المادة السلبية.. أسرع من إيقاع الضوء والزمن
الجسم المكوّن من مادة عادية لا يكاد يتحرك إلا قليلاً، فيما يضمن له "السفر بالطيّ" الانتقال عبر مسافات كونية تفوق الخيال، وبسرعة تفوق الضوء أشواطاً!
د.أحمد مغربي
طبيب ومترجم وكاتب متخصص بالموضوعات العلمية، (لبنان)
هل يمكن السفر بأسرع من الضوء؟ إذا كان إيقاع الزمن يسير بسرعة الضوء، وفق نظرية آينشتاين عن النسبية، ألا يكون التحرك بسرعة الضوء أو أكثر سفراً في الزمن أيضاً؟ أليس بموجب معادلة آينشتاين الشهيرة عن المادة والطاقة (E=mc2) تتبدد المادة وتتحوّل إلى طاقة صرفة عندما تصل إلى التحرّك بسرعة الضوء، فكيف يمكن التنقل أسرع من الضوء من دون حدوث ذلك؟
يألف عُشاق السينما أفلاماً عن آلة الزمن Time Machine التي ظهرت في روايات الخيال العلمي بداية من جولز فيرن Jules Verne الذي صاغ ذلك التعبير. ثمة مشهد مألوف سينمائياً عن عالِم يدخل “آلة الزمن” ثم تهتز وتتحرك وتختفي بأسرع من لمح البصر، ويتنقّل العالم بين أزمنة كثيرة وينخرط في حوادث عدّة تستغرق أوقاتاً وأزماناً. ثم يعود إلى الغرفة التي انطلق منها، فيبدو كأنه لم يغادرها إلا بضع هنيهات. هل تستطيع أجسام عادية السفر عبر الزمن بأسرع من سرعة الضوء، من دون أن يصيبها ضرر، بل يبدو كأن سفرها الممتد عبر مسافات وأزمنة هائلة لم يكن سوى مغادرة عابرة لمدة وجيزة؟
الأرجح أن ما سبق ليس سوى مجرد عينة من أسئلة باتت مألوفة وشائعة، لكنها تعتبر من المشاغل الأساسية للمجتمعات العلمية عالمياً. لقد ربط آينشتاين الزمن والمكان مؤكّداً أن الزمن يمثّل سرعة انتقال الضوء في الكون [وهو المكان المقصود في ذلك السياق] بل أشار إليهما كشيء واحد مستخدماً مصطلح “مُركّب الزمن- المكان” Time Space Complex. واعتبر آينشتاين الكون كله [ومسار الزمن فيه] نسيجاً كثيفاً خيوطه ولُحمَتُه هو مُركّب الزمن- المكان.
إبداعات آينشتاين
أحدثت نظرية النسبية عند آينشتاين، أو بالأحرى نظرياته عن النسبية العامة والخاصة، ثورة علمية كبرى ما زالت موجاتها تتردد حتى الآن. ويصعب التغاضي عن نظريات أخرى رافقت زلزال النسبية من باب الاعتراض والمغايرة، خصوصاً النظرية الكموميةQuantum Theory التي تحتاج إلى شروح مستقلة ومستفيضة، لا سيما أنها لم تنظر إلى الوقت والزمن إلا باعتبارهما قابلين للتجاوز!
ثمة أشياء أخرى، اشتُقت من نسبية آينشتاين لكنها ذهبت إلى مناحٍ تبدو كأنها غرائبية تماماً. سيحاول المقال ملامسة أحدها المتمثل في المادة السلبية Negative Matter.
لنبدأ من نقطة قريبة زمنياً نسبيّاً. في 1957، نشر عالِم نمساوي يحمل الجنسية البريطانية مقالاً في مجلة مراجعات الفيزياء المُعاصرة Reviews of Modern Physics، تحدث فيه عمّا سمّاه “المادة السلبية”. ماذا يعني “سلبية”؟ نعرف المادة العادية التي تشكّل الكون بأسره. احمل كرة، تجد أن لها وزناً، وحينما تقذفها في الهواء تردها الجاذبية إلى يدك، وتدحرجها على الأرض فتسير إلى أن تستهلك قوة دفعها، ثم تقف إلى أن تأتي قوّة ما لتحركها ثانية. إذا نظرت إلى موجة في البحر تجد لها صعوداً يقابله هبوط يوازيه. وإذا نظرت إلى رسم بياني عن التموجات تجد قوساً فوق الخط الأفقي ينظر إليه باعتباره كمية إيجابية، يقابله قوس آخر مماثل له لكنه مقلوب وينظر إليه باعتباره كمية سلبية. ماذا لو رسمنا الأجسام وتراكيبها على نحوٍ مماثل؟ سنحصل على جزء إيجابي يمثّل كل أنواع المادة العادية التي نعرفها في الكون [وتسمّى “مادة إيجابية” Positive Matter في هذا المعنى]، وأخرى تشبهها لكنها تكون على عكسها، في الجزء السلبي، ولنسمّها “مادة سلبية”؟
المزايا الثلاث
إن المادة [بالأحرى كتلتها] تمتلك ثلاث مزايا أساسية. تتمثّل الأولى في قدرتها على جذب مادة أخرى، وهو ما عرّفه نيوتن بالجاذبية، ومن قوانينه أن الأجسام الكبيرة تجذب الصغيرة بقوة تتناسب مع الكتلة من جهة والمسافة الفاصلة بينهما من الجهة الثانية. في “المادة السلبية”، بدلا من الجذب هناك الإبعاد أو الدفع، بالأحرى هناك جاذبية مُضادة Anti- Gravity تُحدث الدفع والإبعاد بدلا من الجذب الذي يحدث بسبب تأثير الحقل الكهرومغناطيسي لكل أنواع المادة العادية. وبديهي أن تلك “الجاذبية المُضادة” تكون أوضح على مستوى الذرّة التي تتألف أساساً من مُكوّنات ذات خصائص كهرومغناطيسية مختلفة.
في مزية ثانية، تحتفظ المادة العادية بثباتها إلى أن تأتي قوّة تحرّكها، فتتحرك في الاتجاه الذي دُفِعَتْ باتجاهه إلى أن تستنفد قوة الدفع بفعل مؤثرات شتى [ذلك أيضاً ما نظّره نيوتن]. في المقابل، إذا دُفِعَت “المادة السلبية” في اتجاه ما، فإنها تسير في اتّجاه معاكس!
وعلى غير ما قد نتوقعه بداهةً، تتشارك المادة العادية و”نظيرتها” السلبية، في المزية الثالثة، بمعنى أن لكلتيهما وزنا معينا يظهره الميزان بالطبع.
الجاذبية المضادة
ما الذي يحدث عند اقتراب مادة عادية من “مادة سلبية”؟ إذا اقتربت ذرّة مادة عادية من ذرّة “مادة سلبية”، فستضع الثانية نفسها فوق الأولى، وتعمل على إبعاد ذرة المادة العادية عنها، كأن الأمر يتعلق بمطاردة بين قط وفأر يبقى أحدهما على مسافة معينة من الآخر. ومع استمرار المطاردة بين الذرتين، فإنهما تنخرطان في تسارُع لا يكف عن التزايد. ولولا مؤثرات كثيرة [منها الحركة البروانية Brownian Movement التي يعرفها المتخصصون]، لوصل الأمر بالذرتين إلى التحرك بسرعة الضوء. ووصف هيرمان بوندي Herman Bondi تلك السرعة بـ”الفرار” The Run Away، بمعنى أن الأمر يبدو كأن إحدى الذرتين تفرّ من الأخرى.
لم يخالف بوندي نظرية آينشتاين، وكذلك لم تُرفض قوانين الجاذبية المُضادة Laws of Anti-Gravity التي وضعها، من قِبَل علماء النسبية، لكنها اعتُبِرَت “غرائبية” بسبب عدم وجود ظواهر فيزيائية فعلية تساندها، ويعني ذلك أنها مقبولة كمعطى نظري على الرغم من عدم وجود سند واقعي له.
واستطراداً، اعتُبِرَتْ “قوانين الجاذبية المُضادة” أمراً صحيحاً لكنه ليس مستساغاً. ولزمن طويل، لم تترك أعمال بوندي تأثيراً يذكر. لكن في ثمانينات القرن العشرين، بدا العالِم الأمريكي كيب ثورن Kip Thorne كأنه يسير على خطى بوندي وغرائبيته المستندة إلى آينشتاين! في تلك الحقبة، وصلت التنظيرات عن الثقوب السوداء Black Holes إلى إحدى ذراها. ولفت ثورن إلى أن الثقوب السوداء إنما تُمثّل نقاطاً كثيفة في نسيج “مُركّب الزمن- المكان”. إذا تخيلنا قماشة ضخمة، وتلك صورة أثيرة لدى شُرّاح نسبية آينشتاين، ووضعنا كتلة ثقيلة على إحدى نقاطها، فإنها ستنخسف وتغور وتجر معها خيوط نسيج “الزمن- المكان” التي تصبح كثيفة ومتجمعة في نقطة فائقة الكثافة. تعطي تلك الصورة تشبيهاً عن الثقب الأسود. كيف تكون الأمور بين ثقبين أسودين في تلك القماشة الضخمة لـ”الزمن- المكان”؟ ثمة نقطتان منخسفتان إلى “خارج” النسيج، فماذا لو كان بينهما معبر مباشر يربطهما عبر ذلك “الخارج”؟ أطلق ثورن على ذلك “المعبر” الكوني بمواصفاته المعقّدة، تسمية ثقب الدودة Worm Hole. وبناء على مُعادلات رياضياتية متصلة بالنسبية، توصّل ثورن إلى أن الانتقال عبر ذلك “المعبر” لا يكون إلا باستخدام طاقة سلبية. إذا كان ثمة طاقة متصلة بالكتلة والسرعة وفق معادلة آينشتاين الشهيرة، فلا بد أن توجد طاقة سلبية، على الرغم من كونها مجرد معادلات رياضياتيّة عن النسبية، وليست ظاهرة فعلية. واستطراداً، يفتح ذلك “المعبر” آفاقاً للتنقل بين الأزمنة والأمكنة [باعتبار أن كل ثقب أسود هو تجميع كثيف لخيوط مُركّب الزمن- المكان]، وبما يوازي سرعة الضوء، بل ربما أكثر. وكتب ثورن معادلات النسبية مع إدخال “الطاقة السلبية” فيها.
الاندفاع بالمادة السلبية
في 1990، ظهر عمل علمي نال اهتماماً واسعاً آنذاك وله صلة واضحة بقوانين بوندي عن “الجاذبية المُضادة”. إذ وضع عالِم فضاء أمريكي اسمه روبرت فورورد Robert Forward مجموعة دراسات استندت إلى مقولات بوندي وسرعة “الفرار” ليضع تصميماً نظرياً لمركبة فضاء تسير بسرعة تقارب الضوء، بالاستناد إلى مفهوم الاندفاع بالمادة السلبية Negative Matter Propulsion، كوسيلة للتنقل بين النجوم. وحرص فورورد على الانسجام بين مفاهيمه ونظرية النسبية لدى آينشتاين.
وواجهت فورورد معضلة فريدة تتمثّل في أن أعمال بوندي ركّزت على حصول ظاهرة “سرعة الفرار” بين ذرتين إحداهما لمادة عادية والأخرى لمادة سلبية. وفي المقابل، حاول فورورد السير خطوة أبعد، ففكر في مركبة فضاء تسير بدفع من التفاعل بين المادة العادية والسلبية، من دون الحاجة إلى وقود من أي نوع. وتخيّل أن العلماء توصلوا إلى تركيب كمية كبيرة من المادة السلبية، وأعطوها هيئة تشبه خزّان الوقود. إذا وُضِعَت مركبة فضاء فوقها فإنها بدلا من السقوط عليها، ستنطلق بسرعة متزايدة، مادامت قد بقيت على مسافة معينة من المادة السلبية. ويمكن الوصل بين المركبة وخزّان المادة السلبية بطريقة تتيح حركة ميكانيكية بينهما. إذا أردنا زيادة السرعة، نحاول تقريب مركبة المادة العادية من خزان المادة السلبية، وإذا سعينا إلى خفض السرعة، أبعدنا أحد المكونين عن الآخر، وإذا أردنا التوقف [لنقل بهدف الهبوط على سطح كوكب ما]، علينا أن نقلب الوضعية بين خزان المادة السلبية ومركبة المادة العادية.
في 1994، التقط ذلك الخيط نفسه، ميغوييل آلكوبيير Miguel Alcubierre وهو عالِم فيزياء مكسيكي يدرس في جامعة كارديف بويلز في المملكة المتحدة، ووضع ما يُعرَفْ باسم معادلات آلكوبيير Alcubierre Matrix [بالأحرى “مصفوفات آلكوبيير]، لوصف أحد أشد أنواع التنقل غرابة، وقد شاع تحت مُسمّى السفر بالطيّ Wrap Drive. إذا عدنا إلى قماشة الزمن- المكان، لنتخيّل أن نقطة ما فيها قد تقلّصت أو “تكرمشت” [باللهـجة العامية] أو طويت على بعضها بعضاً، عندها ينتقل جسم مصنوع من مادة عادية عبر خيوط نسيج الزمن- المكان. إنها رحلة عجائبية. ليست سفراً في الزمن- المكان، وهو ما يفعله كل أنواع التحرك والتنقل، بل سفر بواسطة الزمن- المكان نفسه، بالأحرى عبر “طي” مُركّب الزمن- المكان! واستطراداً، يعني ذلك أن الجسم المكوّن من مادة عادية لا يكاد يتحرك إلا قليلاً، فيما يضمن له “السفر بالطيّ” الانتقال عبر مسافات كونية تفوق الخيال، وبسرعة تفوق الضوء أشواطاً!
مسيرة تاريخية
1957: العالِم النمساوي- البريطاني هيرمان بوندي يضع اللبنة الأولى لفكرة “المادة السلبية” ويفصّل خصائصها والسرعة المرتبطة بها، خصوصاً “سرعة الفرار” التي تقارب سرعة الضوء. وسار بوندي على خطى نظرية النسبية التي أرساها آينشتاين.
1988: في سياق تنظيرات علمية متقاطعة عن “الثقوب السود”، وضع العالِم الأمريكي كيب ثورن نظرية عن “ثقب الدودة”، موضحاً أن عبوره يسلتزم استعمال “الطاقة السلبية”. ولم يخرج ثورن عن نظرية النسبية في تلك الأعمال العلمية.
1990: العالِم الأمريكي روبرت فورورد يستند إلى مقولات بوندي و”سرعة الفرار”، ويتحدث عن مركبة فضاء تسير بسرعة تقارب الضوء، بالاستناد إلى مفهوم “الاندفاع بالمادة السلبية”، كوسيلة للتنقل في أرجاء الكون. وحرص فورورد على الانسجام بين مفاهيمه ونظرية النسبية لدى آينشتاين.
1994: من جامعة كارديف في ويلز بالمملكة المتحدة، وضع عالم الفيزياء المكسيكي ميغوييل آلكوبيير معادلات رياضياتية اشتهرت باسمه، ووصف فيها “السفر بالطيّ” الذي تتنقل فيه مادة تقليدية عادية بأسرع من الضوء والزمن، باستخدام “مادة سلبية” و”طاقة سلبية” أيضاً. ووُصِفَ ذلك بأنه سفر باستعمال مُركّب الزمن- المكان الذي نظّر له آينشتاين.