العلوم البيئيةالعلوم الطبيعية

التلقيح في أزهار التين.. دور حيوي لحشرة البلاستوفاقا

عملية تلقيح أزهار التين المؤنثة تتولاها حشرة صغيرة تدعى بلاستوفاقا نشأت بين الجانبين علاقة عجيبة أساسها المنفعة المتبادلة

أسعد الفارس
مساعد أبحاث في معهد الكويت للأبحاث العلمية، سابقا
مقال التقدم العلمي، العدد 113

   لطالما تغنت الدول التي تزرع شجرة التين بهذه الشجرة التي تعتبرها بعض الأمم مقدسة ومباركة ومن أشجار الجنة، في حين تعتبرها غيرها رمزا للعطاء والخلود. وهذه الشجرة من الأشجار القديمة في العالم، إذ تذكر مصادر تاريخ النبات أن منطقة شبه الجزيرة العربية هي الموطن الأصلي لشجرة التين، ومنها انتقلت إلى بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط كبلاد الشام وتركيا واليونان وإيطاليا، وإلى بلاد العالم الأخرى. فقد وصلت إلى جنوب الولايات المتحدة الأمريكية في ولاية كاليفورنيا عام 1750 م، كما عرفها قدماء المصريين واستأنسوها قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة، وإضافة إلى ثمارها، فقد استخدموا العصارة اللبنية من ثمارها وأوراقها في معالجة بعض الأمراض.

   تنتمي أشجار التين إلى عائلة التوت Moraceae  التي تكون معظم أجناسها دائمة الخضرة، وبعضها من الأشجار المتساقطة الأوراق. ومايهمنا الأخيرة التي من أهمها نوع التين Ficus carica  الذي اشتقت منه أصناف وسلالات التين المزروع، بسبب التهجين وتكرار الزراعة، حتى تجاوز عدد أصنافه 400 صنف في البلاد الأوروبية والآسيوية، فأدخلت ثمارها بقوة في مجال التغذية لغناها بمختلف المواد الأساسية اللازمة لتغذية الإنسان، وبالعناصر والفيتامينات. وتحوي ثمار التين كربوهيدرات بنسبة ما بين (50-58%) ومـــــــــــــاء (14-17%)، إضافة إلى الدهون والسليلوز والبروتين والنشا بنسب قليلة.

   وثمار التين غنية بالفيتامين A  والفيتامينC ، لذا يقوم الإنسان بزراعة أشجار التين وضمان تطويرها وتكاثرها والمحافظة عليها، والسعي إلى جني محصول وافر منها. وثمار التين تُستهلك طازجة مع توافر إمكانية تجفيفها وتعليبها وتصديرها، كما يمكن الاستفادة من عصارتها اللبنية في صناعة الأدوية.

مئات من الأصناف البرية

   يحوي نوع التين Ficus carica  على المئات من الأصناف البرية منها والمزروعة، الثمرة فيها ثمرة كاذبة مركبة تنمو بداخلها النورة التي تحوي الأزهار المذكرة والمؤنثة، في حين يتصل تجويف النورة بالخارج عن طريق فتحة ضيقة في أعلاها لتسمح للحشرات بالدخول إليها والخروج منها بحرية.

وتكون الأزهار عادة وحيدة الجنس (مذكرة، أو مؤنثة)، وغالباً ما تكون أحادية المسكن مجتمعة في النورة الواحدة. والأزهار في أربعة أنماط: أزهار مذكرة، وأزهار مؤنثة، وأزهار حاضنة، وأزهار عقيمة. وعادة تحتل الأزهار المذكرة جوانب الجوف الزهري العلوية، في حين تحتل الأزهار المؤنثة الجوانب السفلية، ومنها الأزهار المخصصة لحضن بيوض الحشرات المتعايشة معها.

   وتتولى عملية إخصاب أو تلقيح أزهار التين المؤنثة حشرة صغيرة تدعى بلاستوفاقا Blastophaga psenes ، من عائلة دبابير التينAgaonidae  ورتبة غشائية الأجنحة Hymenoptera  من الحشرات. نشأت بينها وبين نبات التين علاقة لعلها تُعد من أعجب العلاقات المعروفة بين النبات والحيوان، وهي علاقة أساسها المنفعة المتبادلة؛ فأزهار التين تهيئ للحشرة المكان الدافئ الأمين لوضع البيوض وفقسه وتغذيته وتطوره، أما الحشرة فتقوم بعملية التلقيح اللازمة، وذلك بنقل حبات الطلح (اللقاح) من الأزهار المذكرة إلى الأزهار المؤنثة.

  ولإغراء الحشرة وتشجيعها على زيادة النورة المجوفة تحورت بعض الأزهار المؤنثة في النورة لتصبح عقيمة ذات أقلام قصيرة تدعى الأزهار الحاضنة Gall Flowers . وفي الأزهار الحاضنة تضع حشرة البلاستوفاقا بيوضها، حيث يتم فقسها وتغذيتها وتطورها إلى حشرة كاملة، وينتج عن البيض حشرات مذكرة وحشرات مؤنثة يتم بينها التزاوج، فتصبح الإناث ممتلئة بالبيض ولها أجنحة في حين تموت الذكور وتتحلل بين هشيم الأزهار. تخرج الإناث المخصبة من فوهة نورة التين باحثة عن تينات أو نورات أخرى تضع فيها بيوضها. وأثناء خروجها تحتك أجسامها بالأزهار المذكرة في أعلى جوف النورة، فتتعفر بحبوب اللقاح الذي تحمله إلى مياسم الأزهار المؤنثة أثناء بحثها عن الأزهار الحاضنة، وبذلك تتم عملية التلقيح اللازمة لنمو البذور ونضج الثمار.

أربع مجموعات

كان من نتيجة عمليات التهجين والانتخاب الطبيعي في نبات التين البري نشوء سلالات عديدة أو أصناف يمكن جمعها في أربع مجموعات رئيسية هي:

  1. مجموعة التين البري أو المذكر Carica silvestris : تتميز أشجارها بأزهارها المذكرة التي معها الأزهار المؤنثة الحاضنة ذات الأقلام القصيرة والمجوفة والمخصصة لاستقبال بيوض حشرات البلاستوفاقا التي تقوم بالتلقيح. فبعد فقس بيوض الحشرة المذكورة وتطورها من يرقة إلى عذراء كاملة تلقحها الذكور، فتخرج من جوف التينة ممتلئة بالبيض للبحث عن نورات تين أخرى لتقوم فيها بالعمل ذاته. وأثناء خروجها يحتك جسمها بالأزهار المذكرة فتحمل معها حبات اللقاح إلى الأزهار المؤنثة في نورات أو تينات أخرى في الأشجار المجاورة.

2- مجموعة التين الأزميري F.Carica Smyrnaca : تتميز أشجارها بأزهارها المؤنثة التي لا يتم تلقيحها إلا “خلطياً” بحبوب لقاح من أشجار التين المذكرة بواسطة حشرة البلاستوفاقا.

3- مجموعة التين المتوسطى F.Carica Intermedica: تتميز أشجارها بإخصاب أزهارها بكرياً من دون تلقيح وذلك في موسم الإثمار الأول، أما في موسم الإثمار الثاني فإن التلقيح يتم بواسطة الحشرات كما في أشجار المجموعة الثانية، وهذا يعني أن لدى شجرة التين في العام الواحد موسمين: الموسم الأول ثماره بكرية، والآخر ثماره ملقحة.

مجموعة التين العادي Carica Hortensis:  تتطور أشجار هذه المجموعة وثمارها بكرياً، وتتحول إلى ثمرة ناضجة من دون بذور، وفيها كذلك موسمان في العام الواحد.

تمايز أشجار التين

  هناك من يرى أن أشجار التين تمايزت في التين الذي تحوي نوراته أزهاراً مذكرة وأخرى حاضنة فقط، وهو التين المعروف بالـ Ficus carica caprifica  الذي يعد من أصول التين البري، فثمار هذا الصنف لا تصلح للأكــل بل تصلــح غذاء للماشية. كمــــا تمايـــــزت في المـــزروع F. Carica domestic الذي تحوي نوراته أزهاراً مؤنثة فقط، وهذا هو التين الذي يحتاج للتلقيح و تؤكل ثماره ومنه التين الأزميري والتين السلطاني.

   أما الأشجار التي أزهارها عقيمة، فلا يحتاج نضج ثمارها إلى عمليات تلقيح؛ فثمارها بكرية خالية من البذور ورطبة لا تصلح للتجفيف، وموسمها قصير لا يتعدى عاة ثلاثة أشهر. أما  التين الأزميري الذي نوراته ذات أزهار مؤنثة فتنضج نتيجة للتلقيح وتمتاز ثمارها باحتوائها على البذور، ومن ثم تصلح للتجفيف والحفظ والتصدير، وغالباً ما تكون ثمارها بكرية، تزرع أشجارها في المناطق الرطبة حول ضفاف الأنهار مثل النيل والفرات.

   أما التين الأزميري وأمثاله فتزرع بعلياً في المناطق الجبلية في بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط، ولنجاح زراعتها تجب أن تكون هذه الزراعة متزامنة مع زراعة أشجار التين الكابري (المذكر) في المنطقة نفسها. وقد يقوم الزارع بنقل النورات أو التينات المذكرة من الأشجار المذكرة ويضمها في عقد ويعلقها بأشجار التين الأزميري، حتى إذا خرجت الحشرات المعفرة بحبات الطلع من هذه النورات المذكرة “نورات الكابري” تدخل نورات الأزميري على أنها الكابري فتلقحها.

   غير أن هذه الحشرة لاتميز بين النورتين، وهكذا يتم تلقيح التين الأزميري في عملية تسمى  Caprification. أما في الشتاء فتمضي الحشرات المذكورة هذا الفصل كامنة في نورات التين الكابري، وتغادرها في مطلع الربيع والصيف لتمارس عمليات التلقيح من جديد.

سلبيات التلقيح وإيجابياته

   ثمة سلبيات لعمليات التلقيح عن طريق الحشرات، منها أن هذه الحشرات قد تنقل الأمراض الفطرية بين الأشجار إذا كانت تلك الأشجار مصابة بهذه الفطريات. ومن الإيجابيات أن الثمار الملقحة تبلغ أحجاماً كبيرة ذات طعوم ونكهات ممتازة، فبعض أصناف التين الأزميري Calimyrna  ثمارها كبيرة حيث يبلغ وزن الثمرة الواحدة 120 غراماً، وإذا ما ازدادت نسبة الأزهار المؤنثة الملقحة عن ٧٠% فإن الثمرة تضيق بحجم البذور، ولذلك تتشقق معرضة محتواها للوسط الخارجي مما يقلل من أهميتها الغذائية.

  وهناك عمليات متطورة هرمونية حديثة ترش بموجبها الهرمونات النباتية، أو المنشطات الكيميائية مثل: النقالين أستيك أسيد N.A. على أشجار التين الأزميري وهي في طور النورات وتكوين الثمار، فتدفع هذه الثمار الحاملة للنورات لكي تنمو وتتطور بكرياً وتنتج الثمار من دون البذور، ومن دون الاعتماد على التلقيح بحشرة البلاستوفاقا، غير أن نجاح هذه الطريقة يعتمد على الدقة المتناهية في ضبط نسب المواد الهرمونية، وتحديد الوقت المناسب لعمليات الرش، وإلا فلربما تؤدي العملية إلى نتائج عكسية، وربما تتلف الأشجار ذاتها، لذا تبقى حشرات البلاستوفاقا سيدة عمليات التلقيح الطبيعية في أشجار التين.

  وتبقى أصناف ثمار التين في الأسواق التجارية متنوعة من حيث اللون والحجم، ولون اللب، ووجود البذور وعدمه، والطعم والرائحة نتيجة لتنوع الأصناف المزروعة. ويسهم كل من التربة والمناخ وارتفاع المناطق المزروعة عن سطح البحر والرطوبة وتوافر المياه في نجاح عمليات زراعة التين.

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى