العلوم الطبيعيةالكيميا الحيوية

الهليوم.. استخدامات الغاز النبيل

م. أمجد قاسم

تزايد الاهتمام العالمي بغاز الهليوم مع تسارع وتيرة التقدم العلمي والتقني، وأصبح إنتاج هذا الغاز هدفاً استراتيجياً واقتصادياً لعدد من الدول، ومنها بعض الدول العربية التي تتبوأ حالياً مركز الصدارة في إنتاجه وتصديره. وقد شهدت الأسواق العالمية اضطراباً واضحاً في أسعار هذا الغاز خلال عام 2013 بعد أن تم طرح مشروع قانون أمريكي لإغلاق مصدر احتياطي الهليوم الاستراتيجي الوحيد في العالم والذي يقع بالقرب من (أماريو) بولاية تكساس، ما شجع على تطوير مصادر جديدة لهذا الغاز في كل من قطر وروسيا والجزائر؛ لتلبية طلبات الأسواق العالمية للهليوم المهم في كثير من التطبيقات الصناعية والتكنولوجية.

يستخدم الهليوم في عدد من التطبيقات التقنية الشديدة الأهمية، كتقنيات التبريد الفائقة، لتبريد الملفات الفائقة الموصلية في أجهزة التصوير بالرنين المغنطيسي Magnetic Resonance Imaging) MRI) ، كما يستخدم في عمليات صناعة رقائق السيليكون وأشباه الموصلات لإنتاج الرقائق الإلكترونية المستعملة في أجهزة الحاسوب والهواتف الذكية والأجهزة اللوحية، وذلك لحماية البلورات الحساسة من الملوثات خلال عملية التصنيع.
ولكون هذا الغاز خاملاً كيميائياً، فهو يستخدم كغاز واق في عمليات اللحام القوسي وصناعة الألياف الضوئية، وفي الصواريخ والطيران، وفي تعبئة المناطيد والبالونات، كما أنَّ جزءاً كبيراً من الإنتاج العالمي من غاز الهليوم يتم استخدامه في مختبرات الأبحاث المتخصصة بدراسات التبريد الفائقة في التجارب التي يتم إجراؤها على درجات الحرارة البالغة الانخفاض.

خصائص مهمة
يقع عنصر الهليوم في الدورة الأولى وعلى رأس عناصر المجموعة الثامنة في الجدول الدوري للعناصر، وهو غاز خامل كيميائياً (نبيل) ورمزه الكيميائي He، وعدده الذري 2، ويتميز بأنه عديم اللون والرائحة وغير سام، وليس له مذاق، ويوجد في الحالة المفردة، حيث لا توجد جزيئات له، ومما يميز هذا العنصر عن غيره من العناصر الكيميائية، أن له أقل درجة غليان إذ تبلغ 4.5 كلفن (-268.6 درجة سيلزية) وأقل درجة انصهار إذ تبلغ 1.15 كلفن (-272 درجة سيلزية)، كما أنه أخف العناصر الكيمائية بعد الهدروجين إذ تبلغ كثافته 0.1785 غم / سم3. وعلى الرغم من وفرة عنصر الهليوم في الكون حيث يشكل نحو 24 % من كتلة عناصر الكون، فإنه نادر الوجود في الطبيعة، إذ يبلغ تركيزه في الغلاف الجوي للأرض نحو 5.2 جزء من المليون، وفي القشرة الأرضية 8 أجزاء من المليون، وفي مياه البحار نحو 4 أجزاء من التريليون.
ولهذا العنصر تسعة نظائر، اثنان منها مستقران، هما الهليوم -4 الذي تتألف نواته من بروتونين ونيوترونين، وهو الأكثر وفرة إذ يشكل ما نسبته 99.99 % من مجمل الهليوم، والنظير الثاني المستقر للهليوم هو الهليوم -3.

الاكتشاف والتسمية
من المفارقات أن عنصر الهليوم اكتشف على الشمس قبل أن يتم اكتشافه على الأرض، وكان ذلك في عام 1868، فأثناء عملية دراسة كسوف كلي للشمس في الهند، شاهد الفلكي بيير جانسين ظهور خط لونه أصفر لامع ضمن طيف الغلاف اللوني للشمس، كما شاهد الفلكي نورمان لوكيير في العام نفسه ظهور الخط الأصفر اللامع نفسه في الطيف الضوئي للشمس، وقد أطلق عليه خط فراونهوفرD3، واستنتج أنه صادر عن عنصر موجود فقط في الشمس، وقد أطلق عليه لوكيير مع العالم إدوارد فرانكلاند الاسم الإغريقي للشمس هيليوس Helios.
وفي أواخر عام 1895 اكتشف الهليوم على الأرض من قبل عالم الكيمياء البريطاني وليام رامزي، فبعد معالجته معدن الكليفيت Cleveite مع حامض الكبريتيك وفصل كل من النيتروجين والأكسجين مع الغازات المتحررة وإخضاع المادة المتبقية لفحوص الطيف، ظهر خط أصفر يشبه خط فراونهوفر D3 الموجود في طيف الشمس بطول موجة يبلغ 587.5618 نانومتر، وبذلك تم التعرف إلى عنصر الهليوم. وأعقب ذلك في جامعة أوبسالا في السويد جمع عينات من هذا الغاز من معدن الكليفيت بهدف دراستها ومعرفة الخصائص الفيزيائية والكيميائية لهذا العنصر الجديد.
وساهمت أبحاث العالم إرنست رذرفورد في التعرف إلى بعض خصائص الهليوم. واستطاع الفيزيائي هايك كامرلينغ أونس تسييل الهليوم في عام 1908 عن طريق تبريد الغاز لدرجة واحد كلفن، وفي عام 1926 تمكن الفيزيائي ويليم هندريك كيسوم من تحويل الهليوم إلى الحالة الصلبة عن طريق تبريده وتعريضه لضغط مرتفع.
واسترعى غاز الهليوم اهتمام كثير من الباحثين، حيث اكتشف الفيزيائي الروسي بيوتر كابيتسا في عام 1938 أن نظير الهليوم -4 يصبح عديم اللزوجة عند درجة حرارة تقارب الصفر المطلق (ظاهرة الميوعة الفائقة)، وفي عام 1972 درس نظير الهليوم -3 من قبل دوغلاس أوشيروف وديفيد لي وروبرت ريتشاردسون، حيث اكتشفوا حدوث ظاهرة الميوعة الفائقة لهذا النظير، وقد استحقوا بذلك جائزة نوبل للفيزياء في عام 1996.

إنتاج الهليوم
يشكل الهليوم العنصر الثاني في الكون بعد الهدروجين، إلا أنه نادر الوجود على سطح الأرض. ويعتقد الباحثون أن الهليوم الموجود في الكون تشكل بعد وقت قصير من الانفجار العظيم، أما الهليوم الموجود في النجوم، فهو ينتج بسبب تفاعلات الاندماج النووي.
أما على الأرض، فإن الهليوم يوجد بتراكيز متفاوتة في تركيب عدد من المعادن والعناصر كاليورانيوم والثوريوم بسبب عملية الاضمحلال الإشعاعي لتلك العناصر الثقيلة وانطلاق جسيمات ألفا التي هي أنوية هليوم He+2 ، ومن أهم الخامات الطبيعية التي يوجد فيها الهليوم، معدن الكليفيت.
إلا أن المصدر الطبيعي الرئيسي للهليوم، هو آبار الغاز الطبيعي، التي يحتوي بعضها على ما نسبته 0.1 إلى %0.5 حجماً من هذا الغاز، علما بأن بعض الحقول في روسيا تحتوي على ما نسبته %0.8 من غاز الهليوم. وفي الواقع فإن صناعة إنتاج الهليوم بدأت في عام 1903 عندما اكتشفت كميات كبيرة منه في حقل للغاز الطبيعي في منطقة ديكستر Dexter بولاية كانساس الأمريكية، وقد بينت التحاليل المختبرية أن تركيز غاز الهليوم يبلغ 1.84 % من تركيز الغاز الطبيعي في ذلك الحقل، ثم اكتشف هذا الغاز في عدة حقول من أكلاهوما وتكساس، وبعد ذلك اكتشف الهليوم في عدد من حقول الغاز الطبيعي في بعض دول العالم.

اهتمام دولي
حظي إنتاج الهليوم باهتمام بالغ من قبل عدد من الدول منذ مطلع القرن العشرين، حيث استخدم على نطاق واسع في الحرب العالمية الأولى لتعبئة المناطيد لرفعها في الهواء بدلاً من الهدروجين السريع الاشتعال، كما استعمل مخلوطاً مع الأكسجين في أسطوانات الغاز الخاصة بتنفس الغواصين وعمال الأنفاق، إذ وضع بدلا من النيتروجين لمنع تخدر الغواصين الذين يغوصون إلى عمق يزيد على 30 متراً.
وفي ستينيات القرن الماضي تم استعمال الهليوم في المركبات الفضائية لإحداث الضغط فيها، كما استعمل لحماية الألياف الصناعية الضوئية المصنوعة من التيتانيوم والزركونيوم، إضافة إلى استخدامه في توفير التبريد الفائق للموصلات الفائقة.
وتشير الدراسات إلى أن استهلاك الهليوم ارتفع من 7.8 مليون متر مكعب في عام 1962 إلى 26.9 مليون متر مكعب في عام 1966، وفي عام 1980 استهلكت الولايات المتحدة الأمريكية نحو 18.2 مليون متر مكعب من هذا الغاز، وفي عام 2012 تم استهلاك 58.2 مليون متر مكعب. ويتوقع الخبراء أن يراوح استهلاك الهليوم في العالم في عام 2030 ما بين 238 و312 مليون متر مكعب سنوياً.
ونظرا للأهمية الاستراتيجية لهذا الغاز، الذي استخدم في بعض المجالات العسكرية وخصوصاً في مشروع مانهاتن لتصنيع القنبلة النووية، لجأت أمريكا في ستينيات القرن الماضي إلى تخزين كميات ضخمة من الهليوم المستخرج من الغاز الطبيعي في خزان جيولوجي ضخم بالقرب من أماريو بولاية تكساس، حيث بلغت كمية الهليوم التي خزنتها في عام 1981 نحو 1.13 تريليون متر مكعب. وفي منتصف تسعينيات القرن الماضي تم توفير احتياطي بلغ تريليوني متر مكعب من الغاز، وتهدف عملية التخزين إلى توفير كميات احتياطية منه، ولمنع انطلاقه إلى الغلاف الجوي دون رجوعه خلال عملية استهلاك الغاز الطبيعي ومعالجته كيميائياً.

تقطير تجزيئي
إن إنتاج الهليوم يتم من خلال عملية تعرف بالتقطير التجزيئي للغاز الطبيعي، ويستفاد في هذه العملية الكيميائية من ميزة انخفاض درجة غليانه التي هي أقل من درجة غليان بقية العناصر الأخرى في الغاز الطبيعي.
ولدى إجراء عملية التبريد الفائق للغاز الطبيعي مع استخدام ضغط مرتفع، يؤدي ذلك الى تسييل الغازات الأخرى الموجودة مع الغاز الطبيعي كالنيتروجين والميثان مما يسهل عملية فصلها، ويلي ذلك إجراء عملية تنقية للهليوم على أكثر من مرحلة مع استخدام درجات حرارة منخفضة جدا للتخلص من الغازات المصاحبة للهليوم، كما يستخدم الكربون النشط للوصول إلى نقاوة للغاز تصل إلى 99.99 %.
وبعد الحصول على الهليوم، يتم تبريده إلى درجة حرارة منخفضة جداُ مع ضغط مرتفع لتحويله إلى الحالة السائلة لتسهيل عملية نقله، حيث إن حاوية نقل الهليوم السائل تتسع لخمسة أضعاف الحاوية نفسها التي يتم ملؤها بالهليوم الغازي.

قطر والجزائر
تتصدر الولايات المتحدة الأمريكية دول العالم في إنتاجها للهليوم، فحتى أواخر القرن الماضي، كانت أمريكا تنتج نحو 90 % من مجمل الإنتاج العالمي منه، والنسبة الباقية كان يتم إنتاجها في كندا وروسيا وبولندا، ويعد حقل بيرنغ هوجوتون للغاز في ولاية كانساس الأمريكية وحقل بانهاندل في تكساس من أهم حقول إنتاج الهليوم.
إلا أنَّه منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، برزت الجزائر كدولة منتجة للهليوم الذي يتم الحصول عليه من آبار الغاز الطبيعي، وافتتحت حينذاك محطة لإنتاج الهليوم في مدينة (أرزيو)، وبلغت قدرتها الإنتاجية 17 مليون متر مكعب من غاز الهليوم.
وتعد الجزائر حالياً من الدول الرائدة بإنتاج الهليوم، وتقدر هيئة المراقبة الجيولوجية الأمريكية احتياطي الجزائر من الهليوم بنحو 1800 مليون متر مكعب، وهذه الكمية الضخمة موجودة في منطقة (حاسي الرمل). ويبلغ إنتاج الجزائر حالياً من الهليوم نحو 20 مليون متر مكعب سنوياً، ومعظم كمية الهليوم المستخرجة يتم تصديرها إلى فرنسا وبعض دول الاتحاد الأوروبي.
وفي عام 2004 برزت دولة قطر كمنتج رئيسي للهليوم إذ افتتحت محطة لإنتاج هذا الغاز في رأس لفان، وفي عام 2010 بدأ العمل بالمشروع الثاني لإنتاج الهليوم في قطر، واكتمل العمل به في شهر ديسمبر 2013، لتصبح قطر أكبر مصدري الهليوم في العالم، وثاني أكبر منتجي هذا الغاز بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
ويعتبر مشروع مصنع (هليوم 2) من أكثر المصانع تطوراً في العالم، حيث يتم احتجاز واستخلاص وتكرير وتنقية الهليوم من الغاز الطبيعي المسال المنقول للمصنع في ستة خطوط ضخمة. وأدارت هذا المشروع العملاق شركة (رأس غاز) التي تولت الأعمال الإنشائية في المصنع، وتبلغ القدرة الإنتاجية نحو 37 مليون متر مكعب سنوياً.
يذكر أن كلا من (رأس غاز) و(قطر غاز) هما المنتجان للهليوم الخام في قطر، حيث تديران مصنع (هليوم 1) ومصنع (هليوم 2)، وتبلغ طاقتهما الإنتاجية السنوية نحو 57 مليون متر مكعب سنوياً، وهذا يلبي تقريباً ربع الطلب العالمي حالياً على الهليوم السائل، كما تدرس قطر إنشاء مصنع ثالث (هليوم 3) لتلبية الطلب العالمي المتزايد على الهليوم.

ارتفاع الأسعار
أدى الطلب العالمي المتزايد على الهليوم، وقلة مصادره في العالم، إلى ارتفاع ملحوظ في أسعار هذا الخام الطبيعي، ففي عام 1998 كان سعر الألف قدم مكعبة (28.32 متر مكعب) 47 دولاراً، ليصبح في عام 2008 نحو 60 دولاراً، وفي عام 2012 ازداد السعر إلى 75.75 دولار، وليزداد في عام 2013 إلى 84 دولاراً، أما في عام 2014 فقد ارتفعت أسعار الهليوم بشكل حاد لتبلغ 95 دولاراً لكل ألف قدم مكعبة. ومع بداية هذا العام 2015 انخفضت أسعار الهليوم قليلاً إثر تدفق الهليوم القطري والجزائري إلى الأسواق العالمية وقرار مجلس النواب الأمريكي تأجيل إغلاق خزان الهليوم الاستراتيجي الوحيد في العالم بولاية تكساس.
ومن المتوقع أن يزداد سعر الهليوم بشكل كبير خلال العقدين المقبلين نظراً لزيادة الطلب عليه وتراجع الاحتياطي الأمريكي منه، وهذا سيكون له انعكاسات سلبية على كثير من القطاعات المهمة، وخصوصاً القطاع الطبي والصناعات الفضائية وغيرها من القطاعات التي تعتمد على غاز الهليوم الخامل ذي الفوائد الجمة والصفات الفريدة.

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى