها وتخزينها من الشروط الأساسية في التحريات السمية، ويجب على خبير السموم أن يكون ملماً بالعوامل التي تسهم في سرعة تحلل العينات والمواد السامة التي قد تحويها.
يمكن الاستفادة من علم السموم في تحقيقات الوفيات في مختبرات الطب الشرعي العامة أو الخاصة، لكن اعتماد المختبر المناسب أمر ضروري لعرض الحالة بشكل أفضل. ولا بد من الإشارة إلى أن البيانات التحليلية للسموم الموجودة في العينات، والمكتشفة بإحدى الطرائق المذكورة آنفا، تستخدم ضمن ملفات القضايا إلى المحكمة كأدلة جنائية يعتمد عليها بهدف إصدار أحكام قانونية عادلة.
طرائق اكتشاف السموم في الجثث
تختلف طرائق تحليل العينات في علم السموم الجنائي حسب طبيعة العينات المراد تحليلها والهدف من طريقة التحليل، فهناك طرائق تتعلق بالتحليل المناعي أوالتحليل ذي الطابع الحيوي الجزيئي أوالتحليل الكروماتوغرافي، وذلك بهدف تحليل عينات السوائل أو الأنسجة الحيوية أوغير الحيوية. وللكشف عن السموم وتقدير كميتها لا بد من تطوير التقنيات التحليلية المتعلقة بتحضير العينات، وطرائق التحليل الآلية والتأكد من صلاحيتها (الأفضل تحليل عينات بشرية تم تشخيصها مسبقا)، والتأكد من كفاءة الأجهزة التحليلية (إجراء التحقق في أيام مختلفة ومن قبل عدة محللين)، ثم معالجة البيانات الناتجة لتحديد نوعية المادة السامة وكميتها. ومن مسؤوليات أي مختبر سموم جنائي إعداد خطة متكاملة تتضمن الطريقة التحليلية القادرة على تمييز المواد السامة المختلفة، وتحديد نمط المعايرة أثناء التحقق من دقة الطريقة المستخدمة في التحليل، وتعيين حد الكشف النوعي لجميع الطرائق التحليلية المستخدمة في المختبر (سواء ما يتعلق منها باستخدام الحد القطعي أو التركيز الأقل من المحلول العياري أو استخدام مواد قياسية مرجعية أو منحنى المعايرة الخطي، أوغيرها)، وتعيين حد التقدير الكمي (سواء ما يتعلق منها باستخدام التركيز الأقل من المحلول العياري، أو استخدام التحليل الإحصائي لخلفية الكروتوغرام، أو استخدام منحنى المعايرة الخطي، أوغيرها)، وتحديد آلية عمل كل طريقة وتقييمها وتحديد شروط قبولها.
أما بالنسبة إلى عملية تحليل محتويات اليرقات الموجودة على الجثة أو في مسرح الجريمة فتختلف تقنيات التحليل للمواد العضوية والمواد غير العضوية، حيث يتم تحليل المواد غير العضوية باستخدام تقنية البلازما التحريضية، ومطيافية الإصدار الذري، ومطيافية الامتصاص الذري اللهبي. ويتم تحليل المواد العضوية بواسطة فحص الغربلة، والتقييم الحيوي الإشعاعي بأجهزة المناعة وبواسطة فحوص التأكيد التي تشتمل على تقنيات الكروماتوغرافي (الفصل أو التحليل اللوني)، ومنها طريقة الفصل على رقائق الكرماتوغرافي أو استشراب الصفائح الرقية والفصل الكروماتوغرافي الغازي. أما بالنسبة إلى تحليل المواد في حالتها السائلة أو الصلبة فيمكن استخدام تقنيات استخلاص خاصة لتلك المواد. وهنا لا بد من التأكيد على أهمية حفظ سجلات المختبر المتعلقة بوثائق التحقق من صلاحية الطرائق التحليلية المستخدمة والبيانات الناتجة عنها.
الاغتيالات السياسية
نظراً لتطور وسائل الجريمة والإرهاب على الصعيد العالمي، كان لعلوم الأدلة الجنائية والطب الشرعي (ومنها علم السموم الجنائي) دور كبير في الكشف عن الجرائم في التحقيقات القانونية. ومن أشهر أنواع السموم التي استخدمت خلال العقود الماضية، في عمليات الاغتيالات السياسية أو تصفية المعارضين (من جواسيس سابقين وإعلاميين وسياسيين) كجزء من الحروب بالسلاح البيولوجي، هي: البوتكس، وغاز أول أكسيد الكربون، والسيانيد، والريسين، وأكونتين، والزرنيخ، والبولونيوم، وأتروبين، والزئبق، والأكونيت، والدبوكس، وفينتالين. ويختلف أثر أو فعل كل من هذه المواد في الجسم.
في الختام، يتوسع مجال علمظ السموم الشرعي باستمرار، ويلاحظ أهميته ودوره المساعد في تحديد أسباب الوفاة الحقيقية، حيث يتحدى المجرمين ومتعاطي المخدرات وذلك بفك تشفير العينات لتحديد المعطيات الحالية والسابقة ذات الطبيعة الإجرامية. ومع توسع قائمة تعاطي المخدرات، تغطي مسؤولية اختصاصي السموم الشرعي مناطق جديدة وتصبح المنهجيات أكثر دقة مع مستوى أعلى من الحساسية وأدنى مستوى من عدم الدقة. وهذا أمر بالغ الأهمية لسلامة الفرد والمجتمع.