إسهامات العلماء العرب والمسلمين في علم الكون
د. سائر بصمه جي
البتاني، الحسن بن الهيثم، أبو الفداء، البيروني، أسماء نعرفها تماماً، لكنها في الوقت نفسه هي أسماء لمناطق على سطح القمر، وما كانت (ناسا) لتختار أن تضع أسماء هؤلاء الأعلام لولا أن لهم أثراً باقياً في علم الفلك والكون حتى يومنا هذا. ومن المعلوم أن للعلماء العرب والمسلمين إنجازات كثيرة في ميدان علم الفلك، لكننا سنحاول في هذا المقال أن نتكلم عن إسهاماتهم في مجال علم الكون تحديداً.
إن توافر الأرضية الخصبة في علم الفلك، من أرصاد ومراصد وآلات وتمويل حكومي، دفع بالعلماء للانتقال نحو البحث في موضوعات أعمق، لا تقف عند حدود حركات الأجرام السماوية أو حاجات شرعية، وإنما التوجه لسبر بنية الكون وفهم طبيعته. وقد تمكنا حتى الآن من حصر موضوعين تناولهما العلماء العرب والمسلمون في مجال علم الكون هما: مركز الكون، وحجم الكون وتوسعه. لكن لنبدأ بتحديد مقصد العلماء العرب والمسلمين من مصطلح «الكون» بالضبط.
وقفة اصطلاحية
ميز العلماء العرب والمسلمون بين مصطلحين هما «الكون» و«العالم». والناظر في هذا التمييز يستخلص أنهم كانوا يقصدون بمصطلح «العالم» مصطلح Universe الذي نسميه نحن اليوم «الكون». أما «الكون» عندهم فقد كان يعني الإيجاد والحدوث، في حين أننا نعني اليوم بمصطلح «العالم» كوكب الأرض فقط. وحتى لا يلتبس الأمر على القارئ الكريم فإننا سنبقي على استخدام مصطلح «الكون» الذي نعرفه اليوم في المقال كله.
كما أطلق العلماء العرب والمسلمون على علم الفلك أسماء شتى؛ فقد اشتهر عندهم باسم علم الهيئة، وعلم النجوم، وعلم النجوم التعليمي، وعلم صناعة النجوم. وربما يكون مصطلح علم الهيئة أقرب إلى ما يمكن أن نسميه اليوم (علم بنية الكون) كما يقول مؤرخ العلوم ريجيس مورلون, في حين أن بقية المصطلحات شملت علمي الفلك والتنجيم.
مركز الكون
ما هي أهمية أن نجعل الشمس مركزاً للكون بدلاً من الأرض؟
ربما يكون الفلكي اليوناني أريستارخوس (القرن 3 ق.م) أول من طرح فكرة مركزية الشمس في الكون ولكن أرسطو رفضها وتبنى بطلميوس (القرن 2 م) هذا الرفض في نموذجه الكوني. وهكذا تم إبعاد هذا النموذج الشمسي المركز ليحل محلّه النموذج الأرضي المركز.
وبالعودة لعنوان ومحتوى كتاب بطلميوس الأساسي (المجسطي) أو (المؤّلف الرياضياتي الكبير) نجد أنه لا يشير فيه إلى الحالة الفيزيائية للكون إلا قليلاً، بل ركز جهده على فكرة مركزية الأرض، وأنَّ كل حركة لجرم سماوي يجب أن تفسّر من خلال تركيب حركات دائرية منتظمة. ولذلك يصنّف عمله في إطار علم الفلك الرياضياتي أكثر من كونه يتناول بنية الكون، وحتى في كتابه الآخر المهم أيضاً (في اقتصاص أصول حركات الكواكب) فإنَّه يتبنى الرؤية الأرسطية بوجود خمس كرات تشكل الكون هي: النار والهواء والماء والأرض والأثير.
مركز الكون بحسب أرسطو وبطلميوس هو الأرض وبقية الأجرام تدور على كرات محيطة بها.
ويبدو أن أبا جعفر الخازن (القرن 4هـ/10م) اقترح في كتاب (في سرّ العالمين) نظرية جديدة تماماً للكون، ارتكز فيها إلى نتائج بطلميوس في كتابه (الاقتصاص)، كما أن كتاب الخازن أثّر في أعمال ابن الهيثم المتعلقة بعلم وصف الكون.
وتصدى ابن الهيثم (القرن 5هـ/11م) لكتابي بطلميوس في كتابه (الشكوك على بطلميوس) بشكل ناقد لما جاء فيهما. وسنركز هنا على الانتقادات الموجهة للموضوعات الكونية؛ فقد طالب ابن الهيثم بطلميوس بمزيد من الدقة عندما يتحدث عن المفاهيم التي كان هو قد قررها بنفسه. واعترض على بطلميوس بالنسبة لوضع الأرض بأنه «أعلى» أو أسفل من مركز العالم، إذ إن جميع الجهات لا تعني شيئاً بالنسبة إلى مركز العالم لأنها كلها في الجهة الـ«أعلى».. ويعتبر ابن الهيثم أنَّ هذا خطأ في التصور، وليسَ خطأً من النوع المتناقض.
بعيداً عن تأويل مختلف الأديان للموضوع والصراع الذي تم خوضه من أجل هذا الأمر، فإنَّ تغيير مركز الكون من الأرض إلى الشمس يفتح باباً جديداً أمام العلماء لمعرفة أصل المجموعة الشمسية، ومن ثم أصل المجرة والكون، ويزيح الأرض من التربع على عرش المركزية الكونية لتصبح مجرّد كوكب من ملايين الكواكب التي يحتمل أن توجد عليها حياة ذكية أيضاً.
ابن الشاطر ونظرية بطليموس
كانت نظرية بطلميوس ترى خطأً أنَّ الأرض هي مركز الكون، وأن الأجرام السماوية تدور حول الأرض دورة كل 24 ساعة. ووضع بطلميوس لهذه النظرية حساباً فلكياً لا تحتمل جداولاً، لكن الأرصاد الفلكية التي قام بها العالم العربي ابن الشاطر الدمشقي (القرن 8هـ/14م)، برهنت على عدم صحة نظرية بطلميوس.
ويفسّر ذلك ابن الشاطر بقوله: إن الأجرام السماوية لا يسري عليها هذا النظام الذي وضعه بطلميوس.. وذكر أنه إذا كانت الأجرام السماوية تسير من الشرق إلى الغرب، فالشمس أحد هذه الكواكب تسير، لكن لماذا يتغير طلوعها وغروبها؟ والأهم من ذلك، وجود كواكب تختفي وتظهر تسمى بالكواكب المتحيّرة، لذلك فإن الأرض والكواكب المتحيرة تدور حول الشمس بانتظام، والقمر يدور حول الأرض.
ويعتبر مؤرخو الغرب أن الطفرة الأولى في فهم الكون جاءت عام 1543 مع نشر كتاب (حول دوران الكرة السماوية) للفلكي البولندي نيكولاس كوبرنيكوس (القرن 16م). حيث اختلفت الأفكار التي قدمها كوبرنيكوس في كتابه كثيراً عن النظرية التقليدية لبطلميوس، لدرجة جعلت المؤرخين العلميين يتحدثون عما أسموه ثورة كوبرنيكوس. مع أنَّ الأولى أن تسمى بثورة ابن الشاطر، إذا كان مقياس الثورات العلمية هو تغيير مركزية الكون من الأرض إلى الشمس.
واستطاعت نظرية مركزية الشمس تفسير الحركات المرصودة للكواكب، مع أن نظام كوبرنيكوس لم يستطع إعطاء تحديد مسبق دقيق لمواقع الكواكب. وبوفاة نيوتن عام 1727م، كانَ معظم العلماء والفلاسفة اتفقوا على أن الشمس مركز الكون. وبدأوا بعد ذلك في تطوير نظريات لشرح أصل المجموعة الشمسية. ففي عام 1755م اقترح إيمانويل كانط، أحد الفلاسفة الألمان، أن الكواكب والشمس تكونتا بالطريقة نفسها. وفي عام 1796 افترض الرياضياتي الفرنسي بيير سيمون دي لابلاس أن الشمس والكواكب تكونتا من سحابة غازية دوارة سماها «سديما».
لكن فرضية السديم هذه لم تنل الاهتمام إلا فيما بعد، إذ أخذ الفلكيون حديثًا يتقبلون نظريات ترجع إلى أفكار كانط ولابلاس. فمن المعتقد أن الشمس والكواكب تكثفتا مما يطلق عليه السديم الشمسي الأوَّلي. وحسب هذه النظرية انكمش السديم وكوَّن الشمس وكثيراً من الأجسام الصغيرة التي تسمى مواد كوكبية، ثم اتحدت تلك المواد في تسعة كواكب.
حجم الكون
سعى الفلكيون إلى تحري فكرة الكون المتمدد – أي الفكرة التي تنص على أن الكون توسع بسرعة فائقة وزاد حجمه – تلت تكُّونه بعد الانفجار الأعظم. طبعاً نحن لا ندعي أن العلماء العرب توصلوا للحقيقة التي نعرفها اليوم عن زيادة حجم الكون وتمدده، لكن مجرّد البدء بمناقشة الموضوع وإثارته كفيل بتقديرهم على فتح مجال جديد في علم الكون للبحث فيه لم يسبقهم إليه أحد.
مناقشة حجم الكون وتوسعه وانكماشه جرت بين قامتين كبيرتين، هما ابن رشد (القرن 5هـ/ 12م) في الغرب الإسلامي وأبو حامد الغزالي (القرن 5هـ/ 12م) في الشرق الإسلامي.
فقد كان الغزالي يرى في كتابه (تهافت الفلاسفة) أن الكون وجد من بداية محددة زمانياً ومكانياً، وهذه انطلاقة موفقة علمياً له، بخلاف الآخرين الذين افترضوا عدم وجود بداية أو نهاية له، أي إن الكون أزلي.
وبناءً على تلك الفرضية، يقول الغزالي إنَّ الكون له أنْ يزداد حجمه أو ينقص (يتوسع أو ينكمش)، وهو أمر ممكن وليس بمستحيل سواء من الناحية العقلية أو من ناحية قدرة الله على ذلك. وقد ردّ ابن رشد على الغزالي في كتابه (تهافت التهافت)، متبنياً رأي أرسطو، بأنه لا يمكن للكون أن يتوسع أو ينكمش، لأن الفلاسفة لا يقبلون في هذا القول بأن يكون الكون أكبر مما هو عليه؛ لأنَّه لو جاز ذلك لأمكن أن يكون غير متناهٍ في العِظم، وهو عندهم محال. وكأن السماح بزيادة حجم الكون تفضي إلى توسعه إلى ما لا نهاية له، وهذا مُحال عندهم.
وهذا الرد جاء انطلاقاً من الفرضية الأرسطية بأن الطبيعة لا تحب الخلاء، وأن زيادة حجم الكون يقتضي وجود خلاء، أو فراغ مكاني يتسع لزيادته وحركته. لكن في النهاية يجد ابن رشد أن حججه أضعف من حجج الغزالي، لأنَّ فكرة ثبات الكون على حجم معين تتناقض مع مبدأ السببية، فاستحالة أن يكون الكون أكبر مما هو عليه أو أصغر يعني أنه مطلق، أي واجب، والواجب (أو المطلق) مستغنٍ عن العلة. فكيف يكون الكون معلولاً؟ هذه النتيجة، برأي الغزالي، تُلزم الفلاسفة أن يقولوا بما قاله الدهريون إن الكون ليس له خالق، وهو ليس بصحيح.
وبخصوص فكرة ثبات الكون نعلم أنَّ آينشتاين وقع في هذا المطب وأخطأ بوضعه لثابته الكوني، الذي تراجع عنه واعتبره أكبر خطأ وقع فيه بعد عام 1929م، عندما أثبت إدوين هابل فعلاً أن الكون يتوسع، بعد رصد حركة المجرات المتباعدة بسرعات كبيرة، وهو الدليل الذي ركزت عليه نظرية الانفجار الأعظم بعد ذلك.