علم معرفة رموز الأقلام إنجاز عربي حضاري
د. محمد حسان الطيان
«لقد سبق العرب علماء أوروبا في حل رموز الخطوط القديمة وترجمة كتبها إلى العربية، ولا إخال أن أوروبا توصلت إلى حل رموز الآثار والوقوف على علوم من سبق من الأمم إلا بواسطة كتب العرب وترجمتها إلى لغتهم»، بهذه العبارة أبرز الباحث محمد رشدي المصري الدور المهم الذي أداه العرب في (علم معرفة رموز الأقلام) والإنجازات اللاحقة التي حققوها في ميدانه. ولقد وضع العرب في ذلك العلم مصنفات أحصوا فيها الكثير من اللغات والأقلام القديمة، وتتبعوا رموز اللغات البائدة، لكن ماوضعوه غاب عنا، وعن كثير من الباحثين، فنسب العلم إلى الآخرين ونسي أصحابه الحقيقون.
وهذا العلم هو علم جليل يتصل اتصالا وثيقا بعلم التعمية واستخراج المعمى (أو الشفرة وكسر الشفرة) الذي عمل فيه كاتب المقال مع اثنين من الباحثين ، وأخرجنا فيه سفرين كبيرين، اشتملا على تحقيق 11 رسالة مخطوطة في هذا الفن، مع دراسة تحليلية لكل منها، وتأريخ مستفيض لمراحل التأليف فيها وعوامل ظهورها. وقد نشرهما مجمع اللغة العربية بدمشق عامي 1997 و 1987م بعنوان (علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب).
مخطوط عربي نادر في عام 1806 نشر المسـتشـرقُ هامّر
J.Von Hammer بلندن كتابا لأحد العلماء العرب يدعى ابن وحشيةَ النبطي (توفي بعد 291 ﻫ ) عنوانه (شوق المُسْتَهامِ في معرفةِ رموزِ الأقلامِ). وكان من حُسْنِ الطالعِ أن تسلمَ مخطوطتُه من عوادي الزمن، وأن يكتشفها ذلك المستشرق الذي ترجمها إلى الإنكليزية ونشــرها باللغتين.
ثم نشرَ الباحث الفرنسي سيلفستر دوساسي Sylvestre de Sacy دراسةً عن الكتاب في باريس عام 1810، وكانت فيما يبدو من أهمّ المساعِدات للعالم الفرنسي فرانسوا شامبليون J.F.Champollion في كشفِه أشكالَ اللغةِ الهيروغليفيةِ الذي أعلنه عام 1822م، بعد عكوفه سنوات على حجر رشيد ذي الكتابات الثلاث، إذ كان معاصراً لتلك الدراسةِ وعلى تنافسٍ كبيرٍ مع كاتبِها.
معاينة المخطوط
وقد تسنّى لي في زيارة إلى باريس عام 1986 زيارة المكتبة الوطنية والاطلاع على مخطوط (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام)، فقرأتُه، ونسختُ أبرز معالمه وفصوله، ورسمتُ بصعوبة بالغة الكثيرَ من رموزه وأقلامه، لا سيما أقلام الهرامسة، وهم كهنة المصريين القدامى.
واشتملت مخطوطةُ ابنِ وحشيةَ على دراسةٍ جامعةٍ تناولَ فيها مؤلفها الأقلامَ واللغاتِ القديمةَ والسائدةَ في عصرِه وصولاً إلى حَصْرِها ومعرفةِ ما كُتِبَ فيها، وضمَّنها نحواً من (90) قلماً وألفبائيةً لشعوبٍ ساميةٍ ويونانيةٍ وهنديةٍ ومصريةٍ قديمةٍ، وغيرِها من أقلام الفضلاء والحكماء والفلاسفة والملوك وغيرهم، كما جمع في كتابِه هذا ما وقعَ له من الأقلامِ المستعملةِ، وما اطّلع عليه في ترحالِه وتجوالِه في بلادِ الشامِ ومصر، جلّها من الأقلام التي رمزوا بها كثيراً من علومهم وفنونهم في الحكمة والعقائد والفلك والكيمياء والطب والعلوم الخفيّة. وقد صدّره ابن وحشية بمقدمة مختصرة مهمة بيّن فيها السبب الذي دعاه إلى تأليف الكتاب، والغاية التي رمى إليها من وصفه، ومنهجَه الذي سلكه في إعداده.
لذا، يعد كتاب ابن وحشية أشهر ما انتهى إلينا من كتب الأقلام واللغات البائدة وأقدمها، وهو يأتي بعد كتاب جابر بن حيان
(ت 200 ﻫ) (حلّ الرموز ومفاتيح الكنوز) المفقود. ولا يخفى ما لكتاب ابن وحشية من قيمة علمية في ميادين عدة، يَـقْدُمها الكشف عن أقلام الأبجديات واللغات البائدة، وعن أقلام التعمية التي رمَّز بها الحكماء والفلاسفة وأصحاب العلوم الخفية علومهم وآثارهم، وغيرها.
رموز الهيروغليفية
لعل أهم أبواب المخطوط الباب الثامن الذي جعله للمشهور من أقلام الهرامسة، وقد جاء ذلك الباب في فصول، ومراتب ثلاث، وخاتمة. جعل أولها لقلم الحكيم هرمس الأكبر، ونبه على أنه مرتب على رموز وإشارات لا تعد ولا تحصى، وأن له قاعدة يستدل بها على المطلوب، شرحها في ثلاث مراتب، بدأها بصور أشكال المراتب العلوية الهرمسية، وقد اشتملت المرتبة الأولى على الأسماء الحيوانية وأشكالها, والثانية على الأشكال النباتية, والثالثة على الأشكال المعدنية. وختم كتابه بمجموعة أقلام قديمة استعملت قبل الطوفان, وأخرى للكلدانيين وغيرهم.
ويقول الدكتور عكاشة الدالي الخبير بالآثار المصرية القديمة في كتابه (علم المصريات، الألفية المفقودة، مصر القديمة في الكتابات العربية في العصر الوسيط) الذي ألفه بالإنكليزية إن ابن وحشية ميّز في كتابه بعض العلامات الهيروغليفية باعتبارها رموزا صوتية مع التعرف تعرفًا صحيحًا إلى بعض الحروف، وهو يعرض العلامة الهيروغليفية مع قيمتها الصوتية.
ويضيف أن ابن وحشية يقدم قوائم لكلمات مكتوبة بالرموز الهيروغليفية كل منها يمثل نعتا أو كناية، وثمة أمثلة جيدة يميّز فيها ما بين الرموز المحددة والحروف الهجائية, وعندما نقارنها بقائمة السير ألن غاردنر Gardiner، يبدو واضحا أن ابن وحشية قد درس فعلا مصادر مصرية أصلية.
مخطوطات أخرى
لم يكن كتاب (شوق المستهام) على أهميته وشهرته ـ هو الوحيد في بابه، فقد دلنا التتبع والاستقصاء على أن ثمة مخطوطات أخرى تنحو نحوه ولا تقل أهمية عنه. أهمها مخطوط لذي النون المصري يدعى (حل الرموز وبرء الأسقام في أصول اللغات والأقلام) يشتمل على 200 قلم (أي: لغة قديمة)، وآخر لباحث يدعى الجلدكي يشتمل على 70 قلماً.
إن هذه الدراساتِ وغيرَها تدلُّ على أن العلماءَ العربَ سبقوا غيرَهم – من حيثُ الشمول – إلى معرفةِ الأقلامِ القديمةِ وقراءتِها وحلِّ رموزِها، وترجموا إلى العربيةِ ما عُمِّي منها، فكانت دراساتُهم هذه منارةً اهتدى بها علماءُ أووربا في العصر الحديث، واقتبسوا الكثير منها في دراساتِهم عن الخطوط القديمةِ والحضاراتِ البائدةِ.