على امتداد أكثر من عشر سنوات، درس فهد الملا، أستاذ الطب الجيني في جامعة الكويت، والباحث ورئيس قسم علم الوراثة والمعلوماتية الحيوية في معهد دسمان للسكري جينوميات الأورام السرطانية الشائعة لدى الكويتيين أملاً في إنشاء إطار للطب الشخصي Personalized medicine. فقد حدّد فريقه عدة جينات يختل عملها في الخلايا السرطانية، وهم يعملون على فهم الكيفية التي ترتبط بها هذه التغيرات بتطور أورام ثانوية خبيثة في مواقع أخرى. يقول الملا: “يعتقد الناس في الكويت أن السرطان مرض شائع، لكن المعدلات هنا في الواقع أقل من المتوسط”. ويتابع قائلا
“إن نحو %30 من حالات الإصابة ترجع إلى عوامل وراثية. على سبيل المثال، ينتشر سرطان القولون بين أفراد عائلات معينة، وهذا يساعد على سرعة تحديد الجينات والتنويعات Variants المرتبطة بالمرض”. وبمجرد تحديدها، يمكن استخدام هذه التنويعات في برنامج فحص Screening program للكشف عن السرطان في مراحله المبكرة أو التنبؤ بمسار تقدم المرض.
ومعظم البيانات الجينية جُمعت من أشخاص من ذوي أصول أوروبية، والنتائج التي تستند إلى هذه البيانات يصعب تطبيقها على سكان من أصول أخرى مختلفة. لذا تهدف أبحاث الملا إلى تحسين فهم التنويعات الجينية الوراثية المرتبطة بالسرطان لدى الكويتيين بشكل خاص.
بناء شبكة جينومية واسعة
بدأ الملا حياته المهنية اختصاصيا في علم أمراض الخلايا قبل أن يتحول إلى علم الجينوميات Genomics للحصول على منظور أوسع حول كيفية عمل الخلايا من الداخل. ويوضح قائلاً: «اعتقدت أن رؤية الأمور من عُلو يمكن أن تساعدني. فرأيت أن بإمكاني استخدام الجينوميات لإيجاد التنويعات الجينية التي تحدد المسارات الرئيسية، ثم اختيار ما يبدو أكثر وعداً منها والتعمق فيها من جديد لتوصيف وظائف تلك الجينات أو البروتينات». باستخدام المصفوفات الدقيقة Microarrays والتقنيات السلسلة الحديثة عالية الإنتاجية بحث الملا وفريقه عن التنويعات الجينية المرتبطة بالسرطان لدى الكويتيين.
الملايين من الاختلافات الوراثية الصغيرة تجعل من جينوم كل شخص متميزًا. ومعظم ذلك هو مجرد تباين وراثي طبيعي، ولكن بعضها ضار. يقول الملا: «يحمل كل واحد منا ما لا يقل عن 600 إلى 1,000 تنويع سيئ بالفعل، ونحن لا نعرف ماذا تعني هذه التنويعات».
لمعرفة التنويعات المرتبطة بأمراض مثل السرطان، يجمع الباحثون بين بيانات الجينوم وسجلات الرعاية الصحية. ويتضمن التحليل عملاً إحصائيًا استقصائياً دؤوباً، لكن التحدي الحقيقي يكمن في بناء مجموعة واسعة بما يكفي من البيانات، لأن البيانات الجينية المتوفرة حالياً لا تمثل بالضرورة السكان الكويتيين. يتذكر الملا أن الأسر الكويتية التي شخص لديها السرطان كانت تحمل فقط أربعة من أكثر من 850 تنويعا ذا صلة بالسرطان حددها ائتلاف (كونسورتيوم) دولي في عام 2018، وهو ما يسلط الضوء على حقيقة مفادها أن تنويعات أخرى ربما تكون أكثر أهمية في حالة الكويتيين.
ويوضح الملا: «هذا مهم جدا؛ لأن تنويعا شائعاً في الكويت قد يكون نادرًا جدًا في الولايات المتحدة الأمريكية أو أستراليا … ويتعين علينا إنشاء قواعد بيانات ذات تنويعات محلية محددة لكل مجموعة سكانية، ويجب أن تتوفر القدرة محلياً لدراسة هذه التنويعات».
استخدم فريق الملا الجينوميات الكويتية وبيانات الرعاية الصحية لتحديد العلامات الوراثية المرتبطة بالسرطان لدى الكويتيين، مع التركيز بشكل خاص على السرطانات العدوانية. ويتمثل هدفه طويل الأجل في إنشاء منصة طبية مخصصة للكويتيين. ويقول: «أركز كل جهودي حاليا على الوقاية»، موضحًا أن الاكتشاف المبكر ربما يسمح بالتدخلات الجراحية أو غيرها من الإجراءات للتقليل إلى حد كبير من خطر الإصابة بالشكل الخطير من المرض. ويضيف «أريد التنبؤ بالأمراض والوقاية منها، أكثر من التركيز على معالجتها».
الغوص لأماكن أعمق
إضافة إلى تحديد العلامات Markers التي يمكن فحصها، يعمل الملا على إيجاد تنويع جيني يؤثر في كيفية تقدم السرطان. يمكن استخدام هذه العلامات لتحديد المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالانبثاث Metastasis أو الانتكاس Relapse وقد يحتاجون إلى مراقبة أو علاج إضافي، مع تجنيب المرضى الأقل خطورة الآثار الجانبية المحتملة للعلاجات الوقائية.
في دراسة أجريت عام 2006، فحص فريق الملا تأثير الجين RKIP على سرطانات القولون والمستقيم. تبين بالفعل أن الجين RKIP يثبط الانبثاث في سرطان البروستاتا وسرطان الثدي وسرطان الجلد. يُعد سرطان القولون والمستقيم من بين الأسباب الرئيسية للوفاة بسبب السرطان، مع ارتفاع في معدلات الإصابة به في البلدان الصناعية، ومن شأن العلامات التي تساعد على تصنيف المرضى إلى فئات علاجية مختلفة أن تحسِّن إدارة المرض بشكل كبير.
باستخدام عينات مرضى من المملكة المتحدة والكويت، وجد الملا أن مستويات بروتين RKIP كانت أدنى في أورام سرطان القولون والمستقيم المنتشر وفي المرضى الذين انتكسوا. يقول الملا: «إذا عُثر على تعبير للجين RKIP في ورمك، فهذا يعني أنه من غير المحتمل أن ينتشر، والأرجح أن يستجيب السرطان للعلاج».
ذهب الملا إلى ما هو أعمق من ذلك، من خلال العمل على فهم الكيفية التي يؤثر بها الجين RKIP في تطور السرطان. كان من المعروف أن الجين RKIP يؤثر في مسار إشارة العامل النووي المعزز لسلسلة كابا الخفيفة في الخلايا البائية النشطة NFκB الذي ينظم موت الخلايا وغيرها من العمليات التي قد تؤثر في تطور السرطان. اكتشف فريق الملا أن RKIP يساعد أيضًا على الحفاظ على البروتين GSK3β في شكله النشط. عندما يكون البروتين RKIP متدنياً أو غير موجود، تنخفض مستويات البروتين GSK3β النشط وتنشط هوية الخلية Cell identity وجينات الانتشار التي يثبطها الإنزيم GSK3β عادة.
تشير التجارب أيضًا إلى أن البروتين RKIP لا يؤثر بشكل مباشر في قدرة الخلية على الانتقال مثلما كان يُعتقد سابقًا. تكون الخلايا عادة ضمن شبكة ثلاثية الأبعاد من البروتينات والجزيئات الأخرى تُعرف باسم المصفوفة أو النسيج البيني خارج الخلية Extracellular matrix. وتكون الخلايا ذات مستويات البروتين RKIP المنخفضة أفضل في الارتحال في وجود النسيج البيني خارج الخلية، ولكن عندما تنمو في مستنبت ثنائي البعد يفتقر إلى مثل هذا الحاجز، فإنها لا تنحو إلى الارتحال أكثر مما تفعل الخلايا الطبيعية. وكشف المزيد من العمل أن هذا يرجع إلى أن البروتين RKIP يثبط الإنزيمات التي تفكك النسيج خارج الخلية، المعروفة باسم المصفوفة ميتالوبروتينيزيز Matrix metalloproteinases (اختصاراً: المصفوفة MMPs). عندما تكون مستويات البروتين RKIP أدنى، يزداد نشاط إنزيمات المصفوفة MMPs وتنهار المصفوفة، ممكِّنة الخلايا من الانتقال بحرية أكبر. بفضل منحة جديدة من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، يخطط الملا لتقصي كيفية عمل الشبكة حول الجين RKIP وإنزيمات المصفوفة MMPs في ورم خبيث. يقول الملا: «منذ بداية مسيرتي المهنية، كان من الواضح لي على الدوام أن الأمراض تحدث في الأساس نتيجة لجزيئات ومسارات مختلة وظيفيًا». من خلال تحديد هذه الجينات والمسارات ووضعها في سياقها الصحيح في الجينوم والخلية، وسَّعت أعماله فهمنا للسرطان ودلت على الطريق المحدد نحو الوقاية من الإصابة بالمرض وإدارته بناءً على التكوين الحيوي للفرد واحتياجاته.