العلوم البيئيةالعلوم الطبيعيةعلم النبات

استشعار القرم من الفضاء

استكشاف الغابات وتأهيل المساحات المتضررة

د. وحيد محمد مفضل
خبير بالمنطقة الإقليمية
لحماية البيئة البحرية، وباحث بالمعهد القومي لعلوم البحار والمصايد (مصر)

ليس القرم مجرد نبتة عادية مقاومة للملوحة، تنمو وتترعرع على سواحل البحار والمحيطات المالحة في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية في نضارة ونماء، بل هي موئل فريد ونظام بيئي متكامل، تتعاظم أهميته وفوائده من خلال المزايا والخدمات العديدة التي يقدمها للبشر أو الكائنات البحرية والساحلية التي تعيش في كنفه وتقتات من خيراته وعناصره الغذائية وموارده البيئية التي لا حصر لها. ولهذا النبات منافع بيئية واقتصادية متعددة ومزايا طبية ودوائية متفردة. فهذا النبات – الذي يعرف أيضاً في المنطقة العربية بأسماء أخرى مثل المنغروف والقندل والأيكة – يعتبر حاضنة طبيعية للأسماك والقشريات وغيرها من الكائنات البحرية، بسبب كثافة أشجاره وثراء التربة المحيطة به بالمواد العضوية وتوافر عامل الحماية الطبيعية. لذا فإن غابات القرم بأشجارها الوارفة والمتشابكة والبالغ إجمالي مساحتها نحو 250 ألف كيلومتر مربع على مستوى العالم تزخر بآلاف الأنواع من الأسماك والطيور وغيرها من الكائنات، التي ما كانت لتوجد وتجتمع معاً في بيئة معيشية واحدة لولا غنى مصادر الغذاء والحماية الطبيعية التي يوفرها هذا الموئل.
وتعد غابات القرم من أهم موائل الكربون الأزرق؛ نظرا لقدرة جذورها على امتصاص الكربون الزائد من الجو وتخزينه في التربة، بل إنها تتفوق على الغابات المطيرة في هذا الأمر بمقدار 6 إلى 8 مرات على الأقل، لذا فهي تسهم بشكل فعال في التخفيف من آثار ظاهرة تغير المناخ.
وتؤدي آيكات القرم دورا مهما في تثبيت التربة البحرية وحماية الشواطئ من النحر والتآكل؛ بسبب كثرة جذورها الهوائية وانتشارها على مساحات كبيرة بالقرب من السواحل الطينية الرخوة. كما تعتبر آيكات القرم مصدا طبيعيا ضد هبات الأمواج وبقية العوامل البحرية، لأنها تقلل من ارتفاع وقوة الأمواج القادمة بنسبة قد تصل إلى 66 %.
فضلا عن كل ذلك، فإن غابات القرم تدعم الاقتصاد المحلي بشكل فعال؛ نظرا لدورها في دعم السياحة الشاطئية وسياحة قوارب الكياك والسياحة البيئية، وفي زيادة إنتاجية عمليات الاستزراع السمكي. وعلى سبيل المثال تقدر العوائد المادية الناتجة من غابات القرم في ولاية فلوريدا وحدها بنحو بليون دولار سنويا.
وعلى الرغم من كل هذه الفوائد فإن غابات القرم على مستوى العالم تتعرض منذ فترة لضغوط كبيرة وممارسات سلبية كثيرة، أثرت عليها بشكل كبير، مما أدى إلى تدني حالتها وتقزمها في بعض المناطق، بل واستقطاع أو اختفاء مساحات شاسعة منها في مناطق أخرى. وقد تزايدت مؤخرا الجهود الرامية إلى إعادة تأهيل المساحات المتدهورة أو استزراع القرم في بعض المناطق الجديدة، مما أدى إلى زيادة مساحته ونمائه من جديد في بعض البلدان خاصة الإمارات والسعودية ومصر. وفي الكويت يبذل معهد الكويت للأبحاث العلمية والهيئة العامة للبيئة جهودا حثيثة من أجل استزراع القرم في عدة مناطق بشمالي البلاد، خاصة محمية الجهراء والجزء الشمالي من جزيرة بوبيان.
وبطبيعة الحال، فإن إعادة تأهيل المناطق المتضررة وحماية هذا الموئل المعطاء من الضغوط والمؤثرات السلبية المتعاظمة تتطلب متابعة حالته بانتظام ودراسته بالطرائق العلمية سواء أكانت ميدانية أم من الفضاء. وقد أتاحت تقنية الاستشعار عن بعد والرصد الفضائي عموما ميزة كبرى لا تضاهى في مثل هذا الحالات، إذ يمكن بواسطة هذه التقنية رصد حالة النبات الصحية وتتبع التغيرات الزمنية الطارئة على أشجاره وغاباته المترامية بشكل دقيق وبصفة مستمرة خلال أكثر من فترة زمنية، مما يساعد على رصد التغيرات الحادثة في هذا الموئل الحيوي وإدارته بشكل واقعي وسليم. وهو أمر يصعب تحقيقه بواسطة طرق الفحص التقليدية والزيارات الميدانية؛ نظرا لصعوبة الوصول إلى بعض المناطق، وامتداد أشجار القرم على مساحات هائلة في معظم المواقع، وارتفاع التكلفة المادية التي يتطلبها أداء هذه المسوحات وإنجاز التحاليل وبقية الأعمال الميدانية والمختبرية اللازمة لإنجاز الدراسة.

مزايا تقنية الاستشعار عن بعد
أدى إتاحة استخدام تقنية الاستشعار عن بعد للاستخدام المدني وإطلاق مستشعرات فضائية مخصصة لأغراض البحث العلمي واستكشاف الأرض منذ نحو 50 عاما، مع حفظ البيانات والصور الملتقطة في أرشيف زمني وتاريخي يمكن الرجوع إليه في أي وقت، أدى كل هذا إلى ما يشبه الثورة في طريقة دراسة واستكشاف ثروات وأنظمة كوكب الأرض الطبيعية والبيولوجية، وليس فقط غابات القرم.
وقد استفاد الباحثون المختصون في دراسة القرم من هذه الثورة بأشكال عدة، إذ أصبح من اليسير رصد حالة هذا الموئل الطبيعي وغيره من الموائل بشكل منتظم باستخدام الصور الفضائية. كما أصبح من الممكن تحديد نوعية التغيرات الحادثة التي ألمت به، والأسباب والعوامل التي أدت إلى هذا التغير، وما إذا كانت ناتجة عن تدخلات بشرية أو أنشطة تنموية أو عن بعض العوامل الطبيعية، وهذا من واقع مقارنة الصور الفضائية الملتقطة في أزمنة مختلفة ببعضها.
وإذا ما تحدثنا عن أنظمة الاستشعار عن بعد، ففي الوقت الحالي هناك عشرات بل مئات الأنواع من المستشعرات أو أجهزة الاستشعار من بعد المحمولة إما على أقمار اصطناعية فضائية أو على طائرات، تدور من حولنا في الفضاء أو الجو تصور سطح الأرض والمناطق الساحلية والبحار والمحيطات آناء الليل وأطراف النهار. وهذه المستشعرات يتسم كل منها بقدرات وإمكانات محددة، وكل منها أطلق لرصد عناصر ومكونات معينة على سطح الأرض سواء أكان نباتا أم غيره، في حيز محدد ومعروف من الطيف الكهرومغناطيسي، وبشكل منتظم ودوري.
وعلى هذا النحو هناك مستشعرات وأجهزة استشعار عن بعد خاصة باستكشاف اليابسة وتضاريس الأرض، والمظاهر الموجودة عليها من ثروات طبيعية أو نباتات وغابات ومنها بالطبع القرم وغيره من النباتات، وهناك مستشعرات أخرى خاصة بدراسة المسطحات والموائل البحرية فقط، وثالثة مختصة بدراسة الغلاف الجوي وحالة الطقس، وهكذا.
وقد ساعد هذا التنوع على رصد غابات القرم بأكثر من مستشعر فضائي، ورصده بأكثر من طريقة في أكثر من فترة زمنية في الماضي والحاضر، وهو أمر أسهم في زيادة عدد الدراسات المطبقة على هذا الموئل، وفي تطوير أكثر من تقنية وطريقة لاستشعار هذا النبات ودراسته تفصيليا.
ويمكن للاستشعار عن بعد أيضا التقاط صور بانورامية لمنطقة الدراسة وما تحويه من أهداف وعناصر أرضية سواء أكانت موئلا للقرم أم غيره، وهذه ميزة كبرى لا يمكن تحقيقها بأي طريقة أخرى، إذ يمكن من خلال الصور الملتقطة رؤية هذه العناصر جميعا بنظرة شمولية، بل ودراستها وفحصها جميعا في نفس الوقت، مما يساعد على ربط الأسباب بالمتغيرات، ويسهل بالتالي من تحديد عوامل التغير.
فضلا عن ذلك تتميز بعض أنظمة الاستشعار عن بعد، مثل الرادار، بقدرتها على التقاط صور فضائية وجمع معلومات عن العناصر الأرضية في كل الظروف والأحوال الجوية، مما يعني إمكانية دراسة موئل مثل القرم في جميع الأوقات والظروف، وهو ما لا يمكن تطبيقه أو تحقيقه مثلا في حالة العمل الميداني الذي يتطلب استقرار أحوال الجو وعدم وجود عواصف بحرية لضمان تحقيق السلامة والأمان.

مظهر أشجار القرم من الفضاء
من المعروف أن جميع أوراق الشجر والنباتات النضرة السليمة بما في ذلك أوراق نبات القرم تحتوي على الصبغيات الخضراء أو الكلوروفيل بكمية كبيرة داخل أوراقها، وهذه الصبغيات مسؤولة عن عملية البناء (التركيب) الضوئي وبقية العمليات الحيوية الأخرى للنبات. وبالنسبة لأنظمة الاستشعار عن بعد، فإن هذه الصبغيات تمتص الأشعة الكهرومغناطيسية بشدة في حيز الضوء الأزرق والأحمر المرئيين، في حين تقوم بعكس هذه الأشعة في حيز اللون الأخضر المرئي. وهذا هو تحديدا السبب في ظهور نباتات القرم السليمة في الصور الجوية أو الفضائية ذات الألوان الحقيقية بلون أخضر زاهٍ، حيث تمتص الصبغيات الخضراء اللونين الأزرق والأحمر وتعكس اللون الأخضر، ويكون الاختلاف في درجة اللون نتيجة للاختلاف في عمر الأشجار وأنواعها.
وإذا تعرض النبات مثلا للذبول أو لآفة أو مرض ما فطري، مثل الصدأ البني، فإن نسبة الصبغيات الخضراء في أوراق النبات تقل عادة، وتقل معها نسبة امتصاص اللونين الأزرق والأحمر. لذا فإن النبات في هذه الحالة يظهر في الصور الفضائية بلون أصفر (وهو اللون المزيج بين اللون الأحمر والأخضر) أو لون وردي أو بني غامق تبعا لشدة تأثر النبات بالمرض. واعتمادا على هذا فإنه يمكن، من خلال المرئيات الفضائية ومن خلال قياس ما يعرف باسم “معامل الاخضرار” Vegetation Index بها، تمييز وتحديد النباتات والمساحات الزراعية المصابة بأمراض فطرية أو التي تعرضت أوراقها للاصفرار أو التساقط، من النباتات السليمة والمزدهرة.
وبالنسبة لنبات القرم فإنه يتميز بارتفاع معامل اخضراره، نظرا لنضارة أوراقه وارتفاع بصمته الطيفية وقدرة أوراقه وبقية مكوناته على عكس الأشعة الكهرومغناطيسية ولاسيما الأشعة الخضراء الواقعة في حيز الضوء المرئي. وهذا من جهة أخرى يسهل كثيرا من عملية التعرف عليه ورصده من خلال الصور الفضائية، مقارنة بغيره من النباتات. وفي حالة المرئيات والصور الفضائية عالية الدقة المكانية فإنه علاوة على تميز أشجار القرم بلون مميز وبصمة طيفية خاصة، يمكن أيضا تمييز هذه الأشجار من شكلها الهرمي المميز، ومن وجود جذور هوائية كثيرة حول الأشجار.
غير أن أبرز ما يميز هذا النبات على الأقل من ناحية نمط النماء هو انتشاره في هيئة آيكات ممتدة وغابات كثيفة على مساحات مترامية بطول الشواطئ، أو في نهايات الوديان الجافة ذات التربة الطينية التي تصب في البحار، وإن كان بعضها ينمو أيضا في هيئة شجيرات وارفة متداخلة أحيانا في عمق المياه الساحلية. لذا فإنه يمكن تمييزها من خلال الصور الفضائية بسهولة نظرا لنموها في هيئة أحزمة وشرائط خضراء ووجودها عادة بالقرب من الشواطئ والمناطق الطينية المحصورة ما بين منطقة المد والجذر.

تطبيقات متميزة
تعتبر نوعية التربة ودراسة الغطاء النباتي بشكل عام من أهم تطبيقات تقنية الاستشعار عن بعد في الزراعة، إذ يمكن من خلال هذه التقنية ومن خلال الصور الفضائية، تقدير تحديد مساحة انتشار نوع معين من النبات أو أحد المحاصيل الزراعية ومدى تمدده في منطقة ما، كما يمكن رصد وتتبع مقدار المساحات التي تعرضت للتدهور أو التي جرى استقطاعها خلال فترة زمنية محددة، وتحديد حالة النبات الصحية من واقع قياس مدى اخضرار النبات. كما يمكن باستخدام هذه التقنية رسم خرائط كمية ونوعية عن المساحات المكتسية بمحصول ما أو نبات ما مثل القرم، وتحديد مدى كثافتها ودرجة نضارتها، ونوعية المرافق والمنشآت والأنشطة البشرية القريبة منها.
وعلى ذلك تتنوع سبل دراسة غابات القرم بواسطة تقنية الاستشعار عن بعد وباستخدام الصور الفضائية ما بين تفسير ووصف هذه الغابات ووصف العناصر والتكوينات المحيطة أو القريبة منها بشكل مباشر، وتدوين الملاحظات في صورة تقرير وصفي سريع وعام، أو وضع ترسيم مباشر Direct Mapping لمناطق انتشار النبات ومواضع أشجاره في منطقة الدراسة، ومن ثم إنتاج خرائط موضوعية حديثة تبين مناطق امتداد آيكات القرم ومقدار انتشارها في تلك المنطقة.
كما يمكن دراسة غابات القرم وجمع معلومات عنها وعن النباتات الملحية الموجودة بالقرب منها أو المتداخلة معها عن طريق إجراء تصنيف Classification لأنواع النباتات الكائنة بتلك المنطقة، سواء كان هذا التصنيف بإشراف وتوجيه مباشر من الباحث المختص، وهو ما يعرف في هذه الحالة باسم التصنيف الموجه أو الإشرافي Supervised Classification، أو كان آليا أي بالاعتماد كليا على البرنامج الخاص بتحليل وتصنيف الصور الفضائية، وهو ما يعرف في هذه الحالة باسم التصنيف غير الموجه Unsupervised Classification.
كما يمكن الاستعانة بنظام المعلومات الجغرافية (GIS) جنبا إلى جنب مع مخرجات تقنية الاستشعار عن بعد في إنشاء قاعدة بيانات متكاملة عن مناطق انتشار نبات القرم وعن حالته ونوعية التغيرات الطارئة عليه، ويمكن أيضا استخدامهما معا في تحديد الأماكن الصالحة لاستزراع النبات ونمو أشجاره في المواقع الساحلية المتاحة.
وعلى هذا النحو يمكن لتقنية الاستشعار عن بعد أن تؤدي دورا مهما في استكشاف مناطق انتشار غابات القرم، وفي تقييم حالتها ورصد العوامل السلبية المؤثرة عليها، كما يمكن أن تساعد على إعادة تأهيل المساحات التي تعرضت للتدهور منها، وهو ما يحقق في النهاية النفع والفائدة لقطاعات أخرى عديدة وجهات عدة مستفيدة.

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى