العلوم البيئية

مياه الصرف الصحي.. منجم من المعادن الثمينة

تقنيات حديثة تركز على استخراج المعادن الثمينة من مياه الصرف الصحي بدلا من هدرها، وتسهم في الحد من الإضرار بالبشر والكائنات الحية الأخرى.

حسن الخاطر
كاتب علمي (السعودية)

يشهد العالم ثورة في ميدان التقنيات المستخدمة في معالجة مياه الصرف الصحي بهدف تحقيق أكبر استفادة ممكنة منها، ولاسيما استخراج المعادن الثمينة، لتتكامل مع التقنيات الموجودة منذ مدة طويلة، والتي تهدف إلى تنقية تلك المياه من الملوثات الضارة التي تسبب أخطارا كبيرة على صحة الإنسان وبقية الكائنات الحية.

 ومن أهم تلك المعادن الثمينة التي توجد في مياه الصرف الصحي معدن النحاس الذي يشهد طلبا كبيرا ولاسيما في قطاعي الطاقة والبناء، بسبب التنمية الاقتصادية المتسارعة والنمو السكاني الكبير، إضافة إلى سرعة انتشار المركبات الكهربائية. وهذا يعني أن الطلب المستقبلي أكبر بكثير مما يمكن الحصول عليه اليوم من المصادر المحدودة، الأمر الذي يدفع البشرية إلى تطوير تقنيات جديدة، والبحث عن مصادر أخرى لمواجهة التحديات التي تتعلق بالإمدادات المستقبلية. وتعتبر عملية استخراج النحاس من مياه الصرف الصحي إحدى هذه التقنيات الواعدة.

مياه الصرف الصحي

تعتبر مياه الصرف الصحي من الملوثات المسببة للأمراض والأوبئة، وتشكّل خطرًا حقيقيًا على البيئة؛ لاحتوائها على كميات كبيرة من الجراثيم والفيروسات، إضافة إلى وجود مستويات ضارة من المعادن الثقيلة السامة التي تشكّل تهديدًا حقيقيًا للأنظمة البيئية، ولها آثار صحية خطرة على البشر وبقية الكائنات الحية. وتسبب الكميات الكبيرة من هذه المعادن الثقيلة حين دخولها إلى جسم الإنسان خللا في وظائف الخلايا، وتدهورا تأكسديا للجزيئات الكبيرة البيولوجية، وفي النهاية يصاب الجسم بالتسمم.

  وهناك قلق عالمي من وجود النحاس بنسبة كبيرة في مياه الصرف الصحي، كما أن هناك مناطق عالمية تعتبر فيها المستويات المرتفعة من النحاس في المياه الجوفية مشكلة كبيرة، وهذا يجعل الوصول إلى المياه الآمنة أمرا محفوفا بالأخطار.

 وعلى الرغم من أهمية النحاس في الوظائف الفسيولوجية في جسم الإنسان فإن وجوده بكميات كبيرة وغير مقبولة أمر مضر له، فله انعكاسات سلبية على وظائف القلب واستقلاب الدهون، إضافة إلى التسبب في الالتهابات ومقاومة أدوية العلاج الكيميائي. ورُصدت العديد من حالات التسمم بالنحاس من خلال تناول مشروبات ملوثة بأملاح النحاس. ولما كان إنتاج النحاس سنويا يبلغ ملايين الأطنان في جميع أنحاء العالم، ومستخدما في معظم الصناعات، فإن الحفاظ على مستويات منخفضة من ملوثات النحاس في مجاري المياه أمر مهم للبشرية. وإضافة إلى الأنشطة البشرية فإن الدورات الجيوكيميائية (Geochemical Cycles) تساهم في وجود المعادن الثقيلة في المياه.

معالجة مياه الصرف الصحي

تعالج مياه الصرف الصحي وتعقم عبر سلسلة من العمليات الفيزيائية والبيولوجية والكيميائية، بهدف إزالة الملوثات الضارة والحصول على مياه آمنة لا تسبب ضررًا للإنسان والبيئة، ويمكن استخدامها في توفير احتياجات الزراعة والصناعة، إضافة إلى استخدامها للشرب في البلدان التي تعاني شحًا في المياه. من جانب آخر، تستخدم النفايات الصلبة التي تسمى الحمأة (Sludge) أو المواد الصلبة الحيوية للأغراض الزراعية كالتسميد، لكن أمكن في الآونة الأخيرة استخدام الحمأة كمصدر للوقود، وهي تقنية واعدة في تحويل الملوثات إلى طاقة، وذلك عن طريق فصل غاز الميثان منها عند ضغط ودرجة حرارة مرتفعين، واستخدامه بعد ذلك للحصول على الطاقة.

 وتمثل مياه الصرف الصحي مصدرًا للمواد العضوية والمغذيات كالفوسفور والنتروجين، وتحتوي على معادن مهمة كالنحاس والليثيوم والزنك. والتقنية المتبعة حاليا في معالجة مياه الصرف الصحي تتمثل في سحب كل شيء في وقت واحد بما في ذلك العناصر الغذائية والمعادن الثمينة، دون أن تقتصر على سحب الملوثات. لذا اهتم الباحثون باستخراج المعادن الثمينة منها بدلا من الاقتصار على المعالجة البيولوجية ولا سيما أن لتعدين النحاس المستخدم حاليًا آثارا سلبية هائلة على البيئة.

تقنية واعدة

في عام 2020، طور فريق من الباحثين في مختبر لورانس بيركلي الوطني التابع لوزارة الطاقة الأمريكية نموذجا أوليا من تقنية قادرة على استهداف وحبس أيونات النحاس فقط على المستوى الذري في مياه الصرف الصحي بدقة عالية وسرعة كبيرة. وهذه التقنية تستخدم مادة من نوع من الإسفنج البلوري Crystal Sponge. وسميت المادة الجديدة (ZIOS)، وهي مادة بلورية مستوحاة من الكيفية التي تختار بها الطبيعة الخلايا البكتيرية لمعادن معينة بهدف تنظيم عملية التمثيل الغذائي الخاصة بها.

وعندما توضع هذه المادة في الماء فإنها تنفتح وتسحب النحاس بدلا من الاستيلاء على كل شيء؛ نظرًا لحجم المسام ولزوجة مسام النحاس. وعند امتلاء هذه المادة بالنحاس يمكن الحصول عليه باستخراجه، مما يسمح بإعادة استخدام الإسفنجة البلورية مرة أخرى. وبدأ الباحثون باستهداف النحاس لسهولة ذلك ولخطورته الشديدة أثناء وجوده في الماء بتركيزات عالية. ويمكن تصميم المادة أيضًا بحيث تلتقط معادن أخرى في الماء مثل الليثيوم، وهو مادة أساسية لصنع البطاريات المستخدمة في السيارات الكهربائية وتخزين الطاقة المتجددة.

 وتشير دراسة الفريق الأمريكي إلى أن بإمكان محطات معالجة مياه الصرف الصحي استخدام مرشحات مصنوعة من مادة (ZIOS) التي يمكنها التقاط معادن مختلفة في وقت واحد، وفرز كل معدن في قناة مختلفة. وإذا طبقن التقنية على نطاق واسع فستصبح مصدرًا للمعادن بشكل مستدام.

كيف تعمل التقنية؟

تتكون (ZIOS) من قنوات صغيرة جدًّا على المستوى النانوي بنفس حجم جزيء الماء، وتبلغ 2 أنغستروم (الأنغستروم يساوي جزءا من عشرة بلايين جزء من المتر). وهذه المادة تتوسع عند غمرها في الماء بطريقة محددة ومنظمة، وهي عكس الإسفنج الذي يمتص الماء ويوسِّع هيكله في اتجاهات عشوائية، وهذا التوسع ناتج عن شبكة الروابط الهيدروجينية التي تُنشأ عندما تتفاعل (ZIOS) مع جزيئات الماء المحيطة.

   وعندما تتوسع هذه القنوات النانوية يمكن لجزيئات الماء أن تتدفق بحرية وعلى نطاق أوسع عبر هيكل المادة، وهنا يحدث تفاعل كيميائي يطلق عليه الترابط التنسيقي Coordination Bonding، يربط المادة بأيونات النحاس الموجودة في السائل. واختُبرت هذه المادة بالأشعة السينية لمشاهدة توسع القنوات النانوية، في حين تستخدم الأشعة السينية في علم البلورات نظرًا للطول القصير لموجتها الذي يقل عن المسافة بين الذرات المكونة للبلورة.

وأظهرت تجارب الأشعة السينية أن مادة (ZIOS) انتقائية جدا عندما ترتبط بأيونات النحاس في الماء الذي يحتوي على نفس مستويات الأس الهيدروجيني (PH) في المياه الحمضية، لذلك فهي مناسبة لتعدين مياه الصرف الصحي أو المياه الحمضية في مناجم النحاس. ويعود السبب في قدرتها على العمل في المياه الحمضية إلى متانتها.

 وذكر الباحثون أن قدرتها الانتقائية على اصطياد أيونات النحاس تصل إلى خمسين ضعفًا مقارنة بالتقنيات الحديثة الموجودة حاليًا، ومن ثم فهي أفضل مادة معروفة حتى الآن في قدرتها على امتصاص أيونات النحاس. وإضافة إلى سرعتها فإنها أقل تكلفة وتتميز بإعادة استخدامها دون استبدالها، كما أنها تكون مستقرة عند غمرها في الماء لمدة 52 يومًا، وعند إزالتها من الماء تعود إلى حجمها الأصلي في غضون نانوثانية واحدة، وهي مدة زمنية قصيرة جدًّا تساوي واحدا من بليون من الثانية.

وتعتبر هذه التقنية الأولى القادرة على إزالة أيونات المعادن الثقيلة بدقة عالية على المستوى الذري من مياه الصرف الصحي. وما زالت قيد التطوير لإزالة الملوثات الأخرى. ومع التطور التقني ربما نشاهد هذه التقنية الواعدة في مدن المستقبل على نطاق واسع. وهكذا ستصبح مياه الصرف الصحي السامة منجمًا للنحاس والمعادن الثمينة الأخرى!

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. السادة القائمين على مجلة التقدم العلمي تحية طيبة من الأعماق لكل ما تقدمونه في سبيل الإرتقاء بالعقل العربي في كل مكان ويسعدني ويشرفني أن أكون أحد المشتركين معكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

I agree to these terms.

زر الذهاب إلى الأعلى