إن أفضل طريقة لتحديد ما إذا كان العلاج الطبي الجديد ناجعاً هي إجراء تجربة عشوائية محكومة Randomized controlled tria. فالتجارب العشوائية المحكومة هي المعيار الذهبي للبحث الطبي. في هذه التجارب يتلقى بعض المشاركين في التجربة العلاجَ النشط، وتتلقى مجموعة التحكم (المجموعة الضابطة/ مجموعة المقارنة) دواءً وهمياً (غُفلاً) Placebo لا يحتوى على العنصر العلاجي، وذلك بهدف مقارنة النتائج. لكن ليس من الممكن دائماً الاضطلاعُ بذلك، خصوصاً في مواقف الحياة والموت. قال الدكتور زيد المرزوق، طبيب القلب والباحث الإكلينيكي المتخصص في قسطرة الشرايين والأمراض الهيكلية في مستشفى “ماس جنرال بريغهام” وكلية الطب بجامعة هارفارد في بوسطن بولاية ماساتشوستس، والفائز بجائزة جابر الأحمد للعام 2023: “هذا صحيح بنحو خاص في مجالي، أيْ أمراض القلب”.
تخيلوا مريضاً يُنقَل إلى المستشفى مصاباً بصدمة قلبية Cardiogenic shock، وهي حالة تُهدد الحياة، حيث لا يستطيع القلب ضخ ما يكفي من الدم إلى الجسم، وغالباً ما يكون ذلك بعد تعرُّضه لنوبة قلبية حادة. يقول المرزوق: “معدل البقاء على قيد الحياة لمرضى الصدمة القلبية أقل من 50%”. وإذا كان هناك علاج جديد يمكن أن ينقذ هؤلاء المرضى، فسيكون من غير الأخلاقي إجراء دراسة يُوضع فيها نصفُ المرضى على علاج وهمي غير فعال.
في مثل هذه السيناريوهات يلجأ الأطباء غالباً إلى الدراسات الرصدية Observational studies. أي أن الأطباء يستخدمون علاجاً مبتكراً بحسب ما يرونه مناسباً، ويحاول الباحثون قياس مدى نجاحه من خلال النظر في البيانات من آلاف الحالات، أو أكثر. ولكن الدراسات الرصدية لها مشكلاتُها. يقول المرزوق: “لقد تعرضت الدراسات الرصدية لانتقادات كثيرة بسبب عدم موثوقية نتائجها”. قرر طبيب القلب الشاب وخبير الصحة العامة الذي تلقى تدريبه في الكلية الملكية للجراحين في أيرلندا وجامعة هارفارد في بوسطن بولاية ماساتشوستس، وزميل كلية الطب بجامعة هارفارد، وزميل مركز سميث لأبحاث نتائج أمراض القلب في بوسطن، أن يفعل شيئاً حيال ذلك. وانضم إلى ما يسمى “ثورة المصداقية” Credibility revolution للدراسات الرصدية: إذ يعمل المرزوق على تطوير طرق لتحسين الدراسات الرصدية، التي يمكن لنتائجها أن تكون الفيصلَ في حياة وموت المرضى في المستقبل.
إن الأمثلة الكلاسيكية للدراسات الرصدية هي تلك التي يضطلع فيها الباحثون بتحليل عوامل نمط الحياة لعشرات أو حتى مئات الآلاف من الناس، بحثاً عن أنماط تُخبرهم بالعناصر التي تعمل على تحسين الصحة، أو تُعرض صحتهم للخطر. ولكن مثل هذه الدراسات توضح أيضاً المشكلة: فمهما كانت الارتباطات الإحصائية Statistical correlations التي يجدونها فإنها لا تُظهر إلا أن جوانب معينة تميل إلى الحدوث معاً ــ ولكنها لا تثبت أن أحدها يسبب الآخر.
في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين، على سبيل المثال، أظهرت عديد من الدراسات الرصدية أن النساء اللاتي تناولن الهرمونات بعد انقطاع الطمث عانين أمراض القلب والأوعية الدموية أقل من أولئك اللاتي لم يتناولْنها. واستنتج عديد من الباحثين من هذا أن هذه الهرمونات خفضت من خطر الإصابة بأمراض القلب، وبدأ الأطباء في وصف الحبوب للنساء الأكبر سناً. وفي وقت لاحق فقط كشفت دراسات إضافية أن النساء اللاتي تلقَّين العلاج بالهرمونات البديلة في مجموعة التحكّم الأولى كن أصلاً يتمتعن بصحة أفضل من المتوسط – مثلاً مارسن مزيداً من التمارين الرياضية. وقد أدى هذا إلى انحراف النتائج. بل إن التجارب العشوائية المحكومة التي أُجريت في وقت لاحق أشارت إلى أن إعطاء مجموعات معينة من الهرمونات للنساء الأكبر سناً قد يؤدي في الواقع إلى زيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية. وهذا يعني أن النساء اللاتي تناولن الهرمونات بناءً على نصيحة أطبائهن ربما تعرَّضن لمخاطرَ غير ضرورية.
ولتجنب التوصل إلى مثل هذه التفسيرات الخاطئة، يستخدم المرزوق وآخرون في هذا المجال “منهجية الاستدلال السببي” Causal inference methodology. وقد تطوَّر هذا المنهج في الأصل في علم الاقتصاد، وهو باختصار يقوم على التفكير الذكي. ويقول المرزوق: “فعلياً، نحاول العثور على تجارب طبيعية في العالم الحقيقي”. بعبارة أخرى: المواقف التي تخلق فيها الظروف شيئاً أشبه بمجموعة تحكُّم.
والمرزوق يُركز على الأجهزة القلبية الجديدة. فيوضح قائلاً: “أدرس كيف تعمل هذه الأجهزة بمجرد اعتمادها من الجهات التنظيمية. هل هي آمنة؟ هل هي فعالة؟ هل هي آمنة وفعالة للجميع أو في فئات سكانية محددة؟”. مثلاً قاد المرزوق أخيراً دراسة حول مضخة قلب جديدة تسمى إمبيلّا Impella. وقد صُمِّم الجهاز لمساعدة المرضى الذين يعانون قصورَ القلب على ضخ الدم الغني بالأكسجين في جميع أنحاء الجسم. وبعد أن بدأ الأطباء في استخدام إمبيلّا، ربطت الدراسات الرصدية الجهاز بمعدلات عالية من المضاعفات والوفيات. لكن هذه الدراسات شابها عيب أساسي، كما يقول المرزوق. “لقد أغفلت تحيزاً رئيسياً، وهو أن المرضى شديدي المرض فقط هم الذين يحصلون على هذه المضخة. غالباً ما لا يحصل عليها المرضى الأقل مرضاً”. بعبارة أخرى: كان الأطباء يميلون إلى استخدام المضخة الجديدة كتدخُّل من تدخلات الأمل الأخير. لذا كان من المتوقع أن يموت مزيد من هؤلاء المرضى.
قرر المرزوق وزملاؤه النظر إلى البيانات بنهج مختلف. فقد وجدوا أن هناك مستشفيات تستخدم المضخة الجديدة أكثر بكثير من المستشفيات الأخرى. وهذا يعني أنه “إذا حضر مريض إلى مستشفى يستخدم المضخة بكثرة، فيمكنك افتراض أن هناك فرصة كبيرة لحصوله على المضخة”، وذلك مقارنةً بالمرضى الذين ينتهي بهم الأمر في مؤسسات لا تستخدم المضخة إلا في حالات محدودة، كما قال المرزوق. وقد أدى ذلك إلى إنشاء مجموعة تحكم طبيعية. وتابع المرزوق قائلاً: “إذا جمعتَ كل المستشفيات على مستوى السكان، فستحصل على نتائج قريبة جداً من تجربة عشوائية”. وبهذه الطريقة وغيرها أثبت المرزوق وزملاؤه أنه لا يوجد في الواقع أي دليل واضح على أن المضخة إمبيلّا تسبب معدلات عالية من الوفيات والمضاعفات. وقال المرزوق: “لو لم نضطلع بإجراء الدراسة، لكانت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية قد اضطرت إلى سحب الجهاز الذي قد ينقذ أرواحاً عديدة من الأسواق، وما كان ليتبقى سوى عدد قليل من البدائل أمام المرضى”. والآن، هناك دراسات تثبت أن المضخة إمبيلّا تنقذ الأرواح بالفعل، على عكس ما بدا أن الدراسات الرصدية الأولى تشير إليه.
وبما أن أمراض القلب هي السبب الرئيس للوفاة في جميع أنحاء العالم، فإن المناهج التي تجعل الدراسات الرصدية حول أجهزة القلب الجديدة أكثر موثوقية هي مناهج ضرورية. وشدَّد المرزوق على أن منهجية الاستدلال السببي كانت مناسبة بنحو خاص للدول النامية “التي لا تمتلك البنية الأساسية البحثية لإجراء التجارب العشوائية. يمكنك استخدام هذه الأساليب وقواعد البيانات الرصدية الموجودة لدراسة السياسة الصحية والأسئلة الإكلينيكية (السريرية) والتوصل إلى استنتاجات دقيقة جداً”. ويرى المرزوق – الذي يأمُل العودة إلى الكويت يوماً ما – أن هذا يضيف زخْماً شخصياً إلى عمله. وقال: “أود أن أشكر مؤسسة الكويت للتقدم العلمي على دعمها. فمن المهم أن تكون لدينا مؤسسات مثل مؤسسة الكويت للتقدم العلمي لا ترعى البحثَ فحسب، بل تدعم الباحثين أيضاً. أتطلع إلى مواصلة العمل معها، ودفع هذا المجال إلى الأمام”.