معارك الطاقة الكبرى رهانات الحاضر والمستقبل
والكتاب الذي صدرت الطبعة الأولى له باللغة الفرنسية جدير بالمطالعة والتأمل، لاسيما أن مؤلفه عمل أستاذا للاقتصاد بجامعة باريس – دوفين، وأدار مركز دراسات الجغرافيا السياسية للطاقة والمواد الخام الأولية (CGEMP)، وكان مسؤولاً عن الدراسات في مركز أبحاث كامبريدج حول الطاقة، وله عشرات الكتب والأبحاث حول الطاقة. وقد ترجمته لميس غزب إلى العربية ونشرته «المجلة العربية» في السعودية باعتباره يشكل إضافة إلى المكتبة العربية في هذا الشأن. ومقدمة المؤلف التي عنونها «أرض المعركة»، تستغرق نحو 50 صفحة من أصل 408 صفحات من القطع المتوسط، موزعة على ستة فصول ونحو مئة عنوان فرعي لا تسهّل القراءة فحسب، بل تشكل دليلاً إرشادياً للقراءة الانتقائية، فهي بمنزلة بوصلة لمن يريد التوقف عند موضوع محدد، مثل تأميم الإمدادات، الفحم ملكاً، نزوات النووي.. وهكذا.
سيناريوهات الوقائع والحقائق
ويَرى الكاتِب أنَّه من العقم بمكان الانجرار وراء التوقعات والاستشراف، وأنَّ الأجدى للجميع الذهاب إلى رسم سيناريوهات مبنية على عوامل ووقائع وحقائق قائمة، تأخُذ بالحُسبان التسلسل المنهجي الدقيق الذي يوازن بين «العناصر المحددة سلفاً والقوى المحركة والشكوك»، ثم تشرح المقدمة باقتضاب هذه العناصر والشكوك.
ولا يغفل الكاتب عن رهانات وصراع القوى ودور الفاعلين الكبار في الصناعات النفطية والغاز والكهرباء والفحم، والأسئلة المركزية التي «تتبدى في قلب إشكالية الطاقة في القرن الحادي والعشرين»، فضلاً عن حركة الاستثمارات وتوجهاتها والأخطار المواكبة لها.
معارك الماضي.. دروس التاريخ
يعنون الكاتب الفصل الأول بعبارة لها مغزى: (معارك الماضي.. دروس التاريخ). والحقيقة الساطعة في هذا الاسترجاع «أن أولى المعارك الكبرى للطاقة هي الحرب من أجل النار» بين القبائل في العصر الحجري، وهكذا استمر الأمر إلى يومنا هذا؛ لأن حياة الإنسان والبشرية ارتبطت بمصادر الطاقة على طول الزمان، مهما كانت طبيعة التطورات.
وفي هذا الفصل تتوالى الحكايات بدءاً بالفحم الذي مازال يمثل اليوم 52% من حاجاتنا من الطاقة، مروراً بدخول البترول إلى ساحة المعارك التي اشتدت ضراوتها في منتصف القرن التاسع عشر، وغدا البترول برعاية الشركات الدولية السبع الكبرى أو «الأخوات السبع» عصب القوة العسكرية والاقتصادية في آنٍ معاً، وصولاً إلى ما أطلق عليه الكاتب وصفاً بارعاً وهو (نزوات النووي: الأوهام والأزمة والوعود).
إنها محطات تاريخية ومعارك محتدمة متشابكة الخطوط والجبهات: التكرير، الأسعار، الاحتكار، التنقيب، شبكات توزيع الكهرباء، تنافس الشركات والدول على العائدات وحركة رؤوس الأموال، وخفايا توزيع واقتسام الغنائم، وقصة التكتلات السرّية التي كانت تحرص غداة الحرب العالمية الثانية على تحقيق السلام النفطي ورفع الأرباح إلى أقصى مستوى، وأطماع الجميع في وضع اليد على جغرافية الشرق الأوسط الواعد بالاحتياطيات الضخمة. وأدى سير المعارك الشرسة إلى ولادة (أوبك) والصدمتين النفطيتين وتداعيات الحالة التي أفضت بالضرورة إلى «عولمة الطاقة»، وإلى وضع ضوابط حاكمة تخفف من غلواء المعارك الخفية والمعلنة على الموارد النفطية.
معارك أوروبية
«المعارك الأوروبية من أجل تحرير أسواق الطاقة» هو عنوان الفصل الثاني، وتتطلّع هذه المعارك إلى بناء سوق موحدة يستدعي أساليب جديدة لتنظيم العلاقة بين الدول والأسواق، خصوصاً بعد انقضاء فترة الثلاثين الذهبية 1975-1945 وبدء ظهور علامات الإجهاد على النمو، وعدم قدرة القطاع الصناعي على رفع وتائر الإنتاج.
وفي كواليس هذه الصورة الرمادية عمل الاقتصاديون على ابتكار نمذجة جديدة للتخطيط، وفي الوقت نفسه كان هناك من يتظاهر ويشكو في الشارع وفي المناجم، ويتصاعد التقابل بين القطاع العام والخاص، ويزداد انشغال الحكومات بمسألة الغاز الروسي وغازات الدفيئة والنووي، ومعها يزداد البحث عن حلول استراتيجية لمستقبل تكتنفه الشكوك حيال الاحتكارات والبنى التحتية والمنافسة، وحفز الروح الأوروبية نحو تنشيط التقدم التقني والتجديد.
وفي هذا السياق عمل كل بلد أوروبي على تأسيس سلطات للضبط قادرة على بناء قطاع طاقة فاعل ومستقر. وعلى هذا الصعيد وانطلاقاً منه انفلت عقال عمليات الدمج والشراء في أوروبا في مجال الطاقة.
لكن كل التحولات الناجمة عن المعركة بين الدول والأسواق أفضت إلى قناعات مفادها أن آليات السوق لا تبدو قادرة على حل مشكلات المدى القصير والمتوسط والبعيد، وانتبه الجميع إلى ضرورة إيجاد أشكال جديدة من الضبط.
أسواق الكهرباء
أما الفصل الثالث فخصصه الكاتب شوفالييه لدراسة مسألة أسواق الكهرباء الجديدة، وهي «الأحدث والأعقد» كما يقول، ودراسة طَرَفيها المُتمثّلين بتفكيك الاحتكارات القديمة، وتشجيع دخول فاعلين جُدُد.
إن الكهرباء وأسواقها وحجم التنافس المتصاعد بحثاً عن توازن لا تكتمل شروطه، يؤدي بهذه الصناعة إلى اعوجاج محرج على صعيد الاستثمار وفاعليته، ويحتاج هذا الاحتجاج إلى منهجيات ذكية ونافعة لضبطه.
ويفصّل المؤلف ويشرح بعض وجوه هذه المنهجيات، ومنها إصلاح أنظمة الكهرباء، والإنتاج المستقل، وتطوير الشبكات، وهيكلة سوق الكهرباء، ووضع المعايير الناظمة للصفقات بين الدول.
بريق الغاز الطبيعي
منذ عقود دخل الغاز الطبيعي إلى ساحة معارك الطاقة مكللاً بشهرة وبريق صفاته الأقل تلويثاً للبيئة، ولسحر احتياطياته الهائلة وقدرته على خفض تكلفة إنتاج الكهرباء. ولولا غلاء كلفة نقله مقارنة بالنفط، وصعوبة تطوير حقوله، لأصبح مصدر الطاقة الملك.
وفي الفصل الرابع يمر المؤلف سريعاً على الجغرافية السياسية لاحتياطيات الغاز وتوزعها، ويرصد ويتتبع أسواق الغاز العاجلة والآجلة، وشبكة وأنابيب توزيعه وممراته. ويبحث أيضاً في صناعة الغاز وأجزائها والطلب المتنامي عليها.
ويكشف عن دور تجمع كبرى شركات الغاز الأوربية وتكوّن «نادي الغاز» الذي يؤدي دوراً أساسياً في تغير توجهات أوروبا الطاقوية. ويرى أنه لا مناص من ظهور نظام جديد للغاز الأوروبي قائم على المنافسة، وأن هذا القرن سيشهد التحول إلى عولمة أسواق الغاز التي تلتقي فيها آسيا وأوروبا، وتمثل تركيا نقطة التقاء حقيقية بينهما، وتتسم هذه الأسواق بميزتين اثنتين هما: المنافسة والمرونة.
ويستعرض المؤلف في الفصل الخامس احتياطيات النفط واستهلاكه والمخزونات والاكتشافات في العالم وتأويل الأرقام المصاحبة لها، والقوى الاقتصادية التي تتحكم في تدفق أموال النفط، وإمكان عقد شراكة جديدة للطاقة تخفف من حدّة التناقضات الموروثة في الساحة بين أمريكا وروسيا وأوروبا، وخصوصاً بعد أن استولى «رجال النفط» الكبار على الدور الذي كان يلعبه «جنرالات التخطيط الحكومي»، وكل ذلك لتخفيف وطأة أخطار التوزيع غير العادل لأموال النفط.