الطب وصحةوباء الكورونا

قصة الفيروسات .. 3 رواد أسهموا في اكتشافاتها المذهلة

د. إسلام حسين
باحث في مجال الفيروسات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، (الوريات المتحدة)

يعتبر أواخر القرن التاسع عشر العصر الذهبي لعلم الميكروبيولوجيا (علم الأحياء المجهرية)، إذ شهد اكتشافات كثيرة عن بعض أنواع المكروبات، وتحديدا البكتيريا والفطريات. وأدت هذه الاكتشافات إلى تكوين نظرية شمولية عن الميكروبات، تعرف بنظرية الجراثيم germ theory، التي بنيت على معلومات توفرت لدى العلماء في ذلك الوقت.
افترضت هذه النظرية توفر بعض الخصائص في أي مسبب مكروبي لمرض معد، منها ضرورة رؤيته بواسطة المجهر الضوئي، وزراعته في وسط غذائي في أطباق بتري Petri dish، وعدم استطاعته العبور من خلال ثقوب صغيرة كانت موجودة في بعض أنواع المرشحات (الفلاتر) المتوفرة حينذاك. واستنادا إلى ذلك، فإذا لم تنطبق أي من هذه الخصائص على أي مسبب لمرض معد فلا يصنف كمكروب.
ونظراً لأن الفيروسات تتميز بصغر حجمها، ومن ثم لم تكن مرئية تحت المجهر الضوئي، فقد مكنها هذا الحجم الصغير من العبور من خلال ثقوب المرشحات التي لم تسمح بعبور البكتيريا. إضافة إلى ذلك، لا تستطيع الفيروسات النمو في الأوساط الغذائية التي استخدمها العلماء لاستزراع البكتيريا في المختبرات؛ لأنها، من أجل التضاعف، تعتمد بصورة تامة على خلايا العائل. لذا مر القرن التاسع عشر بكامله دون أن يتمكن العلماء من اكتشاف الفيروسات.

ثلاثة رواد
هناك ثلاثة من علماء النبات نستطيع أن نصفهم بالآباء المؤسسين لعلم الفيروسات. علماء نبات! نعم كان هذا الفرع من العلوم سببا في اكتشاف الفيروسات كمسببات مرضية؛ لأن أول فيروس اكتُشف كان يسبب مرضا لنبات التبغ. وكل من هؤلاء الثلاثة توصل إلى نتيجة مهمة، أدت مع نتائج الآخرين إلى التوصل إلى مفهوم الفيروس بمعناه الحالي.
وأول هؤلاء العلماء هو العالم الألماني إدولف ماير Adolf Mayer الذي تركرت أبحاثه في هولندا على مرض يصيب أوراق نبات التبغ ويؤدي إلى تغيير لون الورقة من الأخضر الطبيعي إلى لون مبرقش ما بين الأخضر الفاتح أو الأصفر. وتسبب هذا المرض في خسائر كبيرة لمحصول التبغ، الذي كان يدر على الهولنديين مبالغ كبيرة في ذلك الوقت. وأطلق على هذا المرض مرض تبرقش أوراق التبغ tobacco mosaic disease ، لكنه كان مجهول السبب.
وفي عام 1879، طحن ماير أثناء إجرائه إحدى التجارب أوراق نبات مصاب، ثم حقن عصارة الطحن في أوراق نبات سليم. وكانت المفاجأة أن المرض انتقل إلى النبات السليم. وتعتبر هذه التجربة أول تجربة انتقال عدوى فيروسية في التاريخ. وعلى الرغم من انتقال المرض، فإن ماير فشل في عزل أي نوع من البكتيريا أو الفطريات من العصارة النباتية. ولذلك حينما عرض هذه النتائج المذهلة على أقرانه، اعتقدوا أن هناك خطأ فنيا في خطوات التجارب التي أجراها ماير.
وفي عام 1892، حاول العالم الروسي ديمتري إيفانوفسكي Dimitri Ivanovsky إعادة تجارب ماير مرة ثانية، لكنه أضاف خطوة أخرى. بعد الحصول على عصارة أوراق النبات المريض المطحونة، مررها في مرشح (فلتر) يحول دون مرور البكتيريا، ثم حقنها في نبات سليم آخر. مرة أخرى، كانت المفاجأة هي ظهور أعراض المرض على النبات السليم! لكنه واجه التحديات نفسها التي واجهها ماير حينما فشل في عزل أي نوع من أنواع البكتيريا، وقوبلت نتائجه بالشكوك نفسها من المجتمع العلمي حول إمكانية تلف المرشح المستخدم في تجاربه. ولما عجز عن تفسير نتائجه أو إقناع أقرانه بأن السبب وراء هذا المرض الذي يصيب نبات التبغ هو مسبب مكروبي، فقد افترض أن السبب ربما كان نوعا من أنواع السموم. ولأن مفردة ”سم“ يقابلها في اللغة اللاتينية كلمة فيروس virus، فقد اصطلح على تسمية هذا المسبب الغامض وراء مرض تبرقش التبغ بالفيروس، والمفارقة هي التصاق هذه التسمية بهذا المكروب حتى الآن.
أما العالم الثالث فهو العالم الهولندي مارتينس بيرنكMartinus Beijerinck، الذي أنجز في عام 1898 خطوة جديدة مهمة على تجارب سابقيه. بعد الحصول على عصارة النبات المريض، خففها في محاليل متعادلة، ثم حقنها في نبات سليم. فوجئ بيرنك بأن العصارة المخففة تستعيد تركيزها الأصلي قبل التخفيف بعد الحقن. وأشارت هذه التجربة إلى نتيجة مفادها أن هذا المسبب المرضي قادر على التكاثر، مما يوحي بأنه ليس بمادة كيميائية أو سم، لكنه مسبب مكروبي معد وقادر على المرور من ثقوب المرشحات التي تمنع مرور البكتيريا. إضافة إلى ذلك، فهو قادر على التكاثر في الخلايا الحية، لذا أطلق عليه بيرنك اسمContaguim vivum fluidum، لكن كلمة فيروس كانت على الرغم من عدم دقتها أقصر وأسهل، لذا صارت شائعة الاستخدام.
واستمر الجدال في المجتمع العلمي حول طبيعة الفيروسات إلى أن اخترع المجهر الإلكتروني سنة 1938، الذي مكننا من التقاط أول صورة حقيقية لفيروس تبرقش أوراق التبغ. وهكذا أسهمت سلسلة من الصدف العلمية السعيدة في اكتشاف واحد من أهم المكروبات التي ساهمت في تشكيل تاريخ البشرية من خلال الأمراض والأوبئة التي تسببها.

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لكم كل التحية و التقدير مواضيعكم ثرية و تساهم في نشر المادة العلمية باللغة العربية بارك الله على كل ما تبداونه من جهد في خدمة العلم و المعرفة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

I agree to these terms.

زر الذهاب إلى الأعلى