د. ليلى الملا
باحث علمي مشارك، معهد الكويت للأبحاث العلمية
تشكل التربة الطينية نحو 57 % من ساحل الكويت البالغ طوله نحو 2900 كيلومتر، وهي منطقة غنية بالنباتات والحشائش الفطرية الملحية، وتمثل نظاما بيئيا متكاملا زاخرا بالحياة الفطرية النباتية والحيوانية، الأمر الذي يستدعي تكثيف مشاريع التخضير في البيئة الساحلية وتنميتها للمحافظة على ثبات المنظومة البيئية فيها. ومن هنا جاءت فكرة استزراع نبات القرم في المنطقة الساحلية، فهي تعتبر بيئة طبيعية لنمو أشجار القرم عالمياً، وقد تم تضمين ذلك في المشاريع البحثية للتخضير والتجميل من قبل معهد الكويت للأبحاث العلمية منذ أكثر من 26 عاماً، وإجراء الدراسات اللازمة لتحديد إمكانية استزراعه في السواحل الطينية بالبلاد.
ويوجد نبات القرم في منطقة الخليج العربي في كل من السعودية وقطر والإمارات والبحرين وسلطنة عمان. ولدى هذه الدول برامج حماية للسواحل الطينية لهذا النبات، إضافةً إلى مشاريع زراعية لإكثاره وتضمينه في مشاريع التخضير والتصميم المناظري لهذه الدول. ويُعتقد أن شجرة القرم كانت تغطي بعض سواحل الكويت الطينية، لكنها انقرضت بسبب اقتلاعها لاستخدامها كوقود وكمواد أولية لبناء البيوت منذ أزمنة بعيدة، حيث كان يُعتمد على حرق الأشجار والنباتات لإنتاج الطاقة، كما كان يُعتمد على أليافها وأخشابها لعمل دعامات البناء للمساكن البسيطة في ذلك الوقت، وذلك حسب ما كان متداولاً نقلاً عن المؤرخين ومن شهِد الكويت في القرن الماضي. لكن لا يوجد رصد علمي موثّق لأي نوع فطري منها في الكويت.
لذلك أجرى المعهد أول دراسة ناجحة لإدخال نبات القرم إلى بعض المواقع في السواحل الطينية في دولة الكويت عام 1992. وكان لهذه التجربة أثر إيجابي على البيئة البحرية، حيث ازداد تجمع الرواسب المغذية والمفيدة للأحياء البحرية، مما حفّز تكاثرها واستقطب بعض أنواع الطيور المهاجرة.
وكان المعهد سباقاً في إجراء دراسات القرم في الكويت منذ التسعينات، حيث نفذ عددا من الدراسات لإكثار نبات القرم وزراعته في سواحل الكويت. وبشّرت النتائج التي تم الحصول عليها بنجاح ملحوظ يعزز إمكانية إدخال هذه الشجرة إلى سواحل الكويت الطينية، وأجري مسح كامل للشواطئ الطينية في البلاد. ومن المعروف أنه لا يمكن استزراع نبات القرم في جميع أنواع التربة، فلابد من توافر الشروط المناسبة لنموه، لذا اختيرت المواقع على أساس توافر المواصفات المناسبة له وهي: درجة حرارة الماء، والهواء، وجودة الماء ونقاؤه، إضافةً إلى مواصفات التربة: مثل درجة الحموضة، والملوحة، وحجم حبيبات التربة، وعوامل بيئية أخرى. علاوة على ذلك، يجب أن يكون الموقع محميا من حيوانات الرعي، وخاليا من النفايات والصخور والمواد الملوثة والبقع الزيتية ومياه الصرف الصحي، إضافةً إلى معرفة حدود معدل الملوحة المقبول للصنف. كما يتعيّن أن تُغطِي مياه المد الموقع الخاص بنبات القرم ساعات كافية خلال اليوم لتنكشف مرة أخرى خلال ساعات الجزر في اليوم الواحد.
وجلب المعهد أنواعا مختلفة من بذور وشتلات نبات القرم من عدة دول ودرسها، وأجرى المعالجات اللازمة لبذور القرم المستقدمة لإنباتها، فتمت أقلمتها لتحمل الظروف المنـاخيـة للكويـت، ومـن ثم نقلهـا وزراعتهـا في الحقـل حيث المواقع المختارة ومنها منطقة الشويخ، والصبية، والدوحة، والصليبيخات. وتباينت الشتلات المختلفة النوع والمصدر في أدائهـا، وأثـبتـت النتائـج أن نـوع Avicennia Marina المستقدم من بحر الخليج العربي هو أفضل الأنواع المتحملة والمتأقلمة مع الظروف البيئية والمناخية للكويت.
وأجريت دراسات مسحية لاختيار مواقع إضافية مناسبة للاتساع في استزراع القرم واستخدامه في مشاريع التخضير في الدولة. ووضع المعهد والمنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية ROPME توصيات بعدم إدخال أنواع دخيلة من نبات القرم عن الأنواع المنتشرة على سواحل الخليج العربي، حتى لا يتسبب ذلك بتأثير سلبي على الأنواع الفطرية المنتشرة في المنطقة.
مشاريع المعهد في زراعة القرم
دراسات متفرقة بين 1992 إلى 1996 تشتمل على دراسة التربة، وتحديد المصادر، وجلب أصناف مختلفة من بذور نبات القرم. وكانت أول تجربة ناجحة على مستوى دولة الكويت في زراعة نبات القرم على السواحل الطينية في دولة الكويت.
مشروع (استزراع القرم لحماية وإغناء السواحل الكويتية – المرحلة الأولى) الذي تراوحت مدته بين 1996 إلى 1999، واستهدف تحديد الجدوى البيولوجية لزراعة القرم، وتحديد العوامل التي تؤثر على إنشاء مزارعها، وتقييم وتوفير البيانات عن نمو القرم على امتداد المسطحات الطينية في الكويت. أوضحت نتائج هذا البحث أن السلالات القادمة من دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين مناسبة لنجاح إنشاء مجتمعات القرم (A. marina) على المسطحات الطينية في الكويت بين منطقتيْ المد والجزر. وهذه النتيجة كانت مهمة جداً كونها المرة الأولى التي تنجح فيها الكويت بإدخال نبات القرم على السواحل وإنشائها محليا، علاوة على اختيار الأصناف المناسبة للبلاد. وأظهرت الدراسة أهمية هذه المزروعات في إثراء المخزون البيولوجي.
مشروع (استزراع القرم لحماية وإغناء السواحل الكويتية – المرحلة الثانية) الذي تراوحت مدته بين يناير 1999 وديسمبر 2001، واستهدف توحيد مقاييس الإكثار الخضري والممارسات الزراعية لاستزراع القرم في ضوء الظروف المناخية القاسية للكويت وتقييم الأثر البيئي المترتب على استزراع القرم على الشريط الساحلي. وجرى حينها إنشاء خمس مزارع تجريبية، وتوحيد تكنولوجيا زراعة أشجار نبات القرم ذي الصنف الرمادي (A. marina ) في مناطق الشويخ، والصبية، والدوحة، والصليبيخات. ونفذ هذا المشروع بتمويل جزئي من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وبالتعاون مع الهيئة العامة لشؤون الزراعة والثروة السمكية.
مشروع (زراعة أشجار القرم على الشريط الساحلي – المرحلة الأولى) الذي تراوحت مدته بين أكتوبر 2011 ومايو 2012، وذلك بهدف إجراء مسح ميداني للمنطقة المعنية لعمل المشروع، وتقييم حالة أشجار نبات القرم الموجودة في هذه المنطقة، واختيار المواقع الملائمة لزراعة أشجار القرم على جون الكويت ومنطقة الصبية، ودراسة معالجات مختلفة، لمحاولة إكثار نبات القرم ، وتحديد مصادر لجلب شتلات وبذور نبات القرم.
مشروع (زراعة أشجار القرم على الشريط الساحلي – المرحلة الثانية) الذي كانت مدته بين مارس 2016 وأغسطس 2018 ، وكان من أهم أهدافه تطوير تقنية فعالة لإنتاج شتلات نبات القرم تحت الظروف المناخية للكويت، وإجراء تقييم شامل للموقع لتطوير خطة عمل لإعادة التأهيل البيئي بزراعة نبات القرم تحت الظروف المناخية للبلاد، والبدء بوضع خطة مراقبة طويلة الأمد بعد زراعة أشجار القرم لمعرفة التغيرات التي تطرأ على خصائص التربة ومياه البحر، وإجراء دراسة لتقييم المردود البيئي عند البدء بزراعة القرم.
دراسات المردود البيئي
اظهرت دراسات المردود البيئي التي أجريت ما بين 2001 2018 أن نبات القرم لا يهدد وجود أي نبات آخر على سواحل الكويت، كونه لا يعتبر منافسا للنباتات الفطرية الموجودة في هذه السواحل، بل على العكس، فإن وجود القرم يحفز تجمع الرواسب الغنية بالمغذيات المفيدة لنمو النباتات والتي بدورها تكمل الهرم الغذائي للمنظومة البيئية للسواحل لتجعلها أكثر ثباتا واتزاناً. إن انتشار زراعة نبات القرم يُشكل فرصةً ناجحةً ومضمونةً في مشاريع التخضير والتجميل، وأثبت تقييم المردود البيئي بعد زراعة القرم على السواحل قدرة هذه الشجرة على زيادة التنوع الحيوي وتعزيز زيادة إنتاج الأسماك والربيان في الكويت، عبر مساعدتها على تجميع الرواسـب والعنـاصر الغذائية، وعمـلها كحاضنات للـكثير من الأحياء البحرية، واستقطاب عدد كبير ومتنوع من الطيور، علاوةً على زيادة الغطاء الخضري على السواحل. وتسهم هذه الأشجار في إثراء السواحل و المياه البحرية وزيادة إنتاجيتها، ومن المتوقع مساهمتها في تحسين جودة المياه البحرية إضافة إلى ارتفاع معدل تكاثر وزيادة الكائنات الساحلية والبحرية مما يؤدي إلى إعادة تأهيل البيئات المتضررة.
وأظهرت دراسات المراقبة التي يجريها المعهد حدوث تدهور في الغطاء الخضري لأشجار نبات القرم في بعض المواقع المزروعة في المناطق سالفة الذكر خلال السنوات الثلاث الماضية. ويعزى ذلك إلى مجموعة من العوامل البيئية والمناخية أهمها: انحسار مياه المد بسبب الترسبات الناتجة عن أعمال المنشآت والبناء التي نُفّذت لبناء الجسر العابر على جون الكويت، ومشاريع تطوير ساحل الصليبيخات، مما أدى إلى عدم تمكّن مياه المد من الوصول إلى الأشجار وغمرها خلال ساعات اليوم من مرحلة المد، إضافة إلى ارتفاع درجات الحرارة العالية والجفاف أثناء النهار في فصل الصيف، وانخفاض مستوى الرطوبة، الأمر الذي أدى الى احتراق وجفاف الطبقة العلوية من الأشجار، وفقدان الأزهار قبل نضجها لتكوّن البذور.
ولا يزال المعهد يجري دراسات عدة لإكثار شتلات نبات القرم، وابتكار أساليب متطورة في زراعتها على السواحل الطينية، ويعمل على التوسع في اختيار المواقع للتغلب على مشكلة فقدان الشتلات. وهذا التوسّع يتطلّب دعما من الدولة بتوفير مواقع جديدة، بحيث يقوم المعهد باقتراحها والإشراف على زراعتها بعد إجراء الدراسات المسحية المناسبة لتجنب الخسائر والحد من فقد الشتلات والمحافظة على موارد الدولة في دعم هذا المشروع.
المنشورات الخاصة بنبات القرم
كان المعهد أول من نظم مؤتمرا عالميا في دولة الكويت عن القرم في ابريل 1998 تحت عنوان: The International Symposium on Mangrove Ecology and Biology وذلك لتوفير قاعدة معرفية متبادلة وخبرات عالمية تساهم في إنشاء مزارع القرم. وجرت الاستفادة من المشاريع المشابهة إقليميا وعالميا لدراستها تحت الأجواء المحلية.
وأعد المعهد كتيبات خاصة بزراعة نبات القرم في الكويت من أجل إثراء الشريط الساحلي. ووفرت هذه المنشورات البروتوكول الخاص لزراعته من حيث اختيار المواقع المناسبة، والأصناف والمصادر، وطريقة إنبات البذور، وإنتاج الشتلات وتقسيتها وزراعتها في الحقل، وأقلمتها على مياه البحر، ومراقبة نموها، والاحتياطات اللازمة لتحسين نموها على الساحل الكويتي. كما نشر المعهد العديد من المقالات العلمية في مجلات محكمة عن تجربة الكويت في هذا المجال.