استشراف المستقبل: الكشف عن الأنماط والاتجاهات فـي المشهد الاجتماعي والاقتصادي فـي الكويت
أحدث الأبحاث في المجال الاقتصادي والاجتماعي في الكويت قد تساعد على إثراء نماذج مستدامة للتنمية الحضرية في المستقبل
تتطلع العديد من البلدان إلى تحقيق التنمية الحضرية المستدامة، لكن أحد العوائق الماثلة أمام تنفيذ ذلك هو تحديد أنماط استخدام الأراضي التي تساعد على التخطيط المستقبلي. تميل الكويت إلى الاعتماد الكبير على السيارات الخاصة، والامتداد العمراني المنخفض الكثافة، والاستخدام المحدود للأماكن العامة. هناك عامل آخر يميز قرارات التخطيط في الكويت وهو الفصل المكاني للسكان.
و أجريت دراسات حول هذا النوع من الفصل المكاني في الكويت في الماضي، لكن هذه الدراسات تعاملت في الغالب مع بيانات نوعية Qualitative data. يهدف مشروع جديد، أنجز بدعم من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، إلى الكشف عن نوع البيانات الكمية Quantitative data اللازمة لإعلام صناع القرار الكويتيين أثناء نظرهم في مستقبل التخطيط الحضري.
يتولى إدارة المشروع ضاري الرشيد من جامعة الكويت ونونو إف. دا كروز من كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية (LSE). ويندرج المشروع ضمن برنامج الكويت للتعاون الأكاديمي بإدارة مركز الشرق الأوسط التابع لكلية لندن للاقتصاد، بتمويل من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي.
ضاري الرشيد هو أستاذ مساعد في الاقتصاد في كلية إدارة الأعمال بجامعة الكويت، ويشمل نشاطه البحثي مجالات الاقتصاد الحضري والاقتصاد القياسي التطبيقي. وهو حاصل على درجة الدكتوراه والماجستير في الاقتصاد من جامعة كاليفورنيا، إيرفاين، والبكالوريوس في الهندسة الميكانيكية من جامعة ولاية أوريغون. منذ التحاقه بجامعة الكويت عام 2018، درّس المقررات التمهيدية والمتقدمة في برامج البكالوريوس والماجستير في الاقتصاد.
كان الهدف من هذا المشروع المحدد هو أن يقوم دا كروز، وهو باحث في الحوكمة الحضرية، والرشيد بتوحيد جهودهما على أن يستكمل كل منهما خبرات الآخر ومعارفه. قال الرشيد: “استخدمنا العديد من مقاييس الفصل الكمية، ويبدو أننا أول من يطبقها في الكويت، وربما في الخليج. لذلك نأمل أن يعزز هذا البحث الأدبيات البحثية المنشورة.”
كان الهدف الأولي للمشروع هو جمع بيانات للكشف عن طبيعة الفصل المكاني في الكويت، ويمكن استخدامها بعد ذلك أيضًا لاكتشاف المزيد حول عدم المساواة المكانية. قال الرشيد: “تبين أن حجم بيانات الفصل المكاني أكبر بكثير مما كنا نعتقد”. ونتيجة لذلك، فإن الهدف هو التركيز على عدم المساواة المكانية كمشروع للمستقبل. وأضاف: “بدا لنا أن من الطبيعي أن نفهم أولاً طبيعة الفصل قبل أن نتمكن من فهم عدم المساواة المكانية التي قد تنجم عن الفصل”.
بدأ المشروع باستخدام بيانات من التعداد السكاني جُمعت في سنة 2011. وقال الرشيد: “حدثت أمور كثيرة منذ ذلك الحين”. وبينما أنجز الإحصاء الأخير في الكويت خلال النصف الأول من عام 2023، فإن البيانات المكانية لم تُنشر بعد. لذلك، استخدم فريق المشروع مجموعة بيانات أخرى من الهيئة العامة للمعلومات المدنية في الكويت. والأهم من ذلك أن هذه البيانات جُمعت على مدار السنوات العشرين الماضية، على فترات تفصل بين كل منها خمس سنوات. قال الرشيد: “بناء على ذلك، تمكنا من الحصول على بيانات كمية بشأن الفصل، ومنحى تغيره بمرور الوقت، بدلاً من مجرد لقطة زمنية واحدة” .
كان التحدي الأكبر للمشروع هو إعداد البيانات الأولية قبل تفسيرها. في البداية، كان الرشيد يعتزم تعيين شخص لإعداد البيانات، لكن لم يتسنَ له ذلك بسبب عمليات الإغلاق أثناء جائحة كوفيد-19. للتغلب على هذه المشكلة، جمع الرشيد معظم البيانات بنفسه، إضافة إلى تعلم استخدام البرمجية الجديدة المطلوبة لإعداد البيانات.
أثرت الجائحة كذلك بطرق أخرى على المشروع الذي بدأ في نهاية عام 2019. بسبب القيود التي فرضت على السفر، لم يتمكن دا كروز من المجيء إلى الكويت لإجراء العمل الميداني كما هو مخطط له. قال الرشيد: “لقد انتهى بنا الأمر إلى تعيين باحثين محليين رئيسيين أنجزوا عملًا رائعًا، لكن الأمر ليس مثل أن يتولى الباحث الرئيسي العمل بنفسه”.
حتى قبل 20 عاماً، كانت الكويت تُصنف على أنها تعاني الفصلَ الشديد. ولكن المشروع كشف أن الفصل ازداد منذ ذلك الحين. قال الرشيد: “بينما يمكن تفسير ذلك جزئياً من خلال العزل الذاتي للعمال المؤقتين، فإن ذلك يرجع أيضاً إلى السياسات العامة”. إن اثنين من أكثر مقاييس الفصل شيوعًا هما مؤشر الاختلاف Dissimilarity index ومؤشر العزلة Isolation index. وهما يقيسان الكيفية التي يُوزع بها السكان عبر المكان، والكيفية التي يعانون الفصلَ بسببها. لكن هذا المشروع نظر أيضًا في ثلاثة مقاييس أخرى للفصل، للكشف عن تفاصيل أكثر بكثير مما توصلت إليه الأبحاث السابقة.
قال الرشيد: “نحن ننظر إلى مؤشرات الفصل الخمسة هذه مجتمعة، بدلاً من مجرد النظر إلى واحد منها، لرسم صورة كاملة عن وضع الفصل في الكويت. والاستنتاج الذي لا يمكن إنكاره هو أن الكويت تعاني الفصلَ إلى حد كبير، ربما بسبب مجموعة من السياسات والخيارات السلوكية أيضًا”.
يخضع تقرير المشروع للمراجعة حاليًا، ومن المتوقع نشره في نهاية عام 2023. وبما أن المشروع كشف عن الكثير من البيانات، فإن المرحلة التالية هي النظر في آثار هذا الفصل المكاني بمزيد من التفصيل. ويأمل الرشيد الكشف عما إذا كان التوزيع غير المتكافئ للسكان يرتبط بالتوزيع غير المتكافئ للموارد.
أنشأ المشروع قاعدة بيانات كبيرة يخطط الرشيد أيضًا لإتاحتها لمشاريع أخرى. وقال: “سيكون ذلك بمثابة تأثير غير مباشر أو فائدة أخرى ربما تتحقق بفضل هذا المشروع، من خلال إجراء مزيد من الأبحاث بتكلفة أقل بكثير”. وكان الجانب الإيجابي الآخر هو فرصة التعاون مع خبراء من تخصصات أخرى، لاسيما أن الرشيد هو أحد الاقتصاديين الحضريين القلائل في الكويت. وقال أيضًا إنه يعتبر نفسه ودا كروز من الباحثين المحظوظين لأنهما تمكنا من الحصول على تمويل من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي من خلال مركز الشرق الأوسط التابع لكلية لندن للاقتصاد. وأشار إلى الدور المكمل لكل من الباحثين منيرة الربيع وعبدالله الخُنيني اللذين عملا كمستشارين في المشروع. وقال “لولا مساعدتهما، لما تمكنا من إنجاز قسم كبير من العمل. عرفتهما شخصياً من قبل، لكن لم تسنح لي الفرصة للعمل معهما. … والآن أنا متحمس حقًا للعمل معهما في المستقبل”.
على الرغم من أن المشروع استغرق وقتًا أطول مما كان متوقعًا لإكماله، فإن الرشيد قال إنه استمتع بالفرصة التي أتيحت له لمعرفة المزيد عن وطنه: “بصفتي باحثًا كويتيًا تلقى تعليمه في الخارج، قللت من قدر ما يمكن معرفته وتعلمه عن الكويت وتاريخها … وسرني أن أتعرف من خلال هذا المشروع على جزء من تاريخ التنمية الحضرية في الكويت، وحالة المجتمع، وأين نقف عندما يتعلق الأمر بالتفاعل بين السكان الكويتيين والعدد الهائل من السكان غير الكويتيين الذين يشكلون جزءًا لا يتجزأ من المجتمع”.
بقلم إيما ستينهاوس
تصوير: عمر السيد عمر