مستقبل الطاقة النووية و تطبيقاتها الحديثة
د. وفاء محمد سالم
بعد الهجوم بالقنابل النووية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي وانتهاء الحرب العالمية الثانية بات واضحا على المستوى الدولي القدرة الهائلة للطاقة النووية. واتجه التفكير بعد ذلك إلى إنشاء مفاعلات عملاقة وتطويرها لتطويع هذه الطاقة بما يسمح باستخدامها في المجالات الصناعية المدنية لتحسين نمط حياة الإنسان ودعم السلام الدولي. وإضافة إلى العمل على التطبيقات السلمية للطاقة النووية استمر السعي إلى استخدامها مرة أخرى في الأغراض العسكرية من خلال صنع مفاعلات خاصة بدفع السفن والغواصات الحربية.
انطلاق صناعة جديدة
استمرت الدراسات في الخمسينيات والستينيات على نماذج من المفاعلات في الولايات المتحدة الأمريكية مثل المفاعلات التي يختلط فيها المبرد والمهدئ والوقود معا، وكذلك المفاعلات المبردة بالسوائل العضوية وغيرها من النماذج، حتى توصل العلماء إلى مفاعلات الماء الخفيف؛ وهي مفاعلات عملية في التشغيل ومجدية اقتصاديا.
وبذلك انطلقت صناعة جديدة على المستوى العالمي هي صناعة المفاعلات العملاقة لإنتاج الطاقة الكهربائية. وحاليا تعتبر فرنسا أكثر الدول اعتمادا على الطاقة النووية في توليد الكهرباء، إذ تزيد نسبتها في ذلك على 75% من إنتاجها للطاقة الكهربائية. ويعتبر اليورانيوم الوقود الأساسي في الطاقة النووية، ويتوقع زيادة الطلب عليه مستقبلا نظرا لزيادة الطلب على الطاقة ولاسيما الكهربائية.
مصادر الطاقة
هناك مصدران أساسيان للطاقة:
المصادر المتجددة: هي مصادر طبيعية دائمة وغير ناضبة ومتوفرة في الطبيعة ومتجددة باستمرار ما دامت الحياة قائمة. ومن أهمها الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، وطاقة المد والجزر، والأمواج، والطاقة الحرارية الجوفية، وطاقة المساقط المائية، وطاقة المخلفات العضوية.
المصادر غير المتجددة: هي المصادر الناضبة – أي التي ستنتهي مع الزمن لكثرة الاستخدام – وهي موجودة في الطبيعة بكميات محدودة وغير متجددة، مثل الوقود الأحفوري (النفط والغاز والفحم)، واستخراج مادة اليورانيوم (في الشكل الصخري) التي تستخدم في توليد الكهرباء.
الطاقة النووية و الوقود النووي
تعتبر محطات التوليد النووية نوعا من محطات التوليد الحرارية البخارية، فهي تولد البخار بالحرارة التي تتولد في فرن المفاعل. أما في محطات الطاقة النووية فبدلا من الفرن الذي يحترق فيه الوقود يوجد فرن ذري يحتاج إلى جدار عازل وواق من الإشعاع الذري، وهو يتكون من طبقات واقية تنتهي بطبقة من الأسمنت تبلغ ثخانتها مترين، لحماية العاملين في المحطة والبيئة المحيطة من التلوث بالإشعاعات الذرية. والمفاعل الذري تتولد فيه الحرارة نتيجة انشطار ذرات اليورانيوم بضربات الإلكترونات المتحركة في الطبقة الخارجية للذرة. وتستغل هذه الطاقة الحرارية الهائلة في غلي المياه في الغلايات وتحويلها إلى بخار ذي ضغط عال وحرارة عالية. ثم يسلط البخار على توربينات (عنفات) بخارية مصممة بحيث يتولى البخار السريع تدوير التوربينات التي تولد بدورها الطاقة الكهربائية اللازمة.
وأول محطة توليد حرارية نووية في العالم نفذت في عام 1954 وكانت في الاتحاد السوفييتي بطاقة 5 ميغاوات.
المناخ و الطاقة
عند النظر في الانبعاثات على مدى دورة عمر توليد الطاقة الكهربائية باستخدام خيارات طاقة مختلفة، نجد أن الطاقة النووية، جنباً إلى جنب مع طاقة المياه وطاقة الرياح، لا تقود إلى انبعاثات ثاني أكسيد الكربون (CO2) عند إنتاج الكهرباء وهي من بين أقل المسهمين في غازات الدفيئة. وعند أخذ دورة العمر ككل في الحسبان، نجد أن الطاقة النووية من بين أقل المتسببين في الانبعاثات مقارنة بتلك الناجمة عن موارد الطاقة المتجددة. وللطاقة المتجددة مزايا عدة أهمها صداقتها للبيئة، غير أن مما يؤخذ عليها أنها تعتمد على هبوب الرياح أو سطوع أشعة الشمس. والطاقة النووية مكمِّل مفيد في هذا الصدد؛ فبإمكانها أن تنتج الطاقة على نحو مستمر وبكفاءةٍ معظم أيام السنة، ليلَ نهار (تم تحقيق معدلات تتجاوز 90% على نحو منتظم في بلدان عدة). كذلك يمكن نشرها على نطاق واسع، ما يجعلها تناسب متطلبات المدن والصناعة من الكهرباء.
والطاقة النووية قد تساعد البلدان على التغلب على تحدي الطاقة على النحو المبين في اتفاق باريس 2015 الذي يدعو الحكومات إلى الحد من زيادة درجة الحرارة المتوسطة العالمية إلى ما دون درجتين مئويتين من مستويات ما قبل الحقبة الصناعية؛ لذا يتعين علينا أن نزيل الكربون من قطاع الطاقة من أجل السيطرة على الآثار الكارثية للاحترار العالمي.
ويمكن أن تواصل الطاقة النووية دورها في تعزيز التنمية المستدامة من خلال توفير الطاقة اللازمة للأعداد المتزايدة من السكان ولمجتمع ماضٍ في التصنيع. ويمكنها أن تحقق ما سبق بتأثير أقل على المناخ والبيئة عند المقارنة بمعظم أنواع الطاقة.
التطبيقات السلمية للطاقة النووية
السفن الحربية
في عام 1954 استخدمت الطاقة النووية في تسيير السفن الحربية، ولاسيما الغواصات. فالمحركات التي تعمل بالطاقة النووية تساعد على بقاء الغواصات مدة طويلة تحت سطح البحر قد تصل إلى عدة أشهر وإنجاز رحلات طويلة حول العالم دون الحاجة إلى اللجوء إلى الموانئ للتزود بالوقود. وهناك حاليا عدد هائل من الغواصات وحاملات الطائرات العملاقة وكاسحات الجليد التي تسير بواسطة الطاقة النووية.
الزراعة والغذاء
يستخدم المزارعون في عدة دول الإشعاع لمنع الحشرات الضارة من التكاثر والتقليل من أعدادها وحماية المحاصيل الزراعية، ومن ثم توفير كميات أكبر من الغذاء للعالم. ويعمل تعريض الطعام للإشعاع (التشعيع) على قتل البكتيريا والكائنات الضارة الأخرى فيه، ويعتبر نوعًا من التعقيم، لكنه لا يحول الطعام إلى غذاء مشع أو يؤثر في القيمة الغذائية للطعام. ويعد التشعيع السبيل الوحيد لقتل البكتيريا في الأطعمة النيئة والمجمدة بطريقةٍ فعّالة.
الطب
توفر التقنيات النووية صورًا لداخل جسم الإنسان وتسهم في علاج بعض الأمراض. وعلى سبيل المثال، تمكن الأطباء من تحديد كمية الإشعاع اللازمة بدقّة لقتل الخلايا السرطانية دون الإضرار بالخلايا السليمة. والتصوير بالأشعة يعتبر من أهم أدوات التشخيص الطبية، وهو يعتمد على الإشعاع ويتيح للأطباء فرصة الاطّلاع على جسم الإنسان من الداخل. وتستخدم المستشفيات أشعة غاما لتعقيم المعدّات الطبية بأمان وبتكلفة متدنية، مثل الحُقن وضمادات الحروق والقفازات المستخدمة في الجراحة وصمامات القلب.
استكشاف الفضاء
مكّنت التقنية النووية العلماء من استكشاف الفضاء بدقة، إذ تُستخدم الحرارة الناتجة عن البلوتونيوم لتوليد الكهرباء في مولّدات المركبات الفضائية التي تعمل من دون طيار ويمكنها العمل لعدة سنوات. وعلى مدار الأعوام الخمسين الماضية، استخدمت 27 بعثة فضائية تقنية الطاقة النووية لاستكشاف النظام الشمسي، فهي مصدر موثوق وطويل الأمد للكهرباء، ويمكنها تشغيل هذه المركبات الفضائية حتى أثناء تجولها في عمق الفضاء. فالمركبة الفضائية فوياجر 1 التي أُطلقت عام 1977 لدراسة النظام الشمسي الخارجي ما زالت ترسل بيانات حتى اليوم. إضافةً إلى ذلك، تعمل المركبة الفضائية «مارس روفر» أو ما يطلق عليها «كيوريوسيتي» بمولّد للطاقة النووية، يوفر طاقة كافية تسمح للمعدات المتطورة بجمع العينات وتحليلها وإرسال البيانات إلى الأرض. ويساهم مولّد الطاقة النووية في إبقاء أنظمة المركبة ضمن درجات الحرارة المطلوبة واللازمة لاستكمال العمليات بفعالية على كوكب المريخ الذي يتسم بدرجات حرارة منخفضة.
تحلية المياه
ذكرت الرابطة النووية العالمية أن خُمس سكان العالم لا يملكون مياها صحية وآمنة للشرب، ومن المتوقع أن يرتفع هذا المعدل. وهنا يأتي دور الطاقة النووية؛ إذ تتطلب عملية التحلية كمية كبيرة من الطاقة يمكن للمنشآت النووية توفيرها.
الغواصات النووية
نوع من الغواصات يعمل بالطاقة النووية ومزود بمفاعل نووي داخلي. يعطي محرك الطاقة النووية للغواصة مزايا عديدة. وعند مقارنة هذا النوع بالغواصات العاملة بالديزل، نجد أن العاملة بمفاعل نووي لا تحتاج إلى الهواء الذي تحتاج إليه ذوات محرك الديزل لتكوين الاحتراق الداخلي لتوليد طاقة الحركة الضرورية للمسيرة تحت الماء، إضافة إلى بقاء الغواصة لمدد طويلة في رحلات بعيدة من دون الحاجة للتزود بالوقود. فالوقود النووي هو كمية صغيرة مقارنة بكميات هائلة من زيت الديزل. وتلك الغواصات ذات كلفة عالية، وتحتاج إلى عاملين مختصين في مسائل التشغيل النووي، والتصرف الصحيح في حالات الخطر والوقاية من الإشعاع.
أنتجت الولايات المتحدة الأمريكية أول غواصة نووية عام 1954، وعرفت باسم (يو أس أس نوتيلوس) وبلغ طولها 103.3 متر وعرضها 8.6 متر، وكانت تستطيع الغوص حتى عمق 229.3 متر. وفي الجانب السوفييتي دخلت أول غواصة نووية الخدمة عام 1958.
فوائد كثيرة
مما سبق نجد أن الطاقة النووية ليست كلها مخاطر وأضرار تصيب البشر والكائنات الأخرى، بل لها فوائد عديدة إذا أحسن استخدامها في نفع البشرية ورفاهيتها، ومن أهمها توليد الطاقة النووية وتحويلها إلى طاقة كهربائية بواسطة محطات الطاقة الكهربائية، كما يمكن الحصول عليها بواسطة المحطات الحرارية التي تعمل بالوقود العادي (النفط والفحم) لكن هذه الموارد محدودة. وللمقارنة فإن طنا واحدا من اليورانيوم يعطي طاقة تعادل الطاقة الناتجة من ملايين الأطنان من الفحم أو ملايين البراميل من النفط. وحرق الفحم والنفط يؤدي إلى تلوث البيئة في حين أن أي مفاعل نووي مصمم بشكل جيد ويعمل تحت رقابة وإشراف لا يؤدي إلى إطلاق أي نوع من الملوثات في الجو. كما أن المحطات الحرارية تزيد من تلوث الهواء نتيجة لإحراقها للوقود وانطلاق كميات كبيرة من غاز أول أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكبريت.
والدول المنتجة للنفط أكثر الدول احتياجا للطاقة النووية وتعزيزا لأمن الطاقة تحسبا لنضوب النفط. وتعد البلاد العربية من أكثر مناطق العالم معاناة من شح المياه. ومع تغير المناخ يتوقع أن تصبح موجات الجفاف أشد حدة وأن تتفاقم مشكلة ندرة المياه. لذا ينبغي اتخاذ إجراءات صارمة على الصعيد العالمي لتخفيف آثار ذلك، والتكيف فيما يتعلق بتغير المناخ وتنفيذ الخطط المستقبلية للاختيار الأمثل لتوفير الطاقة.