علم الجينات والوراثة

كائنات الهندسة الوراثية المنتجة للتوهج الضوئي

ضرورة بحثية أم ترف علمي

د. وجدي عبد الفتاح سواحل

خطت الهندسة الوراثية خطوات واسعة، وفتحت مجالات لم يتيسر لها الدخول فيها من قبل، وأنجزت فتوحات غير مسبوقة حيرت العقول. ومن تلك الأمثلة الكائنات الطبيعية المضيئة والجينات المسؤولة عن إنتاج التوهج الضوئي ونقله إلى النباتات والأسماك بغرض استخدامها في زيادة الإنتاج الزراعي أو كمصدر للإضاءة المنزلية أو الزينة، وكذلك نقل الجينات المضيئة إلي الحيوانات مثل القطط والكلاب والأرانب والأغنام والقرود لتحويلها إلى كائنات معدلة وراثيا منتجة للضوء، يمكن استخدامها كمصانع لإنتاج الأدوية ونماذج لإجراء التجارب لعلاج أمراض البشر.

الكائنات المتوهجة الطبيعية

يوجد العديد من الكائنات الحية المنتجة للتوهج الضوئي. وتشمل هذه الكائنات البكتريا والفطريات والحشرات والأسماك والحيوانات البحرية التي يعيش بعضها على سطح الأرض، وبعضها الآخر في أعماق البحار والمحيطات.

وتتم عملية الإنارة الحيوية لإنتاج التوهج الضوئي نتيجة تفاعل كيميائي يتم بداخل الكائنات الحية المنتجة للضوء. ففي الدودة المضيئة والكائنات البحرية الشبيهة يحدث تحول بطيء في الطاقة الكيميائية بواسطة الأكسدة أثناء عملية التنفس، فتتحول إلى طاقة مضيئة يتم عكسها إلى توهج بواسطة الطبقة العاكسة التي تقع خلف الطبقة المولدة للضوء.

ويستخدم هذا الضوء كوسيلة من وسائل الاتصالات بين أفراد النوع الواحد للتجمع، أو التزاوج، أو عند القتال، أو تستخدم كمصيدة لصيد الفريسة أو لشل حركتها.

والتوهج الضوئي الناتج من الكائنات الحية يطلق عليه الضوء البارد، إذ لا ينتج عنه وجود عادم يتحول إلى حرارة مفقودة وغير مستغلة وضائعة، كما يحدث في عملية إنتاج الضوء الصناعي.

التلاعب بجينات الضوء

الجديد في علوم البيولوجيا لا يصدقه عقل؛ فالخيال العلمي أصبح حقيقة حيث نجح العلماء للمرة الأولى في التاريخ في التحكم بمادة الحياة، وهي الجينات، ومن ثم التحكم في الصفات الوراثية للكائنات.

فقد أصبح الإنسان يمتلك الوسيلة لأن يطوع المخزون الوراثي الكامن في جميع الكائنات الحية، سواء كانت نباتات أو حيوانات أو كائنات دقيقة بما يرضي طموحاته، أي إن الأطقم الجينية أو التراكيب الوراثية لصور الحياة المختلفة يمكن أن توضع علي مائدة العمليات الوراثية لتصبح مطواعة للجراحة الوراثية لاستحداث تباينات في الجينات المعروفة؛ بهدف تغيير وظائفها البيولوجية عن طريق إضافة جينات تحمل صفات وراثية جديدة ومرغوبة، أو إزالة جينات تحمل صفات وراثية غير مرغوبة، أو تعديل عمل وكفاءة جينات تحمل صفات وراثية مرغوبة. وكل ذلك يؤدي إلى تبديل الإمكانات الوراثية للكائن الحي.

ومن هنا يتضح أن الهندسة الوراثية تعتمد اعتماداً كلياً على التراكيب والأطقم الجينية الموجودة في الموارد الوراثية الطبيعية؛ أي إنه لا توجد هندسة وراثية من دون مصادر وراثية. وتعتمد الهندسة الوراثية على مجموعة من العمليات وهي التحكم في الجينات وإعادة تركيب المادة الوراثية والاستنساخ الحيوي.

وتتمثل عملية إنتاج الكائنات الحية المعدلة وراثياً المنتجة للضوء في البحث عن الجينات المرغوب فيها من الموارد الوراثية، ثم عزلها ونقلها إلى الكائن المطلوب تعديله. يلي ذلك دراسة قدرة الجينات المنقولة على التعبير والثبات الوراثي في الكائن الجديد.

وبناء على ذلك اقتبس علماء الجينات فكرة الضوء البارد من الكائنات الحية المنتجة لها لإجراء تعديلات وراثية لإكساب الكائنات غير المنتجة للضوء القدرة على إنتاجه عن طريق نقل الجينات المسؤولة عن ذلك إليها.

دراسات متنوعة

مرت دراسة الكائنات الطبيعية المضيئة والجينات المسؤولة عن التوهج الضوئي بعدد من الاكتشافات التي كان لها الفضل في إنتاج العديد من النباتات والحيوانات المعدلة وراثياً المنتجة للضوء. وفيما يأتي أهمها:

1492 : الرحالة الأمريكي كريستوفر كولمبس يرصد توهجا حيويا في المياه حول السفينة، وتم تفسير ذلك بخرافة على أنه دليل على وجود «وحش في الأعماق يضيء».

1600 : أولى المحاولات العلمية على تفسير الضوء البارد في الكائنات الحية المضيئة.

1998 : استخدام البروتين الأخضر المتوهج كمؤشر للتعبير الجيني في الكائنات المعدلة وراثياً.

1999: – اقتراح مشروع علمي لإنتاج شجرة طبيعية معدلة وراثيا ومنتجة للضوء.

– إنتاج الفأر ذي التوهج الأخضر المعدل وراثياً.

2001 : إنتاج يرقات دودة اللوز القرنفلية المعدلة وراثياً ذات اللون الأخضر بواسطة مادة بروتينية متوهجة خضراء مستخلصة من السمك الهلامي Jelly fish .

2003: الموافقة على طرح سمك الزينة المعدل وراثياً المضيء للاستخدامات المنزلية في أمريكا والمعروف باسم GloFish

2007 : إنتاج بعوض معدل جينياً لمقاومة الملاريا ذي أعين تضيء بوميض أخضر مما يسهل فرز الحشرات بسهولة.

– استنساخ قطط تضيء في الظلام.

2008 : بداية تجارب الهندسة الوراثية لإنتاج النباتات المضيئة.

2009 : إنتاج قرود قزمية معدلة وراثيا تحمل صفة التوهج باللون الأخضر لمحاربة الأمراض العصبية.

2011 : إنتاج قطط معدلة وراثياً ومضيئة لاستخدامها في تجارب معالجة الإيدز.

2013 : إنتاج أغنام معدلة وراثياً ومضيئة.

الكائنات المعدلة

الكائنات المعدلة وراثياَ المنتجة للضوء من نباتات الإضاءة إلى الحيوان الأخضر متعددة ومنها:

(أ) النباتات المضيئة: 

نباتات للإضاءة المنزلية: استطاع العلماء إنتاج أول نبات مضيء، وهو نبات التنباك «starlight avatar» المعدل وراثياً عن طريق نقل الجينات المسؤولة عن التوهج الضوئي من أحد أنواع البكتريا البحرية التي تنتج حولها ضوءا ذاتيا. ويعتبر هذا النبات مناسباً للإضاءة فقط للاستعمال المنزلي الداخلي، ويملك النبات فترة عمر متوسطة تبلغ نحو ثلاثة أشهر.

ويعمل العلماء على زيادة ناتج الضوء من النبات، ويأملون أن يطوروا أنواعاً تعطي الضوء الأصفر الدافئ والأحمر؛ لأنها ستكون ظاهرياً أنسب للاستعمال المنزلي.

وتشير الدراسات العلمية إلى أنَّ إنتاج النباتات التي يمكن أن تحل مكان المصابيح الكهربائية يتوقف على قدرة النبات على إنتاج الطاقة اللازمة للإضاءة من دون تأثير على الطاقة التي يحتاج إليها النبات للنمو، وأن الشجرة التي تغطي مساحة 100 متر مربع يمكن أن تصدر ضوءاً يعادل ضوء أحد المصابيح المستخدمة في إضاءة الشوارع.

لكن هناك تخوفاً من استخدام النباتات المعدلة وراثياً في إضاءة الشوارع؛ إذ يمكن أن تؤدي إلى انتشار واسع عشوائي للبذور المعدلة وراثياً، وما يمكن أن يصاحب ذلك من مشكلات بيئية وصحية. كما أن هناك قلقاً من الاستعاضة عن الطاقة الضوئية التقليدية وما ينتج عنها من تلوث بيئي بأخطار أخرى قد تنتج من استخدام النباتات في الإضاءة.

بطاطا.. إشارات ضوئية: استطاع علماء المورثات النباتية إنتاج بطاطا تتوهج في الظلام عند حاجتها إلى الماء عند العطش، وهو أول نبات محصولي ذي أهمية اقتصادية قصوى يعدل وراثياً لإنتاج التوهج الضوئي في الظلام.

وتم ذلك عن طريق نقل جين ينتج بروتيناً متوهجاً يسمى جي إف بي (GFP). ويتوهج هذا البروتين حال تعرض النبات للضغوط والإجهاد البيئي. وتم عزل جين (جي إف بي) من قنديل البحر المضيء (أيكوري فيكتوريا) الذي يتوهج عادة عند شعوره بالخطر.

ويُرى الوهج الصادر عن البطاطا بصعوبة بالعينِ المجردة، لكن يُمكنُ أَنْ يظهر الوهج جلياً باستخدام جهاز صغير يُحمل باليد، مما يعضد استخدام مثل هذه النباتات كجهاز إنذار وكناقوس للحماية من الأخطار الناجمة عن مثل الأمراض.

نبات مصاص ضوء الشمس: استطاع العلماء إنتاج العديد من النباتات عن طريق تعديل التركيب الوراثي للنباتات لمساعدتها على امتصاص المزيد من ضوء الشمس وثاني أكسيد الكربون. وتساعد هذه النباتات علي امتصاص مليارات الأطنان من الكربون من الجو، في مسعى لمواجهة آثار ظاهرة الاحتباس الحراري وزيادة الإنتاجية عن طريق تحسين كفاءة عمليات التمثيل الضوئي.

(ب) الحيوانات المضيئة: 

استنساخ الكلب «سنابي» ذي التوهج الضوئي: استطاع علماء في كوريا الجنوبية استنساخ أربعة كلاب معدلة وراثياً عن طريق نقل جينات فلورية مضيئة إليها، مما يجعلها تتوهج باللون الأحمر في الظلام عند تعرضها للأشعة فوق البنفسجية.

ويستهدف العلماء من استنساخ هذه الكلاب المضيئة استخدامها في اختبار طرق العلاج الجديدة لأمراض التشوهات الجينية في البشر مثل مرض باركنسون (الشلل الرعاش)، إذ تصاب الكلاب بالأمراض الجينية نفسها التي يصاب بها الإنسان.

استنساخ قطط مضيئة: استطاع علماء في كوريا الجنوبية استنساخ قطتين تشعان باللون الأحمر عندما تتعرضان للأشعة فوق البنفسجية، من أجل استخدامهما في معالجة الأمراض الوراثية.

ويتم ذلك عن طريق أخذ خلايا من جلد قطة وإدخال جين فيها – يفرز بروتينا أحمر فلوريا يجعلها تتوهج وتشع عندما تتعرض للظلام- قبل زرع الخلايا الجينية المعدلة في البويضات. وهي تقنية متطورة تعني امكانية إدخال جينات أخرى خلال عملية الاستنساخ، مما يمهد الطريق أمام إنتاج قطط مختبرية تحمل أمراضاً وراثية بما في ذلك تلك التي تصيب البشر، مما يساعد على تطوير علاجات جديدة.

إنتاج أدوية من الأرانب: استطاع العلماء إنتاج أرانب تحوي جين البروتين الفلوري الأخضر، وذلك في مسعى لإنتاج الأدوية من الحيوانات المعدلة وراثياً بتكلفة قليلة؛ حيث أدخل العلماء أجزاء من الحمض النووي الخاص بقنديل البحر – جين البروتين الفلوري الأخضر – إلى أجنة أرانب تم إخراجها من رحم أرنبة حامل، ثم أعادوا تلك الأجنة المعدلة إلى رحم الأم لاستكمال نموها.

والغرض الأساسي من هذه التجربة هو اختبار إمكانية إدماج جزء من حمض نووي غريب بالمادة الوراثية للأرنب. ووقع اختيار العلماء على جين البروتين الفلوري الأخضر في تلك التجربة لسهولة اقتفاء أثره والتأكد من نجاح التجربة.

قرود قزمية معدلة لمحاربة الأمراض العصبية: استطاع علماء الجينات تطوير مجموعة من قردة «قزم القش الأمريكي» عن طريق نقل الجين المسؤول عن إنتاج البروتين الفلوري الأخضر، بحيث أصبحت أقدام هذه القردة الصغيرة المعدلة جينياً متوهجة بلون أخضر فلوري في الظلام حال تعرضها لضوء فوق بنفسجي.

وتم إنتاج تلك القردة الفريدة من نوعها عبر تحميل جين البروتين الفلوري الأخضر على فيروسات تم حقنها بأجنة قرود “قزم القش الأمريكي”، ثم نقل تلك الأجنة المعدلة وراثياً إلى أرحام أمهات بديلة لتنمو بها حتى تخرج إلى عالمنا بصفة جديدة لم توجد في تلك القردة من قبل.

وأوضح العلماء أن الهدف من إنتاج تلك القردة المتوهجة باللون الأخضر هو إثبات إمكانية تعديل الشفرة الوراثية لحيوانات من فئة الرئيسيات عبر إدخال جينات جديدة عليها، لاستخدامها في إجراء تجارب لفهم وعلاج الأمراض المتعلقة بالجهاز العصبي، مثل الشلل الرعاش والخرف.

(ج) كائنات دقيقة مضيئة

بكتريا مضيئة لمعالجة السرطان: استطاع العلماء إنتاج نوع من البكتريا له قابلية الإضاءة لفترة معينة داخل جسم الإنسان عن طريق نقل جين من نوع من اليراعات (حشرات مضيئة) إليها. وحقن العلماء هذه البكتريا المعدلة وراثياً في الفئران المختبرية، وتم ملاحقة انتشارها وتركزها في الأورام السرطانية باستخدام كاميرا خاصة لرصد الضوء الضئيل الذي ينطلق منها.

وتمكن العلماء أيضاً من تزويد البكتيريا المعدلة، علاوة على جين اليراعات، ببروتين معين يعمل بمنزلة «مفتاح كهربائي» بحيث لا يعمل إلا في الخلايا التي تحتوي على هذا البروتين، أي في الخلايا السرطانية التي تسللت البكتيريا المعدلة إلى داخلها. وهكذا يمكن للأطباء السيطرة على العقار الكيميائي و«تسديده» بدقة إلى الهدف، أي إلى الخلايا السرطانية فقط.

وأوضح العلماء أنهم بهذه الطريقة تمكنوا من الكشف المبكر عن أورام سرطانية يقل قطرها عن مليمتر واحد. وثبت أن البكتيريا تتمتع بحساسية عالية تجاه الأورام السرطانية مما يجعلها أفضل من عمليات العلاج الكيميائي للأمراض السرطانية.

(د) سمك مضيء: استطاع العلماء في جامعة تايوان الوطنية إجراء تعديل وراثي لسمكة استوائية صغيرة يطلق عليها سمكة الزرد «الحمار الوحشي» بحيث تضيء بوهج أحمر عن طريق نقل جين من مرجان البحر. وتمتاز السمكة بأنها لامعة جداً في وجود أي نوع من الضوء وفي ضوء الأشعة فوق البنفسجية.

وأوضح العلماء أن هذه السمكة المضيئة المعدلة وراثياً تعتبر آمنة وعقيمة لا يمكن تهجينها مع سمك طبيعي، علاوة على أن جيناتها المتوهجة الإضافية غير ضارة.

علم أم عبث علمي

وفي النهاية نرى أنه في الوقت الذي ينظر فيه العلماء إلى أن إنتاج الحيوانات المعدلة وراثياً ذات الخضرة المتوهجة تمثل ضرورة بحثية وتقنية، حيث تعتبر أملاً جديداً لعلاج أمراض البشر وطريقاً لفهم أوسع لعدد من الأمراض المستعصية، ومصدر علاجات جديدة، ومصانع لإنتاج أدوية عديدة، فإن الكثير من العلماء ينظرون إلى النباتات والأسماك المعدلة وراثياً المنتجة للتوهج الضوئي لغرض الزينة وكمصدر للإضاءة المنزلية على أنها ترف أو عبث علمي قد يؤدي إلى أخطار بيئية وصحية.

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

I agree to these terms.

زر الذهاب إلى الأعلى