العلوم البيئيةالعلوم الطبيعية

التحديات البيئية والاستجابة العالمية

نبهت الأزمة التي تواجهها البيئة مجموعات الباحثين والهيئات والمنظمات الدولية، التي بادرت إلى مواجهة التحديات المصيرية لعدوان الإنسان على البيئة والعمل على تحقيق المصالحة بين الإنسان والكوكب الحي.

د. علي أسعد وطفة
كلية التربية – جامعة الكويت

ترمز البيئة إلى الوطن الطبيعي الذي ننتمي إليه، والحاضن الحيوي الذي نحيا ونعيش فيه، وهي لا ريب تشكل أرومة وجودنا؛ ففيها ولدنا، وفي أحضانها ترعرعنا ونشأنا، وفيها منتهانا. والبيئة تشكل المجال العام الحيوي للوجود البشري فتتقاطع فيها الموجودات، وفي محيطها ترتسم دقات الزمان وتقاطعات المكان.
وفي هذا المجال الحيوي تتشكل التجربة الإنسانية، وترتسم ملامح التاريخ البشري، وفيه يتكون نسغ الحياة في تفاعل الإنسان مع مكونات الوجود. نعم، هي البيئة التي تحيط بنا، وتحتضن وجودنا، وتضفي على حياتنا تألق الدلالة والمعنى وتدفق الإحساس بالوجود والمصير.

وعلى الرغم من كل المؤشرات التي تنذر بالخطر، ما زال الإنسان يشوه جمال الطبيعة، ويدمر عطاءاتها، ليحول كل ما فيها من جمال وما تتدفق به من خير وعطاء إلى رؤوس أموال جامدة لا تنفع ولا تضر عندما يحيق الويل ببني الإنسان ويهم بهم الخطر. فهذه الأموال والمقتنيات والمصانع والطائرات والصواريخ لن تنفع أبدا إذا ما ضربت ذلك الكوكب غوائل الجوع وهجمت قوافل الأوبئة واشتدت أخطار الكوارث.

التدمير العدواني
إن العالم الذي نعيش فيه يموج بالأزمات ويفيض بالكوارث الناجمة عن التفاعل العدواني ضد الطبيعة والبيئة، وهو يعيش أزمات لا تحصى عددا، مثل أزمات الغذاء والطاقة والسكن والتلوث والمياه والتصحر. وهناك توقعات ترى أن نهاية الإنسانية ستكون نهاية بيئية؛ نتيجة للكوارث التي تهدد وجود الحياة على الكوكب.

وهذه الصورة التراجيدية تدفعنا إلى البحث عن السبل التي يمكن فيها للإنسانية أن توقف هذا المدّ الزاحف للكوارث البيئية الناجمة عن سلوك الإنسان التدميري. وقد وجد الباحثون والمفكرون أن صوغ القوانين لحماية البيئة وإصدار التشريعات قد يفعل فعله في إيقاف هذه المجازر ضد البيئة والحياة الطبيعية. وقد وضعت الدول تشريعات عديدة لحماية البيئة، وعقدت عددا كبيرا من الاتفاقيات الدولية للحد من عملية التدمير التي تتم ضدها. ومع كل هذه الإجراءات، ما زالت البيئة تتعرض لأخطر عمليات الاستنزاف والتدمير، كنتيجة طبيعية للأفعال التي تدمر كل مواردها من أجل الربح والثروة والقوة.

ويرى كثير من المفكرين والباحثين أن القوانين والتشريعات لن تكون فعالة أبدا إلا بوجود ثقافة بيئية عميقة، متجذرة في الوعي الشعوري واللاشعوري؛ ثقافة تأخذ الإنسان إلى وعي شامل بقضايا البيئة وإيمان راسخ بأهمية المحافظة عليها، ثقافة واعية تحفز الإنسان إلى الدفاع عنها دفاعا عن وجوده وصونا لحياته وتحسبا لمصيره. وعندها، أي عندما تتأصل مثل هذه الثقافة، نستطيع أن نتحدث عن الأمل المشرق، وأن نرنو إلى مستقبل زاهر، وعندها يستطيع البشر التدخل بقوة للمحافظة على وطنهم الطبيعة، الطبيعة الأم، التي تحتضنهم وتزرع الأمل والسكينة في قلوبهم وقلوب أطفالهم.

وقد تبين بالضرورة أن مثل هذا الوعي الأصيل بأهمية البيئة وضرورة الدفاع عنها لا يتشكل إلا من خلال التربية وبواسطتها، وأن التربية هي القادرة على تشكيل هذا الوعي العميق للبيئة، بوصفها قدر الحياة الإنسانية صيرورة ومصيرا. وهذه التربية هي التي تتسم بتسمية التربية على البيئة أو التربية البيئية من أجل التنمية المستدامة.
المفهوم الشمولي للبيئة

ربما لا يحتاج مفهوم البيئة إلى وصف أو تعريف، وقد يبدو لنا أن مجرد البحث في ماهية المفهوم نوع من العبث الفكري أو من الترف العلمي؛ لأن مفهوم البيئة كما يبدو في ظاهره بيّن بذاته، واضح بمعانيه، جليّ بدلالاته، لذا فهو لا يحتاج إلى تفسير أو تعريف!

وقد يكون هذا الرأي صحيحا نسبيا عندما يراد الحديث عن هذه البيئة في حديث يومي عابر وسريع، لكن البحث العلمي في مسألة البيئة والتنمية يقتضي منا أن نبحث في أعماق هذا المفهوم، وأن نستجلي تكامل مكوناته، وتفاعل عناصره، كي تستقيم رؤيتنا لقضية التربية على البيئة في ضوء الاستدامة.

والبيئة في حقيقة الأمر هي تعبير عن كوكب الأرض وتجسيد اصطلاحي له، وهو الكوكب الفريد بين كواكب المجموعة الشمسية، الذي ربما لا يوجد له مثيل أو نظير في الكون، وهو الكوكب الوحيد الذي ينبض بالحياة وينطوي على مقومات الوجود الحيوي. وقد منحه الخالق سمات فريدة وخصائص قل مثيلها في الكون.

تحديات البيئة
والسؤال الذي يطرح نفسه حاليا هو: هل يقوم البشر بالمحافظة على البيئة وتنمية مواردها بوصفها مصدرا للحياة والوجود والنماء؟ أم أنهم – على خلاف ذلك – يقومون بعملية الهدم المستدام لها ولمواردها؟ فها هي البيئة تئن تحت الضربات الموجعة للإنسان الذي يمارس أعنف عمليات التدمير والاستنزاف ضدها، ولاسيما منذ انطلاقة الثورة الصناعية الأولى التي حولت الطبيعة إلى مشهد من مشاهد الجحيم، وذلك بفعل الاستنزاف المستمر والتدمير المنظم الذي يستهدف مقومات الوجود البيئي في مختلف المستويات.

ومشكلة التلوث البيئي التي يشهدها العالم حاليا تعزى إلى التقدم المتسارع في مجال الإنتاج الصناعي والتكنولوجي، والازدياد المطرد للأنشطة البشرية. وتمتد جذور هذه المعضلة إلى بدايات القرن الثامن عشر، ولاسيما مع الانفجار الكبير للثورة الصناعية في النصف الثاني من ذلك القرن، التي أدت إلى الإمعان في عملية التلوث الصناعي عبر مداخن المصانع والعوادم الصناعية لها ووسائل النقل، والتغول الهائل على مكونات الطبيعة ومعطيات البيئة لتحويلها إلى منتوجات صناعية متعددة.
ويؤكد برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن التلوث البيئي يهدد جميع نواحي رفاهية الإنسان وجوده. فالسلوك الإنساني غير العقلاني تجاه البيئة يؤدي بالضرورة إلى تدمير الحياة البيئية ونضوب الموارد، ويتسبب في انقراض الأنواع الحية، كما يؤدي إلى تضاؤل الثروات السمكية. وهذا كله يأتي نتيجة ما يتركه الإنسان من نفايات وفضلات في البيئة، ونتيجة الاستخدام العشوائي للمبيدات، وتلويث مياه المحيطات والأنهار والتربة والهواء بالنفايات والمبيدات والغازات السامة، إضافة إلى ما تشهده البشرية حاليا من تداعيات ظاهرة الاحتباس الحراري المسببة لتغير المناخ.

مسار المواجهة
يواجه الكوكب الذي نستوطنه تحديات بيئية مصيرية، وتأخذ هذه التحديات طابعا تراجيديا مخيفا للعلاقة الجائرة بين الإنسان والطبيعة حيث يكون الإنسان فيها مُدمِراً لها ومدَمُّراً بها، صياداً لها وفريسةً بين مخالبها. وهذه المعادلة تضع الإنسان في أكثر حالات الاغتراب الإنساني فظاعة وهولاً.

وقد نبهت هذه الوضعية المأساوية الباحثين والهيئات والمنظمات الدولية، التي بادرت إلى مواجهة التحديات المصيرية للعدوان الإنساني ضد البيئة والعمل على تحقيق المصالحة بين الإنسان والكوكب الحي، من أجل حماية النوع الإنساني والمحافظة على مكونات البيئة الطبيعية من عوامل الفناء.

لكن ما يجب علينا أن نلاحظه اليوم أن التدهور البيئي لم يعد خفيا كما كان سابقا؛ إذ بلغت انبعاثات غازات الدفيئة درجة لا تحتمل، كما نشاهد اندلاع الحرائق، وازدياد الأعاصير والفيضانات، وانتشار رقعة الجفاف، وتلوث المياه والمزروعات والهواء، حتى إن الغلاف الأخضر للأرض أصبح مهددا بالكامل في هذه الأجواء الملتهبة، مما قد يهدد بالقضاء على كل الكائنات الحية.

من التحديات إلى الاستجابة
لم يستطع العلماء والمفكرون الوقوف ضمن دوائر الصمت إزاء ما تواجهه البيئة من كوارث ومصائب، فرفعوا أصواتهم التحذيرية عاليا، ودقوا نواقيس الخطر، ونبهوا إلى المصير المرعب الذي تتجه إليه الإنسانية إذا ما استمرت في عدوانها الجائر على البيئة.

واستطاع هؤلاء العلماء تشكيل قوة هائلة في مجال إيقاظ الوعي الإنساني بقضايا البيئة ومشكلاتها. وبفضل جهودهم العلمية المستمرة تنبه المجتمع الإنساني إلى هول المخاطر التي تهدد الحياة على سطح الكوكب، وبدأ فريق من الخبراء والباحثين والمفكرين ومناصري الحياة الطبيعية بالعمل على إيقاف هذا التدمير الوحشي للبيئة، وتبني نظم تنموية جديدة من أجل المحافظة على البيئة وحمايتها.

وعلى وقع الصرخات العلمية، وعلى هدير النداءات التي رفعتها المنظمات الحقوقية والخضراء، استيقظت الدول من غفوتها، ونهضت للتفكير في الإجراءات التي يجب أن تتخذها لمواجهة المخاطر التي يفرضها التلوث والاحتباس الحراري. وعلى أثر هذه اليقظة تنادت المنظمات الدولية فدعت إلى وضع استراتيجيات لمواجهة تلك التحديات، وبدأت سلسلة من المؤتمرات والندوات الدولية التي تمحورت حول القضايا البيئية.

واستطاعت هذه الفعاليات تشكيل وعي اجتماعي جديد بمشكلات البيئة في المجتمعات الغربية بداية، ثم امتد التأثير عبر المنظمات المعنية والجمعيات البيئية والحكومات، فتولدت ثقافة واسعة لدى الرأي العام العالمي بخطورة الأزمة البيئية تأثيرها في حياة الكوكب. وربما يكون ذلك بداية وعي شمولي بأهمية البيئة وضرورة صون مواردها وحماية مكوناتها، والحد من التلوث الجائر الذي تعانيه في كل مكان.

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

I agree to these terms.

زر الذهاب إلى الأعلى