آفاق واعدة لعلاج الأمراض العصبية

هلال الأشول

من مختبره المتميز في مدينـة لوزان السـويسرية يسعى الدكتور هلال الأشول إلى معرفة وتحليل التغيرات الجزيئية الـتي تـسـبب أمـراض الـشـيـخوخـة، ولاسـيما ألـزهـايـمر وباركنسون وهنتنغتون، وتطوير وسائل مبتكرة للتشخيص المبكر لهذه الأمراض، واستراتيجيات جديدة لأدوية تحدّ من تطورها بعد تشخيصها.

في ذلك المختبر (مختبر البيولوجيا الجزيئية والكيميائية للتدهور العصبي التابع لمركز الدماغ في المعھد الفيدرالي للتكنولوجيا) يرى الدكــتور الأشـول في حوار مع مجـلة (التقدم العلمي) “أن إحداث أي اختراق علمي في معرفة مسببات أي من تلك الأمراض سيفتح آفاقا جديدة، ويمهد الطريق أمام إحداث تقدم في تشخيص وعلاج الأمراض الأخرى، ومعظم أمراض التنكس العصبي”.

وأحد أهم العوامل المشتركة بين هذه الأمراض هو أن من مسبباتها الرئيسية حدوث تغيرات في تركيبة، أو وظائف بروتينات معينة، مما يؤدي إلى تجمعها وترسبها داخل الخلايا العصبية أو خارجها، وهذا يؤدي إلى تعطل التواصل بين الخلايا في الدماغ وإحداث خلل في وظائفها، كما يقول الدكتور الأشول. وبمرور الوقت يسبب ذلك تنكساً عصبياً، وموت الخلايا العصبية، وخللا في وظائف الدماغ، وهو ما يؤدي إلى حدوث أعراض مختلفة، من فقدان الذاكرة إلى صعوبـة التحـكم في الحركـة، وأعـراض نفسية وجسدية تختلف من مريض إلى آخر، ومن مرض إلى آخر، بحسب خصوصيات الشخص الوراثية، ونمط حياته والبيئة التي يتفاعل معها.

وعن أهم إسهاماته مع فريقه في هذا الشأن يقول إنها تتمثل في تطوير تكنولوجيات وأدوات كيميائية مبتكرة لفك الشفرة الجزيئية لأمراض الدماغ التي تنتج عن ترسب البروتينات، إضافة إلى تطوير نماذج لهذه الأمراض في خلايا عصبية لدى الفئران التي تستخدم حاليا لاكتشاف وابتكار وسائل جديدة لمعرفة أسباب هذه الأمراض واختبار أدوية جديدة لعلاجها، أو الحد من تطورها. كما يعمل مع فريقه حاليا على تطوير وسائل جديدة لاكتشاف مؤشرات جزيئية في الدم، أو السائل النخاعي للاكتشاف المبكر لمرض باركنسون، ومراقبة تطوره، وقياس فاعلية الأدوية وطرق العلاج الجديدة له.

وعن الفوائد المترتبة على تلك الأبحاث بالنسبة إلى المرضى يجيب الأشول إنها “تشكل جزءاً مهماً من القاعدة العلمية التي يبني عليها الكثير من العلماء والمراكز البحثية وشركات الأدوية مشاريعهم البحثية، التي تهدف إلى تطوير أدوية وطرق جديدة لتشخيص هذه الأمراض”. كما ينعكس ذلك على عدد الأبحاث والمنشورات العلمية التي تقتبس من أبحاث المختبر المنشورة والشراكات الاستراتيجية مع العديد من شركات الأدوية والمراكز البحثية العالمية.

ولاستثمار جهوده في هذا المجال فقد أسس الأشول فـي عــام 2019 شركـة (ND BioSciences SA). وهي شركة تكنولوجيا بيولوجية (حيوية) “هدفهـا ترجمة الأبحاث، والتكنولوجيات التي تخرج من مختبرنا، وتطويرها إلى عــلاجـات ووســائـل للــتشـخيــص المــبكـر للأمــراض التنكسية العصبية”.

تطلعات واعدة

يأمل الأشول تحقيق عدد من التطلعات على المديين القريب والبعيد، إضافة إلى حلم وطني لا يزال يراوده. فعلى المدى القريب الممتد ما بين خمسة أعوام وعشرة يأمل ابتكار وسائل حديثة لتشخيص ومتابعة تطور تلك الأمراض العصبية في وقت مبكر من خلال إجراء فحوص على عينات يسهل أخذها من المريض، مثل الدم. ويقول: “حتى في غياب أدوية فعالة لعلاج هذه الأمراض اليوم، سيكون للتشخيص المبكر أثر كبير في تمكين المصابين من وضع خطط مستقبلية لحياتهم الشخصية ولأسرهم، إضافة إلى أنه سيمنح الاختصاصيين وقتا لاختبار وسائل علاجية مختلفة ربما تفيد في إبطاء تطور المرض. وهذا أيضا أمر مهم جدا في الاختبارات السريرية للأدوية الجديدة؛ لأنه يساعد على قياس فعالية تلك الأدوية لعلاج هذه الأمراض والحد من تطورها، وتحديد المرضى الأكثر احتمالا

للاستفادة من بعض العلاجات التجريبية”. وعلى المدى البعيد الممتد ما بين عشرة أعوام وخمسة عشر عاما يأمل أن يساهم مع فريقه في ابتكار أدوية وطرق علاج جديدة لعلاج أمراض الشيخوخة والحد من أعراضها وتطورها.

أما على المستوى الشخصي، فيحلم الأشول بإنشاء مركز أبحاث وطني في اليمن، وبصورة خاصة في جزيرة سقطرى، لما تتمتع به هذه الجزيرة من تنوع بيولوجي ونباتات فريدة ذات قيمة طبية عالية تمثل مصدرا غـنيــا لاكتــشـاف أدويـة جــديـدة وفـريـدة للعـــديـد مـن الأمراض المستعصية.

جائزة الكويت

في عام 2018 مـنحت مؤسسة الكويت للتقدم العلمي (KFAS) الدكتـور الأشـول جائزة (الكويت) السـنوية المرموقة تقديرا لأعماله التي قدمها خلال مسيرته البحثية، والتي ساهمت في توضيح الأسباب الجزيئية والتغيرات الهيكلية التي تسبب ترسبات البروتينات وتجميعها، والآليات التي تساهم بها هذه العمليات في التسبب في الأمراض التنكسية العصبية، بما في ذلك أمراض ألزهايمر وباركنسون وهنتنغتون، إضافة إلى أمراض الإموليود. ويفتخر الأشول بأبحاثه التي أجراها خلال دراسة الدكتوراه، وكان لها “دور أساسي في اكتشاف طرق علاجية جديدة نجحت لاحقا (بعد 15 عاما) في التجارب السريرية، وتستخدم حاليا لعلاج أمراض تنتج عن ترسب بروتين يسمى ترانسثيراتن في القلب”.

ويرى الأشول أنه من الجميل جداً أن يكرم الإنسان، ويرى تقديراً، واعترافاً بجهوده، ونجاحاته، وإسهاماته ولاسيما عندما يأتي هذا التكريم من مؤسسات مرموقة في مجال عمله أو من الوطن العربي. ويقول إن هذا النوع من التكريم “يعطينا دعماً معنوياً، ودافعاً للاستمرار في المثابرة، والتميز، وتقديم الأفضل في مجالاتنا العلمية والبحثية، وتسخير خبراتنا، وإنجازاتنا لتطوير العلوم وخدمة المجتمع والبشرية. وما هو أهم من الجائزة هو أن تشعر بأنك من خلال إنجازاتك العلمية والمهنية أصبح لك تأثير إيجابي في حياة الآخرين”.

أي اختراق علمي في معرفة مسببات أمراض الجهاز العصبي سيمهد الطريق أمام إحداث تقدم كبير في تشخيص وعلاج الأمراض الأخرى، ومعظم أمراض التنكس العصبي.

وأهمية تكريم العلماء العرب من قبل أوطانهم والمؤسسات العربية تكمن في أنه يبرز نماذج مميزة كقدوة ومصدر إلهام للأجيال القادمة. كما أنه يعزز من تواصلهم مع أوطانهم وزملائهم في الوطن العربي، ويفتح أبواباً، وآفاقاً جديدة للتواصل، والتعاون والعمل معا، والمساهمة في تطوير التعليم، والتقدم في أوطانهم والوطن العربي، وفقا للأشول.

وهنالك عدد كبير من العلماء والباحثين داخل الوطن العربي وخارجه ممن يستحقون التقدير والدعم. ويقول: “أتمنى أن نشهد اهتماما أكثر بالعلم والتعليم والبحث العلمي في المنطقة، ونرى عددا أكبر من الجوائز ومنصات التكريم التي تسلط الضوء على العلماء والمبدعين ولاسيما الموجودين في الوطن العربي، وتسخير جوائز ووسائل دعم خاصة تهدف إلى تطوير أطر التعاون بين العلماء العرب في الداخل والخارج من خلال مشاريع تستفيد من القدرات والإمكانات الفريدة للعلماء العرب، والثروات والموارد النادرة والغنية لبلدان المنطقة لمواجهة التحديات المشتركة للدول العربية، وتثمر اكتشافات وابتكارات تساهم في تقدم العلوم ومكانة الوطن العربي في الخريطة العلمية العالمية”.

بيئة الإبداع العلمي

يرى الأشول أن السبيل الأمثل لتحفيز بيئة الإبداع العلمي في الوطن العربي، وتشجيع الباحثين والعلميين العرب، ولاسيما الشباب، على الإنتاج والعطاء في أوطانهم ينطلق من اعتبار الاهتمام بتطوير التعليم والبحث العلمي مشروعا وطنيا يدرك أهميته ويدافع عنه المواطن قبل المسؤول، لذا “يجب أن تعكس سياستنا العلمية ومدى استثمارنا في التعليم والبحث العلمي وثرواتنا البشرية إيماننا القوي، شعوبا وحكومات، بإمكانات شباب الوطن العربي، وقدرتهم على الإنتاج والتميز والإبداع والمنافسة على جميع الأصعدة، والمساهمة الفاعلة في بناء وتطوير اقتصادات معرفية ومجتمعات قادرة على مواجهة التحديات الاجتماعية والصحية والأمنية”.

في عام 2018 منحت مؤسسة الكويت للتقدم العلمي (KFAS) الدكتور الأشول جائزة (الكويت) تقديرا لأعماله في توضيح الأسباب الجزيئية والتغيرات الهيكلية التي تؤدي إلى حدوث الأمراض التنكسية العصبية.

ولتعزيز دور البحث العلمي والباحثين في تطوير جميع مجالات الحياة في الوطن العربي، فإننا بحاجة – كما يقول الأشول – إلى أربعة أمور: الأول مؤسسات مؤثرة تدافع عن أجندات التعليم والبحث العلمي في الوطن العربي؛ والثاني استراتيجيات تعليمية وبحثية واضحة المعالم بعيدة المدى، مبنية على الإمكانات النوعية والثروات الطبيعية، وحاجات كل بلد وأولوياته التنموية؛ والثالث إيجاد منظومة بحثية متكاملة في مجالات العلوم والتكنولوجيا، وإنشاء صناديق متخصصة بتمويل البحوث والتطوير وتوظيف مخرجات الأبحاث لخدمه السياسات والأولويات الوطنية، وترجمتها إلى مشاريع اقتصادية مربحة، وهذا يتطلب تأسيس مراكز بحثية متخصصة وصياغة قوانين وتشريعات تمكن من ذلك؛ والأمر الرابع مساهمة رجال الأعمال والمؤسسات الاقتصادية الخاصة في دعم الأبحاث والتطوير، كما يحدث في الدول المتقدمة، من خلال تخصيص نسبة محددة من أرباحهم أو ثرواتهم لدعم الأبحاث والتطوير في المجالات التي تهمهم وتدعم الابتكار والشركات الناشئة. ودور القطاع الخاص في هذا المجال في الوطن العربي غائب تماما، سواء من حيث دعم البحث العلمي، أو تمكين الباحثين والمبدعين من تطوير وتسويق أفكارهم وابتكاراتهم.

إن مـدى اسـتثمار الحكومـات في التعليـم والبحـث والإنتاج العلمي يعكس مدى إيمانها بقدرات الشباب ودورهم في صنع المستقبل، ووجود أو غياب رؤية واضحة وعمل منهجي لتخطيط مستقبل بلادها، ورغبتها في اللحاق بركب الدول المتقدمة من خلال مشاريع وطنية متميزة. و”هذا يتطلب سواعد وعقول أجيال مؤهلة ليس فقط للإنتاج ولكن أيضا للإبداع والابتكار بدون حدود”.

ويؤمن الأشول أن الاستثمار في التعليم والإنسان والبنية التحتية للأبحاث والتطوير والقدرة على إنتاج المعرفة والابتكار أهم مقومات البقاء، والوسيلة الوحيدة لمواجهـات تحديـات هذا العـصر. و”إذا لم نهتم بالتعليم والبحث العلمي والتطوير فسنظل مجرد دول وشعوب تتسابق وتتباهى بالاستهلاك والتقليد وماضينا الفريد”.

الأدمغة المكتسبة

وينطلق الأشول في حديث ذي شجون عن نزيف الأدمغة العربية وهجرتها بل وتهجيرها. ويعتقد أن “معظم العقول العربية تحب البقاء في أوطانها وبين أهلها، وترغب في المساهمة في التنمية فيها، وأنهم سيختارون العودة إذا ما هيئت لهم البيئة التي تقدّر إمكاناتهم وتضحياتهم وتمكنهم من مزاولة أعمالهم وأبحاثهم في إطار نظم مبنية على الكفاءة والإنتاج والتميز، وهو ما يمنحهم الإحساس بالاستقرار والحماية الوظيفية بناء على معايير مهنية يخضع لها الجميع بالتساوي”.

وهل حان الوقت لتقبل فكرة هجرة العقول إلى الغرب، وأنها ستستمر على الأقل خلال السنوات العشر إلى العشرين المقبلة؟

يجيب الأشول بنعم، لكن يرى ضرورة التركيز على إيجاد أدوات ووسائل ودعم مادي تسّهل من إشراك الشتات العربي، والاستفادة من خبراتهم ومواردهم وشبكاتهم المهنية لصالح بلدانهم والمنطقة. “فتطور وسائل الاتصال والتواصل يوفر إمكانية إشراكهم، وتبادل المعرفة والخبرة والتعاون معهم بشكل فعال، دون الحاجة إلى عودتهم جسديًا إلى أوطانهم أو المنطقة. ما ينقصنا هو الإرادة السياسية الصادقة من قبل القادة والحكومات في المنطقة لإشراك العلماء العرب والعقول المهاجرة في عملية التطوير والتنمية في أوطانهم والمنطقة”.

0

ويمتلك الوطن العربي – وفقا للأشول – خصائص وثروات نوعية تمكن علماءه من إجراء أبحاث ليس من السهل إجراؤها في دول أخرى. ويرى أنه “لايمكن لأي دولة عربية مهما بلغت ثروتها أن تحقق نهضة علمية وصناعية مستدامة في ضوء غياب الأمن والاستقرار واستمرار تدهور المؤسسات التعليمية وقطاع البحث العلمي في الدول المجاورة؛ لأنه لا توجد اليوم دولة عربية تمتلك كل الخصائص النوعية بما في ذلك القدرات المادية والبشرية والثروات الطبيعية التي تجعلها تتميز عن الدول المتقدمة التي تمتلك بنى تحتية مميزة، وتخصص نسبا عالية من دخلها الوطني لدعم البحوث في جميع المجالات”.

ويقترح الأشول أن تساهم الدول العربية الغنية كدول مجلس التعاون الخليجي في إبطاء هجرة الأدمغة من المنطقة، وتحويلها إلى “أدمغة مكتسبة” من شأنها أن تعود بفوائد كبيرة على جميع البلدان في المنطقة. ويمكن إجراء ذلك من خلال الحفاظ على المواهب والقوى العاملة الماهرة من البلدان المجـاورة في المنطقة، وتوفيـر فرص عمل مناسبة لهم في الجامعات والمؤسسات العلمية، وهو ما سيتيــح لهم الحــفاظ على ارتبــاطاتهم العلمية والمهنية بزملائهم وبالمؤسسات العلمية والحكومية في أوطانهم. كما أن بقاءهم في المنطقة يزيد من فرص عودتهم يومًا ما إلى بلدانهم الأصلية.

تكريم الباحثين العرب يعطيهم دعماً معنوياً، ودافعاً للاستمرار في التميز، وتسخير خبراتهم وإنجازاتهم لتطوير العلوم وخدمة المجتمع والبشرية. ما هو أهم من أي جائزة هو شعور الباحث بالتأثير الإيجابي لإنجازاته في حياة الآخرين.

تمكين المرأة علميا

أخذَ دور المرأة العربية في المجالات العلمية نصيبا وافرا من الحوار مع الدكتور الأشول الذي يرى أن ذلك الحضور قوي عربيا وعالميا. والدليل هو ” تقلد عدد كبير من العالمات من أصل عربي مناصب علمية رفيعة في أرقى الجامعات بالعالم، والتقدير والتكريم والجوائز التي يحصدنها من المؤسسات العلمية والمهنية في جميع المجالات. كما أننا في الوطن العربي نجد إقبالا كبيرا من الفتيات على مجالات العلوم والهندسة، ونسبهن في معظم المجالات العلمية متساوية مع الذكور إن لم تتفوق عليها، كما تحتل المرأة مناصب قيادية في كثير من الجامعات العربية”.

ويرى أنه على مدار العقود الستة الماضية كان للمرأة العربية دور قيادي مهم وإسهامات مميزة في تطوير المنظومة التعليمية والبحثية في الدول العربية. وما زال عدد النساء في المناصب القيادية في الجامعات والمراكز البحثية والوزارية قليلا مقارنة بالرجال، وذلك لعوامل عديدة قد تختلف من بلد إلى آخر، وهو أمر مجحف بحق النساء.

ويقول عن ذلك: “المشكلة ليست في المرأة أو غيابها في المجالات العلمية بل في ثقافات بعض المجتمعات العربية التي لا تمكّن المرأة من المنافسة العادلة مع أخيها الرجل، وتستمر في تهميشها في مجالات صنع القرار. المرأة تمثّل نصف المجتمع ولا يمكن لأي مجتمع أن يرتقي ويلحق بركب التطور، والبناء، وتحقيق الأمن الصحي، والاقتصادي، والسياسي في ضوء سياسات وممارسات تهمش دور وإمكانات نصف المجتمع”.

ليست هناك مشكلة في غياب المرأة عن المجالات العلمية بل في ثقافات بعض المجتمعات العربية التي لا تمكّن المرأة من المنافسة العادلة مع أخيها الرجل، وتستمر في تهميشها من مجالات صنع القرار.

تعاون عربي عالمي

في عام 2004 حصل الأشول على عدة عروض للعمل في جامعات ومراكز بحثية مرموقة في الولايات المتحدة بيد أنه اختار الالتحاق بالمعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في لوزان. وكان هنالك عوامل شخصية وأسرية ومهنية جعلته يغادر الولايات المتحدة وينتقل إلى سويسرا؛ فعلى المستوى الشخصي “كنت أعتقد أن وجودي مع الأسرة في سويسرا سيجعلنا أكثر قربا من أهلنا في اليمن، ويزيد من فرص لقائنا والمساهمة في خدمة الوطن والمنطقة. وهذا ما حصل فعلا إلى أن اندلعت الحرب في اليمن”.

وعن التعاون بين المعهد والدول العربية يقول: ” منذ عام 2006 تمكنت من العمل مع عدد كبير من الزملاء العرب في مشاريع تهدف إلى تطوير التعليم العالي والبحوث في الوطن العربي، وتوفير فرص تعليم وتدريب للطلبة العرب ولاسيما في مجالات علوم الأعصاب، إضافة إلى عدد من المناصب الاستشارية التي تقلدتها في قطر حيث عملت هناك مدة عامين مديرا تنفيذيا لمعهد قطر الوطني لعلوم الطب الحيوي”. وكان يأمل تقديم مساهمة فاعلة لخدمة بلده، لكنه لم يستطع ذلك “لأن تطوير التعليم العالي والقدرات البشرية لم يكن من الأولويات لدى الجهات المعنية، ثم غاب ذلك كليا مع نشوب الحرب فيه”.

وعلى المستوى البحثي والمهني وفر له الالتحاق بالمعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في لوزان فرصا نادرة تلاقت مع مشاريعه وطموحاته البحثية والمهنية، ومنها الحرية التامة في تشكيل فريقه وبرنامجه البحثي وفقًا لاهتماماته الشخصية وأهدافه وطموحاته العلمية والبحثية، إضافة إلى العمل في مؤسسة بحثية مرموقة تستقطب أفضل المواهب وتوفر موارد سخية ومرافق بحث مزودة بأحدث التقنيات، وهو ما مكنه لاحقا من الاستثمار في أفكار ومشاريع بحثية جديدة محفوفة بالمخاطر، والتوسع في مجالات علمية أخرى خارج نطاق تخصصه. وقد أسهم ذلك في التوسع في مجاله وفتحِ آفاق جديدة بناء على أفكاره ورغباته العلمية الشخصية، من دون أن يكون الدعم المالي الخارجي هو المسيّر الأساسي لأعماله البحثية.

وإضافة إلى الرواتب الشهرية، يوفر المعهد للأشول مبالغ سخية كل عام لدعم مشاريعه البحثية، ويكون له حرية تامة في كيفية استخدامها. ويرى أن “هذا ما يميز النظام السويسري عن النظام الأمريكي والنظام السائد في الدول العربية؛ حيث معظم ما قد تقدمه الجامعات للباحث هو الراتب الشهري، مما يضطره إلى الاعتماد الكلي على مؤسسات وصناديق البحوث الوطنية والخاصة التي تقدم دعما ماليا لمشاريع تخدم أولوياتها وليس أولويات الباحث وطموحاته العلمية”.

صور لمجاميع البروتين aSyn في دماغ مرضى مصابين بأمراض باركنسون. تشرح الصور الكيفية التي يتيح بها استخدام عدة أجسام مضادة التقاط تنوع المسار الإمراضي في الدماغ.

مسيرة علمية

نشأ الأشول في أسرة تقدّس التعليم، وتحترم المتعلم، وتقدّر دور التعليم في بناء شخصية الفرد وتمكينه من أن يكون شخصية ناجحة وفاعلة في المجتمع. وحُرم والده

ووالدته من فرص التعليم لكنهما سخرا حياتهما وكل ما يملكان من أجل تعلم أولادهما.

عندما بلغ خمسة عشر عاما غادر الأشول اليمن إلى مدينة نيويورك لإتمام دراسته الثانوية ثم الجامعية. ويقول عن تلك المرحلة: “لم يكن سهلا على المستوى النفسي والمعيشي أن تغترب في هذه السن. عشت في نيويورك مع أخي الذي يكبرني بعام واحد، ولم تكن لدينا منحة أو مصادر دخل فاضطررنا للعمل ما بين 30-25 ساعة في الأسبوع، وممارسة عدة أعمال لتغطية مصاريف المعيشة. وكنا في كثير من الأيام نشك في أننا سنتمكن من إتمام تعليمنا. وفكرنا في ترك الدراسة عدة مرات، وكان الرادع الوحيد هو أننا كنا ندرك مدى التضحيات التي قدمها الوالد، رحمه الله، والوالدة، حفظها الله، لكي نتعلم ونكون قدوة لإخوتنا ولم نقبل أن نخيب أملهم فينا”.

والأمر الذي مكّنه من التغلب على تلك التحديات ليس فقط الاجتهاد والإصرار بل أيضا لأنه كان محظوظا، إذ وجد في كل مراحل مسيرته التعليمية من يقف إلى جانبه ويدعمه ويؤمن بقدراته التي ربما لم يتنبه إليها في زحمة المشاعر والخوف من المستقبل. “في البداية كان الوالدان يؤديان هذا الدور، ثم أخي الأكبر، وبعد ذلك زوجتي وأساتذتي والمشرفون على أبحاثي، ثم بعدها أولادي وأعضاء فريق أبحاثي والأصدقاء”.

وكل هذا مكّنه من تحقيق نجاحات بسيطة ساهمت في بناء ثقته بنفسه وإمكاناته، لتنتهي رحلة المستحيل، وتبدأ رحلة الطموح والممكن. “في البداية كانت رغبتي أن ألتحق بكلية الطب لأصبح طبيبا، لأن مهنة الطبيب أو المهندس كانت حينذاك تعتبر رمزا للنجاح والتفوق. وفي العام الثاني من دراستي الجامعية التحقت كمتطوع في مختبر بحثي يديره أحد أساتذتي، وكانت هذه نقطة تغير محوري في حياتي ومستقبلي، حيث اكتشفت خلال عملي في المختبر شغفي في البحث العلمي لأنه مجال ديناميكي يخلو من الروتين؛ بسبب التنافس الدائم والاكتشافات اليومية التي تتطلب منك المتابعة وتطوير وتجديد خططك البحثية، كما أنها مهنة توفر لك حرية التفكير والابتكار والتعاون مع علماء من جميع الجنسيات لتحويل أفكارك إلى مشاريع بحثية يكون لديك حرية كاملة في تطبيقها”.

إضافة إلى ذلك، يستمتع الأشول بالعمل مع فريق من الطلبة والعلماء الطموحين، مع الأمل الدائم في أن يتمكنوا جميعا يوما ما من تحقيق اكتشافات ربما تحدث نقلة نوعية في مجال الصحة، وابتكار وسائل للاكتشاف المبكر لأمراض الشيخوخة والخرف وعلاجها. “وهذا ما يحفزنا إلى الذهاب إلى العمل والاجتهاد والتميز في عملنا كل يوم. وأتمنى أن يأتي اليوم الذي لا يسلب العمر من آبائنا متعة الحياة مع أبنائهم وأحفادهم، ومشاركتهم ذكرياتهم واللعب معهم. فأمراض الجهاز العصبي مثل ألزهايمر وباركنسون تسرق كل يوم هذه اللحظات الجميلة من الآلاف من كبار السن، ونحن نعمل ليل نهار لمحاربتها وابتكار وسائل جديدة لعلاجها”.

دراسات رائدة

خلال الأشهر القليلة الماضية أجرى الدكتور الأشول وفريقه ثلاث دراسات رائدة في مجال الأمراض العصبية. أولى هذه الدراسات كانت نظرة جديدة حول الكيفية التي تساهم وفقها الطفرات الجينية في الإصابة بخرف جسم ليوي ومرض باركنسون New insight into how genetic mutations contribute to Lewy body dementia and Parkinson’s disease pathogenesis. استهدفت الدراسة معرفة السبب وراء تسبب طفرة جديدة في البروتين الحمضي الأميني ألفا سينوكلين aSyn بمرض جسم ليوي Lewy body الـشديـد في المنـاطق القـشرية والحـصينية من الدماغ أكثر منها في مناطق الدماغ التي تُصاب بشكل رئيسي عادة بمرض باركنسون. وأظهرت أن الطفرة الجديدة قد تؤثر على بنية ألفا سينوكلين وتجميعها وخاصـيـة الإمـراض مـن خلال آلــيـات مـتـمـيزة عن تلك الخاصة بالطفرات الأخرى. وتساعد الدراسة على الكـشـف عن الآلـيات المختلفة التي تساهم في التنكس العـصبي وتـطـور مرض باركــنـسون وأمراض التـنكس العصبي الأخرى.

أما الدراسة الثانية فكانت الكشف عن بنية الكتل التي تسبب مرض هنتنغتون Unmasking the structure of the aggregates that cause Huntington’s disease. على الرغم من أننا نعرف أي بروتين يتجمع ويسبب التنكس العصبي في مرض هنتنغتون فإننا لا نملك صورة مفصلة عن كيفية تجمع بروتينات هنتنغتون معًا لتكوين هذه الكتل. وهذه الدراسة تساهم في معالجة هذه الفجوة المعرفية. واستطاعت الدراسة لأول مرة تكوين صورة عن الكيفية التي تتفاعل وفقها بروتينات هنتنغتون مع بعضها بعضًا وتتجمع لتشكل المجاميع عالية الترتيب التي نراها في الدماغ. تمهد هذه المعرفة الطريق لمقاربات جديدة لتحديد بنية هذه المجاميع على المستويات الجزيئية، ولتطوير استراتيجيات جديدة لمهاجمة هذه الكتل وإزالتها من الدماغ.

أمراض الجهاز العصبي مثل ألزهايمر وباركنسون تسرق كل يوم متعة استمتاع الملايين من كبار السن بلحظات جميلة مع أولادهم وأحفادهم، ونعمل ليل نهار لمحاربتها وابتكار وسائل جديدة لعلاجها.

وكـانـت الدراسة الثـالثـة بـعنـوان تطـويـر أدوات جـديدة لـتحري مـسـار نـشوء مرض باركـنسون وإعادة تعريفه Development of new tools to investigate and redefine the pathology of Parkinson’s disease. لقد شكلت قدرتنا على تكوين تصور عن تشكل مجاميع البروتين في الدماغ فهمنا للأمراض التنكسية العصبية. يُستخدم اكتشاف مجاميع البروتين هذه وتحديد كميتها أيضًا من أجل تقييم فعالية العلاجات الجديدة. ومع ذلك، فإن معظم الأدوات المستخدمة حاليا لتصور مجاميع البروتين في الدماغ لا يمكنها التقاط الأنواع المختلفة من التكتلات في دماغ المرضى. وعملنا على مدى السنوات الأربع الماضية على تطوير عدد كبير من الأدوات الجديدة (الأجسام المضادة) التي تتيح، عند استخدامها معًا، تكوين تصور عن تنوع آلية الإمراض في الدماغ وتحليلها على نحو أكثر شمولًا. وهذا يعني أنه يمكننا حاليًا أن نحصل على صورة دقيقة، وأن نحسب بدقة جميع المجاميع الموجودة في الدماغ. سيمكننا هذا أيضًا من تكوين فهم أفضل عما إذا كان يمكن تفسير التباين الإكلينيكي للمرض بالاختلافات في توزيع الأنواع المختلفة من المجاميع البروتينية أو موقعها في الدماغ. إن فهم هذه الاختلافات قد يمهد الطريق للحصول على أدوات تشخيص جديدة للكشف المبكر عن مرض باركنسون أو لمراقبة الكيفية التي يتطور بها المرض بمرور الوقت.

نبذة شخصية: هلال أحمد ناجي الأشول

حوار عبدالله بدران

Exit mobile version