سعيد يقطين.. تساؤلات حول السرد والهوية الثقافية التاريخية
في اللغة العربية، يختصر مصطلح «الأدب»، في أحرفه الثلاثة، كوكبةً من الفضائل، مثل: الأدب، والأخلاق، والعلم، والحكمة، وتهذيب النفس. والأدب العربي غني ومتنوع، ويعود تاريخه إلى نحو 16 قرناً. وفيما بين القرنين السادس والسابع الميلاديين، تجلى في قالب الشعر الجاهلي والقصائد التي تمجد أبطال القبائل وشعر الغزل. وشهد العصر الذهبي الإسلامي الذي خلفه، واستمر حتى القرن الثالث عشر الميلادي، ازدهاراً غير مسبوق في الشعر والنثر والأدب العلمي، وأدى ذلك دوراً حاسماً في الحفاظ على الأعمال اليونانية والرومانية ونشرها. وفي الآونة الأخيرة أصبحت موضوعات الهوية والهجرة، وتحديات العيش في العالم العربي هي التي تشغل كثيراً من الأدب العربي الحديث (الذي يمثل الأدب منذ القرن التاسع عشر). وسعيد يقطين (أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط) هو أحد الأمثلة المرموقة على المشتغلين بالأدب العربي حالياً.
ولد يقطين في الدار البيضاء بالمغرب، في العام 1955، وازدان طريقه إلى الحصول على دكتوراه الدولة في الأدب العربي من جامعة محمد الخامس بالرباط، في العام 1997، بكثير من الدراسات والجوائز. حصل على الإجازة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة سيدي محمد بن عبدالله بفاس. خلال هذه الفترة، تأثر بشدة بالدراسات الاجتماعية لأدب لوسيان غولدمان، وهو فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، ارتبط اسمه بالتقاليد الفكرية البنيوية والماركسية. اختار في النهاية التركيز على علم السرد.. الدراسة النظامية للسرد، وهيكلته، وتأثيره في مختلف أشكال الأدب، والأفلام، والسرد الشفهي… وغيرها من الوسائط؛ اعتماداً على نظرية جيرار جينيت، المنظِّر الأدبي الفرنسي الذي وضع نظرية السرد كأساس لدراسة أكثر صرامة ومنهجية للهياكل السردية وتقنيات رواية القصص. وفي العام 1981، حصل يقطين على شهادة إتمام الدراسات من الرباط في تخصص الرواية، وسجل موضوع أطروحته ليحصل على دبلوم الدراسات العليا في علم اجتماع النص الروائي العربي بعد فترة وجيزة. وفي العام 1983، انضم إلى برنامج التدريب ليصبح مدرساً في الجامعة، بعد عامين من التدريب الأكاديمي. بعد تخرجه والالتحاق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن مسيك بالدار البيضاء، سنة 1985، أعاد يقطين تسجيل الأطروحة نفسها؛ بهدف إكمالها ومناقشتها في العام 1988، وهي السنة التي عرضت فيها كلية الآداب بالرباط، في جامعة محمد الخامس، أن يصبح عضواً أكاديميّاً فيها.
فاز بإحدى أولى جوائزه الكبرى، وهي أعلى جائزة مغربية للأدب، في العام 1989، وعاد ليفوز بها مرة أخرى في العام 1997. وفي العام 1990 سجل أطروحته للدكتوراه في السيرة الشعبية العربية (أي السيرة الشعبية)، وفي النهاية دافع عن أطروحته في 1997. نتج عن الدكتوراه إصدار كتابين، هما: «الكلام والخبر.. مقدمة للسرد العربي»، و«قال الراوي.. البنيات الحكائية في السيرة الشعبية»، في العام 1997. وفي العام 2016 حاز «جائزة الشيخ زايد للكتاب»، في الآداب والفنون، فئة النقد الفني للفكر الأدبي العربي، وفي العام 2022 حصل على «جائزة كتارا في النقد الروائي»، عن دراسته «السرديات التطبيقية.. قراءات في سردية الرواية العربية». وقد أضاف الآن «جائزة الكويت في العلوم الإنسانية والفنون والآداب»، من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي (KFAS)، للعام 2022، إلى مجموعته من الجوائز المرموقة.
على عكس العديد من أقرانه، لم يدرس يقطين في الخارج، اختياراً وبفعل الظروف. قال يقطين: «فكرت في الأمر بعد تخرجي في المدرسة الثانوية، لكن ظروف عائلتي المالية لم تسمح لي بذلك». إضافة إلى ذلك، لم يكن لدى عائلته أي فكرة عن أنه يتطلع إلى دراسة علم الرواية. اضطر إلى الالتحاق بالمركز الإقليمي لتدريب المعلمين، بعد حصوله على الشهادة الثانوية، وبعد عامين من التدريب هناك، عمل مدرساً للتعليم الإعدادي؛ ما ساعده على مواصلة دراسته الجامعية. ومع ذلك، فقد أمضى الفترة من 2002 إلى 2004 في فرنسا، وفي جامعة جان مولان ليون 3، حيث درَّس علم السرد، بوصفه أستاذاً زائراً. قال يقطين: «لكنني لم أرغب في الالتحاق بهذه الجامعة؛ لأنني أرى أن وجودي داخل بلدي وليس في الخارج».
سِجِلُ إنجازات يقطين، في مجال النشر، سِجِلٌ زاخر بالمؤلفات؛ إذ نشر 13 بحثاً في مجلات مُحَكَّمة، و13 بحثاً في فصول كتب، وكَتَبَ 19 كتاباً. موضوعاته المفضلة هي: الروايات العربية القديمة، والنظرية الأدبية، والنقد الأدبي، والتراث السردي العربي الإسلامي، والثقافة الشعبية، ومزيد من الموضوعات الأخرى؛ لذا فإن العيش في بلد عربي، واستنشاق هوائه أكثر منطقية.
إن الرواية العربية الحديثة هجين فكري رائع ومتناقض؛ يقول يقطين: «إنها تحتوي على العديد من العناصر القديمة عندما يتعلق الأمر باللغة والتقنيات والبلاغة [لا تحتاج إلى النظر إلى أبعد من ألف ليلة وليلة، تلك القصص الشهيرة من الحكايات الشعبية والأساطير والقصص في الشرق الأوسط التي جُمِعت على مر القرون، والتي نشأت من ثقافات مختلفة]. ولكن أيضاً هناك عناصر من العالم الغربي، عندما يتعلق الأمر بالاتجاهات السردية في القصة القصيرة والرواية والمسرحية».
وأسرع ليضيف قائلا: «إن الكاتب العربي الحديث هو نتاج الواقع الذي عاشه العرب منذ الاستعمار الذي قسَّم العالم العربي، وقسم الدول العربية». وأضاف: «كل الأنظمة التي جاءت بعد الاستقلال خضعت للاستعمار الجديد الذي فرض أجندته». في هذا المشهد الثقافي، يستثمر الكاتب العربي الصراع الاجتماعي والسياسي والثقافي المحيط به استثماراً مكثفاً. وتظل قضايا الهوية والهجرة والحب والصراع السياسي هي في صلب النقاش الأدبي، ولا تكاد رواية تمر إلا وتتناولها. ومن ناحية أخرى، يزعم أن حرية التعبير تتاح لها مساحات متباينة في مختلف الدول العربية. ويعتقد يقطين أن المشكلة ربما تكون مبالغاً فيها، على الأقل عندما يتعلق الأمر بتخصصه، أي الرواية. وقال: «على الرغم مما يقال عن حرية التعبير في العالم العربي، فإن الروايات التي تعرضت للحظر قليلة جدّاً في التاريخ العربي الحديث كله».
ولكن، كيف يمكن للرواية العربية أن تنتشر إلى بقية العالم؛ حتى يتمكن القراء غير العرب من معرفة المزيد عن التراث الثقافي والتاريخي واللغوي المتميز للعالم العربي، وكذلك أوجه التشابه مع الموضوعات العالمية، مثل: الهوية، والمنفى، والصراع بين التقليد والحداثة – وفي جوهره الأدب العربي المعاصر- وتعجب بالاستخدام الواسع النطاق للمجازات والرمزية التي يزخر بها الأدب؟ قال يقطين: «يمكن للترجمة أن تؤدي دوراً مهماً في جعل الأدب العربي في متناول القراء، في معظم أنحاء العالم. إن تدريس الأدب العربي في الجامعات الغربية مهم أيضاً للتقارب بين الشعوب، وردم الهوة بين الشرق والغرب». وبالمثل، فإن تبادل الزيارات بين الكُتَّاب العرب والأجانب، وترجمة الدراسات النقدية العربية، يمكن أن يؤديا إلى تقريب وجهات النظر، مادام ذلك يتم بعقل متفتح، وليس لتعزيز التحيزات والأحكام المسبقة؛ إذ يقول يقطين: «يدرس بعض الباحثين الأجانب الأدب العربي من الناحية الأيديولوجية، ولا يهتمون إلا بالنصوص التي تروق لهم، أو التي تقدم صوراً سلبية عن العرب».
حالياً، يضع يقطين اللمسات الأخيرة على كتابين: أحدهما بعنوان «الهوية الثقافية التاريخية»، والثاني تحقيق مخطوطة «سيف التيجان» الذي يصفه بالسيرة الشعبية المجهولة، ضمن سلسلة كتب ينوي نشرها مستقبلاً. وهو أيضاً رئيس تحرير مجلة الثقافة الأخرى التي تعنى بالثقافة الشعبية المغربية، قال: «أنا أعمل باستمرار في جميع الموضوعات التي أهتم بها». وتابع: «السرديات العربية القديمة والحديثة، والثقافة الشعبية العربية، إضافة إلى الثقافة الرقمية والتحليل الاجتماعي والثقافي». ويجد صعوبة في المفاضلة بين أي من أعماله الأدبية.
قال: «أنا دائماً من الإطار المفاهيمي نفسه – التحليل السردي. وبمعنى ما، كل عمل لاحق يتعلق بالعمل السابق ويرتبط به».
بقلم: ستاف ديميتروبولوس