باحث في تاريخ العلوم
لا يوجد نبات أثار حيرة القدامى والمعاصرين، مثل نبات القرم (المنغروف) Mangrove. فقد تفرّد بالحياة على شواطئ البحار المالحة، واختلفت الآراء في أصله، وتنافست المجتمعات الساحلية والدول الاستعمارية على حصاده. والبحث في تاريخ القرم يستدعي منا أن نتابع التاريخ الجيولوجي لبيئته، والجغرافيا القديمة للبحار والمحيطات، والتغيرات التي حدثت في أسلاف القرم عبر الزمان، حتى نصل إلى علاقة الإنسان به، منذ القرون الأولى لوجوده على الأرض وحتى الآن.
أصل القرم
يعتقد العلماء أن أقدم أنواع القرم نشأت في إقليم الهندومالاوي Indo-Malayan. وهذه النظرية مدعومة بحقيقة مفادها أن أنواع القرم الموجودة في تلك المنطقة يزيد عددها على أي مكان آخر في العالم. وبسبب البراعم والبذور العائمة الفريدة للعديد من أنواع القرم، انتشرت أشجار القرم المبكرة، وانتقلت غربًا عن طريق تيارات المحيطات إلى الهند وشرق إفريقيا، وشرقًا إلى الأمريكتين، ووصلت إلى أمريكا الوسطى والجنوبية خلال العصر الطباشيري المتأخر وعصر الميوسين المبكر (منذ 66 إلى 23 مليون سنة). وقد يفسر هذا سبب احتواء غابات القرم في الأمريكتين على عدد أقل من الأنواع المستوطنة، في حين أن غابات القرم الموجودة في آسيا والهند وشرق إفريقيا تحتوي على مجموعة كاملة من أنواع القرم.
تمايز بين أنواع القرم
لفهم الحالة التي كان عليها القرم عبر التاريخ الجيولوجي لكوكب الأرض، من المهم أن نعرف ونتفهم كيفية ومكان تطور الأنواع المختلفة لهذا النبات. وكما أشار العديد من المؤلفين، فإن التوزيع الحالي لأنواع القرم ينبئ بتمايز واضح بين أنواعه الموجودة في سواحل العالم القديم (في غرب المحيط الهادي، والمحيط الهندي، وشرق إفريقيا)، وتلك الموجودة في العالم الجديد (سواحل المحيط الأطلسي لغرب إفريقيا وشرقي الأمريكتين). ولا يمكن تفسير هذا التمايز إلا من خلال العمليات التاريخية. وتظهر معظم الأدلة الأحفورية أن أجناس القرم الحديثة، أو أسلافها القديمة المرتبطة بها ارتباطًا وثيقًا، نشأت في أواخر العصر الطباشيري (منذ نحو 80 إلى 100 مليون سنة) على طول شواطئ البحر الأبيض المتوسط الذي كان قديمًا جزءا من بحر (تيثيس)، الذي كان خلال الأزمنة الجيولوجية الأولى والثانية والثالثة يغطي مواقع واسعة من بلاد الشام والعراق وتركيا وإيران والبحر المتوسط الحالي. ومن المحتمل أن يكون هناك أكثر من مركز لنشأة أشجار القرم. فالنوعان المعروفان بالقندل (القرم الأحمر) Rhizophora والقرم (أو الشورى) المعروف بالقرم الأسود Avicennia كانت نشأتهما في المنطقة الشرقية من بحر تيثيس. أما النوع نيبا Nypa (الذي يسمى نخيل القرم)، وربما القرم الأبيض Laguncularia Racemosa أيضا والدّمس Conocarpus فكانت نشأتها في المنطقة الغربية من هذا البحر. والأنواع: تفاحة القرم Sonneratia وهيريتيرا Heritiera وشاي القرم Pelliciera والقرم الأسود Aegiceras كانت نشأتها في سواحل المنطقة الوسطى من ذلك البحر.
وقد تطورت مجموعة من عائلات القرم بشكل مستقل عن أسلافها الأرضية خلال أواخر العصر الطباشيري- الباليوسيني. وأكدت ذلك أقدم الحفريات التي تنتمي إلى نخيل القرم (نيبا)، البالغ من العمر 75 مليون سنة. وتشير الأدلة الجينومية والأحفورية إلى أن نخيل القرم (نيبا) تطوّر عن أشجار النخيل الأخرى منذ 72.1 – 83.6 مليون سنة، وأن نوعًا آخر من القرم هو السرخس أكروستيكوم Acrostichum تباعد خلال أواخر العصر الطباشيري منذ 66.0 – 88.1 مليون سنة.
ويعود تاريخ نبات شاي القرم (بليسييرا) ونبات القرم بريفترايكولبيتس Brevitricolpites المنقرض أيضًا إلى أواخر العصر الطباشيري. ونشأ جنس القرم الشائع، المعروف بالقندل Rhizophora، خلال الفترة من 47.8 إلى 54.6 مليون سنة، وتزامن ذلك مع الحد الأقصى لمعدل درجة حرارة المناخ في عصري الباليوسين والإيوسين. ويُفترض أن أسلاف القرم غُمرت بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر خلال تلك الفترة الدافئة، وأصبحت هذه النباتات قادرة على التكيف مع ظروف المد والجزر. وزادت سلالات نباتات القرم بشكل مطرد خلال فترة العصر الثالث (ما بين 66 إلى 2.58 مليون سنة) حتى وصلت إلى نحو 100 نوع. فعلى سبيل المثال، ربما تطورت نباتات القرم من النوع (زيلوكاربوس) Xylocarpus عن أسلافها الأرضية منذ نحو 19.4 مليون سنة، كما تطورت نباتات القرم من نوع الأقنثوس Acanthus منذ زهاء 16.8 مليون سنة.
واعتبارًا من أواخر العصر الطباشيري وحتى منتصف الإيوسين كان العالم دافئًا، وكانت معظم أرجاء الأرض مغطاة بالغابات، ولم تكن هناك أغطية جليدية في المناطق القطبية، وهو الأمر الذي كان يشكل ظروفًا مثالية لنشأة غابات القرم وتطورها وازدهارها. وخلال ذلك الوقت، أصبحت أشجار القرم منتشرة على نطاق واسع على طول شواطئ كل من بحر تيثيس والمحيط الأطلسي والمحيط الهادي. وتشير سجلات حبوب اللقاح الأحفورية إلى أن تلك الأشجار امتدت شمالًا عبر البحر الأبيض المتوسط إلى ما يعرف الآن بالمملكة المتحدة وفرنسا، وربما أماكن أخرى في أوروبا. وتم العثور على أدلة أحفورية لأنواع القرم الرئيسية التي نشأت حول بحر تيثيس القديم، وربما انقسمت تجمعات أيكات هذه الأشجار بسبب إغلاق هذا البحر بعد الانجراف القاري. وفيما بعد، ساعد هذا الانجراف بعض أصناف القرم على توسيع نطاق وجودها؛ فقد توسّع نبات القندل (القرم الأحمر) Rhizophora شرقًا مع الانجراف الذي حدث لصفيحة الهند التكتونية، وانفصال أستراليا عن القارة القطبية الجنوبية وتحركها شمالًا. وقد يفسر انتقال القرم عن طريق انجراف الصفائح القارية سبب وجود توزيعات عالمية متشابهة لبعض أجناس القرم، على الرغم من الاختلافات الكبيرة في قدرة التشتت الفردية لكل جنس.
وربما توسع توزيع أشجار القرم خلال عصر الإيوسين الدافئ؛ فعلى سبيل المثال، كان نبات القرم Avicennia موجودًا في سيبيريا (عند خطوط العرض التي تعلو الخط 72 درجة شمالًا) خلال فترة العصر الأيوسيني المبكر الأوسط. وتناقص توزيع القرم عندما انخفض معدل درجات الحرارة العالمية خلال الأوليغوسين والميوسين، كما تناقصت مساحته مع تراجع أعداد أشجاره في المناخات الباردة، مثلما حدث في أواخر عصر الإيوسين، حيث تقلصت أعداد غابات أشجار القرم تدريجيًّا جنوبًا من أوروبا، وشمالًا من بعض سواحل خطوط العرض العليا في نصف الكرة الجنوبي. ثم أدى الانجراف القاري خلال 18 مليون عام إلى اتصال إفريقيا بغرب آسيا، وإغلاق الطريق البحري الذي كان يصل بين بحر تيثيس (المحيط الهندي الآن) والمحيط الأطلسي، والفصل بين أشجار القرم الموجودة في “العالم القديم” عن تلك التي في “العالم الجديد”. وأخيرًا، منذ نحو ثلاثة ملايين سنة قبل الميلاد، أدى إغلاق برزخ بنما، الذي كان يربط بين أمريكا الشمالية والجنوبية بشكل فعال، إلى فصل نباتات القرم الموجودة على الساحل الشرقي للمحيط الهادي عن تلك الموجودة على الساحل الغربي للمحيط الأطلسي.
وعلى الرغم من أن الأنماط العالمية لتنوع أنواع أشجار القرم سبقت عصر البليستوسين، فقد أثرت أحداث هذا العصر على المناخ العالمي ومستويات سطح البحر، مما أدى في النهاية إلى تعديل توزيعات القرم الحالية في مناطق مختلفة من العالم. وخلال فترات الجفاف التي سادت في عصر البليستوسين، كانت أنواع القرم مرتبطة أكثر مما هي عليه اليوم بالمناخ الحار الرطب لمنطقة خط الاستواء. إضافة إلى ذلك، أدى انخفاض مستوى سطح البحر، الذي ارتبط بالأحداث الجليدية في العصر البليستوسيني، إلى إنشاء روابط برية واسعة بين بعض أنواع القرم.
القرم في العصر الحديث
ثمة عاملان رئيسيان تحكّما في توزيع نبات القرم في العالم خلال العصر الحديث (الهولوسين). وهذان العاملان هما: المناخ، والارتفاع النسبي لمستوى سطح البحر. وكما هي الحال اليوم، كان وجود أشجار القرم مرتبطًا فقط في المقام الأول بخطوط العرض الاستوائية وشبه الاستوائية من خلال الضوابط المناخية. وعلى الرغم من أن الامتداد المساحي الكامل لأشجار القرم خلال عصر الهولوسين غير معروف، فإن مستوى سطح البحر وتأثير العوامل الجيومورفولوجية كان لهما تأثير كبير في توزيع القرم. وفي ذروة العصر الجليدي الأخير، كان مستوى سطح البحر أقل بمقدار يتراوح بين 120 – 130 متـرًا عــن المستـوى الحـالي. وتميـز عصـر الهولوسـين المبكر بحدوث تجاوزات بحرية لهذا المستوى في بعض المناطق، وهو الأمر الذي انعكس على مواقع غابات القرم بالعالم.
وكان للاختلافات الإقليمية أثر واضح على تأثر غابات القرم بارتفاع مستوى سطح البحر، وبخاصة في المناطق الأقرب للصفائح الجليدية خلال العصر الجليدي الأخير، مثل فلوريدا ومنطقة البحر الكاريبي. ويعتمد هذا التأثر على التفاعل بين عمليات تغيير السطح (مثل الرواسب وتراكم المواد العضوية) والارتفاع النسبي لمستوى سطح البحر. وغرق القرم عندما تجاوزت معدلات الارتفاع النسبي لمستوى سطح البحر الحد المناسب، كما وقع خلال عصر الهولوسين المبكر.
ومنذ 7000–5300 سنة، حدث تباطؤ في معدل ارتفاع مستوى سطح البحر، ومن ثم ازداد التأثير النسبي لتراكم الرواسب، حيث أدى إلى تسهيل ملء مصبات الأنهار، مما أدى إلى إنشاء منطقة بين مدية intertidal zone شاسعة مكنت أشجار القرم من مواكبة الارتفاع في مستوى سطح البحر. ومنذ أقل من 5300 عام، أصبحت السهول الفيضية التي كانت تهيمن عليها أشجار القرم مملوءة بالأعشاب ونبات البردي، وانحسرت أشجار القرم إلى شواطئ مصبات الأنهار.
استخدام القرم قبل التاريخ
اعتبارًا من منتصف الهولوسين إلى أواخره، انخفض معدل الاستخدام البشري لموارد القرم، وذلك بسبب التغير في مستوى سطح البحر. ومنذ 6500 سنة مضت، استخدم الإنسان القديم فحم القندل (القرم الأحمر) في تجارته. وفي ذلك الوقت تقريبًا، نعمت المجتمعات البدوية في الشرق الأوسط بالاستقرار حول السواحل، واختارت المناطق القريبة من أشجار القرم للعيش فيها؛ حيث كان اقتصاد الكفاف يعتمد على الخشب والمحار. وعبر التاريخ، استمرت المجتمعات الساحلية في استخدام القرم، وانتشرت تجارتها به على مدى القرون القليلة الماضية. فتم إنشاء طرق تجارية لأخشاب القرم بين شرق إفريقيا والشرق الأوسط لعدة قرون. وربما أدى ذلك إلى تدهور القرم في المناطق التي قُطِعت فيها أشجاره بكثافة، وربما كان لذلك بعض التأثير على مساحة أيكات القرم في عدة مواقع بالعالم.
القرم في كتابات القدامى
لعل أول وصف تاريخي لأشجار القرم وصل إلينا هو ما كتبه نيرشوس Nearchus، الأميرال اليوناني لأسطول الإسكندر الأكبر، في عام 325 قبل الميلاد. ففي سجلاته (Chronicles of Nearchus) وصف أشجار القرم في البحر الأحمر والخليج العربي ودلتا السند. وبعد ذلك بعشرين عامًا (أي في عام 305 قبل الميلاد)، أشار ثيوفراستوس، تلميذ أرسطو، أيضًا إلى أشجار القرم في كتابه (استطلاع عن النباتات)، قائلا: “لكن هناك نباتات في البحر يسمونها: “الخليج” و”الزيتون”. وفي الجزر التي يغطيها المد، يقولون إن الأشجار الكبيرة تنمو، بحجم شجرة الدلب أو أطول أشجار الحور…”. كما تحدّث ثيوفراستوس عن بعض الفوائد الطبية للقرم، حيث ذكر أن بذوره وبادراته (من نوع الريزوفورا) كانت تؤكل باعتبارها مقويًا جنسيًّا. وأكد ذلك العالم المغربي ابن عباس النباتي عام 1230م، الذي أضاف أنه تستخلص منه مواد طبية لعلاج أمراض اللثة وأمراض الكبد.
وفى عصر ازدهار الحضارة الإسلامية (من عام 1000 إلى 1300 ميلادية) ذكر المؤرخون أن قلف نبات القرم (من النوع ريزوفورا) كان يستخدم كثيرا في عمليات الدباغة والصباغة. كما أن أخشاب القرم استخدمت آنذاك في صناعة الأثاث والقوارب نظرا لمقاومتها لسوس الخشب.
القرم ما قبل كولومبوس
أدت أشجار القرم دورًا مهمًا في أسلوب حياة العديد من المجتمعات الساحلية، وارتبطت هذه الأشجار ارتباطًا وثيقًا بالحضارة الإنسانية. ففي الهند وجزر سليمان وكينيا يُنظر إلى مواضع وجود القرم على أنها أماكن مقدسة حيث تُشيد المعابد لأشجارها. وفي أمريكا اللاتينية، تتضح أهمية موائل القرم في ثقافات السكان الأصليين من خلال بيانات علم الآثار الحيوانية، التي تدعم الاستدلالات الأنثروبولوجية الثقافية حول الحياة والبيئة في فترة ما قبل التاريخ. وقبل وصول كولومبوس إلى العالم الجديد، استخدمت الشعوب الأصلية في الأمريكتين أشجار القرم بشكل مكثف في الحصول على الأخشاب، والفحم، والعفص (لدباغة الجلود)، وفي جمع المحار الموجود (في بيئتها)، وصيد الأسماك (التي تأوي إلى جذورها). وغالبًا ما تمثل الأحياء التي تنتشر في بيئة أشجار القرم كتلة حيوية كبيرة يمكن الوصول إليها من الأرض، ويمكن جمعها وحصادها أو صيدها بسهولة بتقنيات بسيطة (باليد، والأسيجة والفخاخ). وقد أدى ذلك إلى إنتاج مصدر ثابت للبروتين الحيواني وإلى تعزيز النمو السكاني، واستيطان الجماعات البشرية. ويعود تاريخ الاستزراع الساحلي لفالديفيا Valdivia (الإكوادور) إلى الفترة التكوينية المبكرة (1800 قبل الميلاد – 200م)، وهو دليل على الصيد الواسع النطاق للأسماك والرخويات البحرية من موائل القرم، وكذلك على صيد الطيور التي تعشش في أشجار القرم (مثل أبي منجل، والبط، والطيور المائية).
وفي بداية انتقال المجتمعات الأصلية من الحياة البدوية إلى مرحلة العيش المستقر، يُعتقد أن موائل القرم أدت دورًا أساسيًّا في هذا الاستقرار. وقد تكون خصوبة وتنوع الأراضي الساحلية المنخفضة المتاخمة لأشجار القرم سببًا في توفير مكان مناسب لمجتمعات الصيادين وجامعي الثمار في ساحل الإكوادور، حيث بدأوا بزراعة نباتات صالحة للأكل. وقد عُثِر على أدلة على استخدام سكان المجتمعات الأصلية في فترة ما قبل كولومبوس لموارد القرم في المنطقة الاستوائية الشرقية للمحيط الهادي.
وفي الفترة الممتدة بين عامي 700 قبل الميلاد و500م، كانت الحضارة المسماة (توماكو/ توليتا)، التي ازدهرت في المنطقة الواقعة بين بوينافانتورا (كولومبيا) وإزميرالداس (الإكوادور)، قائمة على حصاد منتجات بيئة القرم، من الرخويات والأسماك وسرطان البحر والطيور والثدييات البحرية. وقد استفادت المجتمعات التي تنتمي إلى تلك الحضارة واستوطنت تلك المنطقة قبل وصول كولومبوس من الأسماك التي تعيش في بيئة القرم.
القرم في العالم الجديد
كان أول مؤرخ إسباني يصف غابات القرم الموجودة في القارة الأمريكية هو (غونزالو فرنانديز دي أوفييدو)، وذلك في عام 1531م في كتابه (التاريخ العام والطبيعي لجزر الإنديز)، فقد كتب يقول: “القرم هو أفضل الأشجار في هذه الأراضي، وهو منتشر في هذه الجزر (جزر الأنتيل الكبرى) وفي مقاطعة تييرا فيرم (التي يقع معظمها في برزخ بنما). ويعد خشب القرم من أفضل الأخشاب المتوافرة لبناء الرفوف وأعمدة ودعامات المنازل والأسوار والإطارات الداخلية والأبواب والأشياء الصغيرة الأخرى… ولحاء أشجار القرم هذه جيد بشكل فريد لدباغة جلد البقر في وقت قصير”.
وقد استخدمت بعض المجتمعات الساحلية التي كانت تعيش في الأمريكتين في فترة ما قبل وصول كولومبوس خشب القرم في العديد من أغراض التشييد والتدفئة. وفي المراحل الأولى من استعمار العالم الجديد كثف الإسبان استغلالهم لخشب القرم حيث استخدموه في أعمال البناء، وخاصة بناء السفن، بسبب خصائصه المقاومة للماء وصلابته وطول جذوعه. وكان لحصاد أخشاب القرم دور مهمٌّ في البناء وصناعة الجلود، كما اُستخدِم فحم القرم في إنتاج السكر. ولهذه الأسباب، أصبح خشب القرم جزءًا من الضريبة أو “الجزية” التي يتعين على المجتمعات الأصلية دفعها لملك إسبانيا.
وخلال القرن السابع عشر الميلادي، كان الإسبان حريصين على توسيع نطاقهم البحري، فشجعوا على بناء أحواض بناء السفن في المدن الساحلية الإستراتيجية للإكوادور وكوستاريكا وبنما. وتطلبت هذه الأحواض كميات كبيرة من خشب أشجار القرم. وادعت الملكية الإسبانية أن حوض بناء السفن في غواياكيول (التي تُعَدُ أكبر مدينة في الإكوادور) هو أهم حوض لبناء السفن على ساحل المحيط الهادي للأمريكتين بسبب جودة السفن التي تشيّد فيه. وبين القرن السادس عشر ومنتصف القرن الثامن عشر، كان الطلب على الأخشاب لحوض بناء السفن وبناء الكنائس والمباني في (ليما) (عاصمة بيرو) مرتفعًا جدًّا، حتى إن أعمدة القرم التي كانت تصدر من المحيط الهادي لكولومبيا وصلت إلى ستة آلاف عمود سنويًا. كما تم تصدير خشب القرم من الإكوادور إلى بيرو لبناء مدن ساحلية مثل ليما، بسبب نقص الغابات في بيرو. وذكر جورجي خوان وأنطونيو دي أولوا كيفية استغلال خشب القرم في الإكوادور في كتابهما: (أخبار أمريكا السرية)، المنشور عام 1747م، فقالا: ” في أعمال البناء والإصلاح يستخدمون كميات كبيرة من أشجار القرم التي يأخذها الملك الإسباني سنويًّا من غواياكيل… وإن فقدان أشجار القرم يرتفع إلى كميات كبيرة جدًّا”.
وكان الطلب على أخشاب القرم عاليًا جدًا لدرجة أن الملكية الإسبانية أصدرت لوائح لاستغلال تلك الأخشاب، وكانت تلزم من يريد ذلك بضرورة الحصول على تصاريح خاصة لقطع بعض أنواع القرم. واستمر نشاط قطع أشجار القرم بدون مراقبة أو انضباط لسنوات عديدة دون أي إعادة زرع لهذه الأشجار.
ووصل استغلال القرم وتسويقه إلى المستويات الصناعية بعد عام 1948م، عندما احتكرت شركتان تقعان في بوينافينتورا إنتاج مادة العفص (التانين) التي تستخدم صناعيًّا في دبغ جلود الحيوانات وصناعة الحبر، والتي تنتج من قلف القرم، وذلك لفترة الثلاثين عامًا التالية. وبحلول عقد الستينيات من القرن الماضي، كانوا يحصدون نحو 3000 طن من خشب القرم شهريًّا، معظمها من أشجار القرم الحمراء (القندل). وبحلول سبعينيات القرن الماضي، وصل استغلال خشب القرم في كولومبيا في أعمال البناء واستخراج مادة العفص إلى ذروته، ثم انهار لاحقًا لسببين: أولهما انخفاض الأسعار في كولومبيا بسبب السوق الدولية للعفص (التانين)، والآخر زيادة معدلات إزالة غابات القرم من أجل تصنيع العفص.
وقد استخدموا جذوع الأشجار الكبيرة للقرم في صنع أعمدة خطوط الكهرباء وعوارض السكك الحديدية. ولأكثر من 400 عام، كان الحصول على الأرباح الكبيرة هو الدافع الأساسي لقطع القرم؛ مما تسبب في إزالة غاباته على نطاق واسع. وقد انقرضت أشجار القرم من العديد من سواحل البحار في العقود الأخيرة. ففي الكويت مثلًا، كانت هذه الأشجار في فترة الأربعينيات موجودة على شاطئ البحر في منطقتي الخويسات وكاظمة. وتذكر ليندا شعيب في كتابها (زهور الكويت البرية) “أن شجر القرم كان يحتطب من شواطئ الخويسات، ويباع داخل سور الكويت للاستخدام كوقود وذلك في منتصف الأربعينيات وقبلها”.
ويذكر المؤرخ الكويتي فرحان عبدالله الفرحان في (معجم المواضع والمواقع والأمكنة في الكويت) أن الكويتيين القدماء “كان يأتون بسفنهم من مدينة الكويت، وترسو سفنهم على الساحل المحاذي لجبل غضي، ثم ينزلون ومعهم أكلهم وحميرهم للاحتطاب في هذه المنطقة لأخذ شجر القرم وشجر الطلح”. وجبل غضي يبعد عن كاظمة 14 كيلومترًا شرقا.
موارد القرم في العصر الحديث
ارتبط التحول من اقتصاد الكفاف إلى الاستخدام الصناعي لموارد القرم بالإدارة الاستعمارية لثروات العالم خلال الفترة من القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن العشرين. ففي الأمريكتين، نظم الاستعمار الإسباني في خمسينيات القرن الثامن عشر عمليات حصاد القرم؛ لأن ارتفاع الطلب على أخشابه لبناء السفن أدى إلى الإفراط في حصاد أشجاره. كما أُنشِئت محميات القرم من قبل الاستعمار الألماني في شرق إفريقيا في القرن التاسع عشر لكي تتنافس بأخشابه مع تجارة الأخشاب في أوروبا.
وتتمتع منطقة جنوب شرق آسيا بتاريخ طويل من استغلال وإدارة القرم، حيث أنشأت الدول الاستعمارية محميات لغاباته في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لإنتاج الأخشاب والفحم النباتي. وبحلول القرن التاسع عشر الميلادي، تمت إزالة أشجار القرم من أجل زراعة جوز الهند، كما حدث على طول الساحل الكاريبي لكولومبيا. وتشير الدلائل إلى أن غابات القرم في أجزاء كثيرة من المناطق الاستوائية كانت قد بدأت تعاني من إزالة أيكاتها، مما أدى إلى تدهورها بشكل كبير. وفي بعض المواقع، حدث توازن إلى حد ما بين عمليات قطع القرم ونموه، مما أدى إلى اتساع نطاق غابات القرم في بعض البلدان مثل نيوزيلندا.
وركزت الكتابات العلمية التي أُلِّفَت حول القرم بين القرنين السابع عشر والعشرين بشكل أساسي على وصف مورفولوجيا نبات القرم، وموائله، وتوزيع غاباته، وتنوع أنواعه، والتصنيف العلمي له. ومنذ عام 1900م تقريبًا فصاعدًا، ظهرت دراسات ركّزت على الدور البيئي لأشجار القرم. وفي النصف الثاني من القرن العشرين بدأت أولى المبادرات العامة للحفاظ على غابات القرم بعد أن كشفت بعض الدراسات عن قيمتها الاقتصادية بسبب دورها في إثراء الشبكة الغذائية. ونتيجة لذلك، فإن تصوراتنا عن أنظمة القرم قد تغيرت، فبدلا من اعتبارها أرضًا قاحلة تتكون من تربة غير صحية، أصبحنا نراها أنظمة إيكولوجية معقدة يعتمد عليها البشر.
وفي الوقت الحاضر، ترتبط إزالة القرم بتربية الأحياء المائية والزراعة واستخدامات الأراضي الحضرية. ولا يزال الحصول على أخشاب القرم سببًا في تدهور الغابات المتبقية، على الرغم من التهديدات الجديدة التي تشمل التخلص من النفايات الصلبة، والتلوث، وارتفاع مستوى سطح البحر، والصيد الجائر.