د. حسام الشريف

نبتكر في تخزين الطاقة لخدمة البشرية

من محل صغير لصنع الخزف والفخار وشيّ السيراميك في مدينة الخليل الفلسطينية انطلق الفتى حسام الشريف ليتقن أساسيات تلك المهنة التي مارسها آباؤه وأجداده، ثم يحلق بإمكاناته المهنية ودراساته العليا في الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية إلى آفاق الإبداع والابتكار في علم المواد ليصبح أحد الباحثين العالميين المتخصصين في ذلك العلم الحيوي، وأحد الأكاديميين الذين يستشهد بدراساتهم المعمقة في شتى أنحاء العالم.

وشغف ذلك الباحث بمهنة الآباء والأجداد دفعه إلى أن ينطلق إلى الولايات المتحدة بعد أن أنهى مرحلته الثانوية في فلسطين، ليحط في رحاب كلية نيويورك للسيراميك التابعـة لجامـعة ألفـريـد Alfred University حـيـث نال درجة البكالوريوس في هندسة السيراميك، ثم تابع طموحه العلمي لينال درجة الماجستير في علوم وهندسة المواد من جامعة ولاية كارولينا الشمالية North Carolina State University بالولايات المتحدة، ثم ينال الدكتوراه في ذلك التخصص من الجامعة نفسها.

تخصص في علوم وهندسة المواد بالولايات المتحدة وعمل في شركات عالمية وحط رحاله في رحاب جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية أكاديميا وباحثا متميزا

وعقب التخرج بدرجة الدكتوراه توجه الدكتور الشريف ليعمل زميلا ما بعد الدكتوراه في مختبرات سانديا الــوطــنـيـة Sandia National Laboratories بالـولايـات المتحدة. ثم أمضى السنوات العشر التالية في العمل في قطاع صناعة أشباه الموصلات في عدد من الشركات الـكـبرى، مـثـل مايـكرون تكـنــولـوجي Micron Technology، وتكساس إنسترومنتس Texas Instruments. وبعد عامين من انـضـمامـه إلى هـيـئة التـدريـس في جـامـعة تـكساس University of Texas بدالاس، انـتـقل الـدكتـور الـشريف إلى الوطن العربي في عام 2009 ليعمل في قسم العلوم والھندسة الفیزیائیة بجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (KAUST) في المملكة العربية السعودية.

الطاقة المتجددة وأزمة المناخ

يقول الدكتور الشريف الحاصل في عام 2018 على (جائزة الكويت) التي تمنحها مؤسسة الكويت للتقدم العلمي (KFAS) إنه عبر تاريخ البشرية الممتد قرونا عديدة، كان الإنسان ينتقل على نحو مستمر من الاعتماد على شكل من أشكال مصادر الطاقة إلى شكل آخر. فقد انتقلت البشرية، على سبيل المثال، من استخدام الخشب كمصدر أساسي للطاقة إلى الفحم، ثم إلى الوقود الأحفوري، فالغاز الطبيعي وصولًا إلى الطاقة النووية.

التحول الحالي للطاقة ليس مدفوعاً في المقام الأول بالعوامل الاقتصادية بل بسبب أزمة المناخ التي تهدد وجودنا على هذا الكوكب

 

ويضيف الدكتور الشريف في لقاء خاص مع مجلة (التقدم العلمي) إن هذا التحول في استخدام الطاقة كان مدفوعاً على الدوام بعدد من العوامل الاقتصادية والحاجة إلى إتاحة حصول شرائح أوسع من السكان على الطاقة مع النمو السكاني المطرد، “لكننا نمر حاليًا بنوع مختلف من انتقال الطاقة؛ فالتحول الحالي للطاقة ليس مدفوعاً في المـقام الأول بالــعـوامـل الاقــتـصاديـة بل بسـبـب أزمة المناخ التي تهدد وجودنا ذاته على هذا الكوكب. فقد أدت الكميات الهائلة من الوقود الأحفوري الذي نحرقه إلى إطلاق كميات كبيرة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي أدت بـدورها إلى ارتـفـاع درجات الحـرارة العـالمية وارتـفاع مستويات سطح البحر”.

ويـحـذر من اسـتـمـرار مـواصـلة الـبـشرية الـسير في أنشطتها المتنوعة وفق هذا المعدل، لأنه “ربما تصبح العديد من المناطق على كوكبنا غير صالحة للسكن قريبًا. وهذا الأمر يستدعي من الحكومات والشعوب في جميع أنحاء العالم اتخاذ إجراءات فورية لعكس هذا الاتجاه لمساعدتنا على الحفاظ على كوكبنا. وتتطلب مواجهة هذا التحدي جهوداً كـبـيرة ومتنوعة، بـما في ذلك اعـتماد سيـاسات بيئية واقتصادية جديدة، وتغيير سلوكنا الاستهلاكي، وابتكارات تكنولوجية، والتعاون بين المعنيين بذلك في جميع أنحاء العالم”.

تخزين الطاقة

يركز الدكتور الشريف أبحاثه الحالية على مجال الابتكار التكنولوجي، ويرى أن التحولات الحالية للطاقة يجب أن تشهد جهوداً لتطوير مصادر الطاقة المستدامة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وبرامج التخفيف من مستويات ثاني أكسيد الكربون وتحويله، وتقنيات تخزين الطاقة، والهيدروجين الأخضر، وتقنيات التبريد المتقدمة، وبرامج إعادة التدوير وإعادة الاستخدام.

وقد أُحرز الباحثون تقدما كبيرا في نشر أجهزة توليد الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لتوليد الكهرباء. وخلال السنوات القليلة الماضية، صار سعر الكهرباء المولدة من الطاقة الشمسية أرخص من سعر الكهرباء المولدة من الوقود الأحفوري. لكن أحد عيوب الطاقة الشمسية وتكنولوجيا توليد الطاقة المتجددة الأخرى، وفق ما يقول الدكتور الشريف، أنها ذات وتيرة غير ثابتة بطبيعتها؛ فالشمس لا تشرق في الليل ولا تهب الرياح كل يوم. لهذا السبب، يجب أن تقترن مصادر الطاقة الجديدة هذه بأنظمة لتخزين الطاقة مثل البطاريات. ويُتوقع أن يصل سوق البطاريات إلى نحو 500 بليون دولار بحلول عام 2050. والحقيقة هي أنه من دون تخزين الطاقة لن تتمكن البشرية من تسخير كامل إمكانات أنظمة الطاقة المتجددة.

وانطلاقا من ذلك، يركز الدكتور الشريف وفريقه البحثي في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية على تطوير بطاريات متقدمة لأنظمة الطاقة المتجددة. فالبطاريات المستخدمة على نحو رئيسي اليوم هي بطاريات أيون الليثيوم. وعلى مدار العشرين عاماً الماضية، حققت هذه البطاريات نجاحًا هائلاً في مجال الأجهزة الإلكترونية المحمـولة، وبـدأت حالياً في تـحويل قـطاع صناعة السيارات. ومع ذلك، فـإنها تعاني بـعضَ الـعيوب التي من المتوقع أن تزداد حدة بــمـرور الـوقـت. وقد أدى الـعرض المـحدود لأيون الليثـيوم وتوزيعه غير المتكافئ في العالم إلى زيادة كبيرة في سعر الليثيوم مؤخراً. إضافة إلى ذلك، تعد بطاريات أيون الليثيوم غير آمنة بطبيعتها لأنها تستخدم إلكتروليتات قابلة للاشتعال. كما أنه إذا أردنا التخلص من انـبـعـاثات الكـربـون تــمـامـاً من الـشـبكـة الكـهربائية، فإن استخدام بطـارية أيون اللـيثـيوم كـحل للـتـخزين غير مـمكن نظراً لتكلفتها المرتفعة.

ربما تصبح العديد من المناطق في العالم غير صالحة للسكن قريبًا مما يستدعي اتخاذ إجراءات فورية لعكس هذا الاتجاه لمساعدتنا على الحفاظ على كوكبنا

 

ويعمل الدكتور الشريف حاليا على “تطوير بطاريات مائية تتسم بالعديد من المزايا مقارنة ببطاريات أيون الليثيوم. فالإلكترولَيْتات المائية تعد آمنة وصديقة للبيئة، كما أن تكلفتها أقل. وركزت وأعضاء فريق العمل على تطوير الإلكتروليتات ومواد القطب الكهربائي – الإلكترود – التي توفر كثافة طاقة عالية مناسبة للتطبيقات على نطاق الشبكة الكهربائية. كما ركزنا على وجه الخصوص على بطاريات الزنك، وحققنا العديد من الاختراقات في تصميم الإلكترود والإلكترولَيْت في هذه التكنولوجيا. إضافة إلى ذلك، عمل الفريق على تطوير بطاريات أيون الصوديوم Na ion. فالصوديوم أكثر وفرة بكثير من الليثيوم وهو موجود بكميات كبيرة في العديد من الأماكن في العالم. وتنتج المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، الصوديوم كمنتج ثانوي لعملية تحلية المياه”.

إضافة إلى ذلك، فإن الدكتور الشريف يعمل على تكييف الكربون المشتق من النفط لاستخدامه كمادة لصنع المِصعَد (الأنود Anode) لبطاريات أيون الصوديوم. وعلى الرغم من أن بطاريات أيون الصوديوم تحتوي على كثافة طاقة أقل من الليثيوم، فإنها يمكن أن تكون مناسبة للتطبيق على نطاق واسع لأن تصنيعها أقل تكلفة. و”أعمل مع الفريق على تطوير مكثفات كهروكيميائية دقيقة لتخزين الطاقة على رقائق، وهي وحدات طاقة متكاملة يمكن استخدامها لأجهزة الاستشعار التي تعمل بالطاقة الذاتية في إنترنت الأشياء وتطبيقات شبكات الاستشعار”.

مواد الأجهزة الإلكترونية

عمل الدكتور الشريف نحو عشر سنوات في قطاع صناعة أشباه الموصلات بعدد من الشركات، وأسهم خلالها في تطوير مواد وعمليات جديدة دخل العديد منها في تطوير حجم الإنتاج، مما حقق قيمة مضافة لهذه الشركات.

يركز الدكتور الشريف أبحاثه على مجال الابتكار التكنولوجي، ويرى أن التحولات الحالية للطاقة يجب أن تشهد جهوداً حثيثة لتطوير مصادر الطاقة المستدامة

وعن ذلك يقول الدكتور الشريف “استُخدمت رقائق أشباه الموصلات التي طورتها في خوادم صن مايكروسيستمز Sun Microsystems وهواتف نوكيا Nokia والحواسيب الشخصية لعدد من الشركات الأخرى”.

وحالياً يعمل الدكتور الشريف ضمن فريق بحثي “لرسم خارطة طريق أشباه الموصلات في المملكة العربية السعودية، لاسيما بعد أن جعلت اضطرابات سلسلة التوريد العديد من البلدان تدرك أنها بحاجة إلى شكل من أشكال صناعة أشباه الموصلات الأصلية، ونأمل أن يؤدي هذا إلى حقبة جديدة في منتجات أشباه الموصلات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”.

مناهج علوم المواد

ويبدو أن عمل الدكتور الشريف في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية أحدث نقلة نوعية في مسيرته المهنية، ويقول عن ذلك “لقد كنت محظوظًا للمشاركة في بناء أحد أنجح أقسام علوم وهندسة المواد في منطقة الشرق الأوسط. فمنذ انضمامي إلى جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية في عام 2009، شاركت في كل جانب من جوانب تصميم المناهج الدراسية واستقطاب أعضاء هيئة التدريس ووضع اللوائح الداخلية وجعلِ برنامجنا مشاركاً في الفعاليات الإقليمية والعالمية. وأنا فخور بأن شبكتنا للأبحاث التعاونية تغطي كل جزء من العالم تقريباً، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والصين وأوروبا وكوريا وأستراليا والشرق الأوسط وإفريقيا”.

وحصل الدكتور الشريف في الآونة الأخيرة على مزيد من التشجيع بعد أن تواصلت معه جامعات عدة من مختلف أنحاء المنطقة للحصول على المشورة بشأن إنشاء أقسام جديدة لعلوم وهندسة المواد. وأنشئ بالفعل العديد من البرامج التي تبشر بالخير لهذا المجال الناشئ.

ويرى أن الابتكارات في علوم المواد يمكن أن تساعدنا على مواجهة التحديات الهائلة الماثلة أمامنا في العالم اليوم. فأمور مثل ندرة المياه وارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون والتلوث ومصادر الطاقة المتجددة والرعاية الصحية وفق الاحتياجات الشخصية تعتمد بشكل كبير على توافر مواد محسَّنة. وتزداد تحديات اليوم صعوبة، وتتطلب طريقة تفكير تجمع عدة تخصصات. من خلال الابتكار والتعاون، يمكننا تقديم حلول للمواد ستحقق بلا شك تقدماً ذا مغزى في حل مشكلاتنا الأصعب. وعلوم المواد أكبر قاسم مشترك في العديد من المجالات والتطبيقات، ومن ثم فنحن بحاجة إلى تعزيز مؤسسات علوم المواد وجذب علماء المواد الطموحين والمتحمسين إليها.

يطور الدكتور الشريف بطاريات مائية تتسم بالعديد من المزايا مقارنة ببطاريات أيون الليثيوم لاسيما لأنها تعد آمنة وصديقة للبيئة وذات تكلفة مناسبة

 

رسالة للأجيال القادمة

ويرى الدكتور الشريف أن البشرية تواجه حاليا مشكلات عالمية تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية (في مجالات الماء والغذاء والتلوث والطاقة). وحل هذه المشكلات يتطلب أن يعمل العلماء والمهندسون الشباب الطموحون معاً ضمن صيغ تعاون حقيقية وفعالة. هذا أكثر أهمية اليوم من أي وقت مضى، إضافة إلى التفاني والعمل الجاد.

ويوجه رسالة إلى الأجيال القادمة مفادها “أن يبني كل شخص شبكته الخاصة. الشبكة هذه الأيام هي صافي ثروتك. إن أهم الأصول التي تمتلكها بعد شهادتك هي شبكتك. وإنشاء شبكة قوية وحيوية من الأصدقاء والزملاء المتحمسين لعلوم المواد هو إحدى أفضل النصائح التي يمكنني تقديمها للطلبة الذين يدرسون علوم المواد حاليا. ومن أفضل الطرق لبناء هذه الشبكات هو العمل التطوعي والانتماء إلى المجتمعات المختصة على المستويين الإقليمي والعالمي. لقد كنت محظوظاً لكوني جزءاً من مجتمع علوم المواد لسنوات عديدة، فقد أتاح لي هذا تكوين صداقات كثيرة خلال مسيرتي”.

نعمل ضمن فريق بحثي لرسم خارطة طريق أشباه الموصلات في السعودية نظرا للحاجة الماسة لها لاسيما بعد اضطرابات سلسلة التوريد في الآونة الأخيرة

 

وعن الدور الذي تؤديه مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، والجوائز التي تمنحها سنويا للباحثين الكويتيين وزملائهم العرب يقول الدكتور الشريف: “أود أن أتقدم بخالص شكري لمؤسسة الكويت للتقدم العلمي على الجهد الهائل الذي تستثمره في تعزيز العلوم والعلماء في العالم العربي. كان الفوز بجائزة الكويت من أكثر اللحظات التي أفتخر بها في مسيرتي المهنية. وسيكون هذا النوع من التشجيع والاحتفاء بالعلماء العرب بمثابة محفز للأجيال الجديدة للانضمام إلى مجتمع العلوم والهندسة، وهو أمر ضروري جداً لمواجهة التحديات الهائلة في منطقتنا والعالم”.

حوار عبدالله بدران


سيرة ومسيرة

 

Exit mobile version