رحلة إلى أعماق الكون
د. فخري حس
شهد النصف الثاني من القرن الماضي نشاطا ملحوظا في أبحاث الفضاء وعلى الخصوص استكشاف كواكب المجموعة الشمسية ودراستها. وشكلت نهاية سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن فرصة ذهبية للعلماء لدراسة واستكشاف الكواكب الخارجية أو الغازية، وهي المشتري وزحل وأورانوس ونبتون. كانت أمكنة هذه الكواكب في الفضاء في تلك الفترة مناسبة للدراسة والتصوير، وتتيح استخدام جاذبية الكوكب لتوجيه المركبة نحو الكوكب التالي دون عناء يذكر.إن هذا الأمر لن يتحقق مرة أخرى إلا بعد مرور نحو 176 عاما.
وقررت إدارة وكالة الفضاء الأمريكية (NASA) في تلك الفترة برنامج استكشاف الكواكب المعروف باسم برنامج فوياجر. وتضمن البرنامج إرسال مركبتي الفضاء المتماثلتين تماما فوياجر 1 (Voyager 1) وفوياجر 2 (Voyager 2) لدراسة الكواكب وتصويرها. أطلقت المركبة فوياجر2 أولا من مركز كيندي للفضاء في قاعدة كيب كانارفال الموجودة في ولاية فلوريدا بتاريخ 20 أغسطس 1977، وأطلقت فوياجر1 من القاعدة نفسها في 5 سبتمبر 1977. كان لكل منهما مسار مختلف عن الأخرى.ولتقليل النفقات، التي قدرت في ذلك الوقت بنحو بليون دولار، فقد تقرر اقتصار الرحلة على كوكب المشتري وقمره الكبير أيو (Io) و كوكب زحل وقمره الكبير تيتان (Titan). وتقرر أن تكون المدة الزمنية للبرنامج خمس سنوات.
واستخدم المهندسون في بناء المركبتين مواد خاصة يمكنها تحمل الجرعات الإشعاعية العالية التي قدرت بأنها قد تزيد بألف مرة عن الجرعة المميتة أو القاتلة على سطح الأرض. وقد تم عزل الأجهزة الحساسة على متن المركبتين لحمايتها من تأثير الإشعاعات. ويتوقع العلماء أن تبقى أجهزة المركبتين عاملة، ويمكن الاتصال بها لنحو نصف قرن، أي حتى عام 2025.
ووضع المهندسون على متن كل من المركبتين محطة إرسال واستقبال متطورة لالتقاط الرسائل التي تبعثها المحطات الأرضية، وكاميرات متطورة، و11 جهازا لجمع العينات من محيط المركبتين وتحليلها وإرسال النتيجة إلى المحطات الأرضية. وفي حالة تعذر إرسال الرسالة إلى الأرض. لأي سبب، فإن المركبة كانت تحوي مسجلا رقميا حساسا يسجل الرسالة لترسل في وقت لاحق.
رحلة استكشاف الكواكب
وصلت فوياجر1 إلى كوكب المشتري أولا بسبب سرعتها العالية قبل فوياجر2 في فبراير1979. ودارت حول الكوكب ووصلت إلى أقرب نقطة منه في 5 مارس 1979، والتقطت صورا واضحة له. تم اكتشاف نظام حلقات للكوكب للمرة الأولى في التاريخ. ودرست المركبة أيضا جو الكوكب ومجاله المغناطيسي وحزام الإشعاعات. ويعتبر اكتشاف النشاط البركاني على قمر أيو من أهم نتائج الرحلة؛ لأنها المرة الأولى التي يكتشف فيها نشاط بركاني خارج الأرض.استخدم العلماء جاذبية كوكب المشتري لتوجه المركبة نحو كوكب زحل الذي وصلت إليه في نوفمبر 1980، وكانت على أقرب بعد منه في 12 نوفمبر 1980. اكتشفت المركبة التركيب المعقد لحلقاته الجميلة، وبينت أن تركيب جوه مختلف عن تركيب جو المشتري. ثم اقتربت من قمره الكبير تيتان وصورته بوضوح واكتشفت جوه الكثيف. بعد أن أنهت المركبة مهمتها الرئيسية في دراسة وتصوير الكوكبين والقمرين في نوفمبر 1980 تم توجيه سيرها لتغادر منطقة الكواكب، على أن تبقى فيها لسنوات طويلة.
أما المركبة الثانية فوياجر2 فوصلت إلى المشتري بعد أشهر من فوياجر1، وصورت الكوكب، ووجهت نحو زحل، حيث صورته أيضا. لقد شعر العلماء بسعادة غامرة لنجاح الرحلة، وشجعهم النجاح على توجيه المركبة نحو كوكب أورانوس، حيث وصلت إليه في 24 يناير 1986 وصورته عن قرب واكتشفت نظام حلقاته للمرة الأولى. وكانت هذه المركبة هي الأولى التي تصل إلى هذا الكوكب. ووجهت المركبة بعد ذلك نحو نبتون، آخر كواكب المجموعة الشمسية ووصلت إليه عام 1988، وبعثت صورا ملونة للكوكب للمرة الأولى، إذ كانت أول مركبة فضاء تصل إلى ذلك الكوكب البعيد.
أنهت المركبة فوياجر 2 مهمتها في تصوير الكواكب الخارجية بعد نحو 12 عاما من إطلاقها وكانت على بعد نحو 31 وحدة فلكية من الأرض. (يبعد نبتون عن الأرض نحو 30 وحدة فلكية)، في حين كانت فوياجر1 وهي الأسرع في الفترة نفسها على بعد 40 وحدة فلكية من الأرض.والوحدة الفلكية (AU) هي المسافة بين الأرض والشمس وتساوي تقريبا 150 مليون كيلومتر، وتستخدم لقياس المسافات في علم الفلك.
رحلة ما بعد الكواكب
واصلت المركبة فوياجر1 رحلتها الطويلة في نطاق المجموعة الشمسية. وعندما كانت على بعد أكثر من 6 بلايين كيلومتر من الأرض تم توجيه كاميرا المركبة بناء على رغبة الفلكي الأمريكي كارل ساغان نحو الأرض، فالتقطت الكاميرا بتاريخ 14 فبراير 1990 صورة للأرض والمجموعة الشمسية للمرة الأولى في التاريخ من خارج المجموعة الشمسية. ظهرت الأرض في هذه الصورة الشهيرة التي أثارت حفيظة العلماء كنقطة صغيرة بلون أزرق باهت. كان الأمر مذهلا ومحيرا؛ إذ إن كل ما على هذه الأرض من جبال ومدن ومحيطات وأنهار وبحار وبشر وحيوانات وأشجار إلخ… كان موجودا داخل هذه النقطة الصغيرة. وبعد نحو 20 عاما من انطلاق المركبة، فإنها تخطت مركبة بايونير (Pioneer) 10 التي كانت قد أطلقت قبلها بنحو خمس سنوات، لتصبح أبعد جسم صنعه الإنسان عن الأرض، منطلقة نحو النجوم البعيدة.
دخلت فوياجر1 مرحلة جديدة في رحلتها نحو أعماق الكون منتصف عام 2010، حيث بدأ تأثير الرياح الشمسية يضعف مقارنة بتأثير الرياح القادمة من الخارج، أي من فضاء ما بين النجوم. وتأكد في نهاية العام أن المركبة تخطت التأثير الكبير للرياح الشمسية ليبدأ تأثير قوي للرياح القادمة من الخارج، في إشارة إلى أن المركبة على وشك مغادرة غلاف المجموعة الشمسية المعروف باسم(heliopause). بدأت أجهزة المركبة منتصف عام 2012 بالكشف عن تغير كبير في الوسط الذي يحيط بها حيث زادت الجسيمات القادمة من فضاء ما بين النجوم بصورة كبيرة. وتأكد بعد عام أن المركبة غادرت المجموعة الشمسية تماما في 25 أغسطس 2012 لتكون أول جسم من صنع الإنسان يدخل فضاء ما بين النجوم. كان بُعد المركبة في تلك الفترة 121 وحدة فلكية، مما يؤكد تقديرات العلماء السابقة عن نصف قطر الكرة الشمسية. أما فوياجر2 فإنها كانت بحاجة لعدة سنوات لكي تغادر الكرة الشمسية.
رحلة ما بعد المجموعة الشمسية
أطلقت فوياجر1 من الأرض نحو الكواكب الخارجية، ومن ثم نحو عمق مجرتنا طريق التبانة، وأرسلت معلومات قيمة عن الكواكب وبعض الأقمار وعن فضاء ما بين النجوم أيضا. لم توجه المركبة نحو نجم معروف لكنها ستقترب بعد نحو 40 ألف عام من نجم يسمى (غليس Gliese 445) لتصبح على بعد 1.7 سنة ضوئية منه. يبعد النجم عن الأرض 17.6 سنة ضوئية ولا يمكن مشاهدته بالعين المجردة. وستعمل قوة جاذبية النجم على توجيه المركبة نحو عمق المجرة. سيبقى العلماء على اتصال بالمركبة لنحو سبع أو ثماني سنوات مقبلة قبل نفاد الوقود على متنها. ويمكن متابعة رحلتها بعد ذلك من خلال تلسكوب هابل الفضائي أو غيره.
أما فوياجر2 التي لم تخرج من نطاق المجموعة الشمسية، فقد تم توجيه سيرها نحو نجم الشعرى اليمانية، وهو ألمع نجوم السماء. يبعد النجم عن الأرض 8.6 سنة ضوئية ويمكن مشاهدته بسهولة بالعين المجردة خلال فصل الشتاء. إن المركبة بحاجة لفترة زمنية طويلة جدا (نحو 296 ألف عام) لتقترب من النجم.
رسالة إلى الحضارات الأخرى
احتوت كل من المركبتين على أسطوانة فونوغرافية نصف قطرها 30 سم مصنوعة من النحاس المطلي بالذهب. وتحتوي الأسطوانة على معلومات كثيرة عن حضارتنا كرسالة إلى أي حضارة قد تعترض المركبتين. استخدمت الأسطوانة الفونوغرافية لأن الأقراص المضغوطة الحالية(CD) لم تكن معروفة في ذلك الوقت. واحتوت الأسطوانة على رسالة مكتوبة كتحية للحضارات الأخرى من جيمي كارتر رئيس الولايات المتحدة في ذلك الوقت. وتضمنت أيضا تحيات صوتية من سكان الأرض وبلغات مختلفة للحضارات الأخرى. كانت تحية اللغة العربية بصوت سيدة تقول للحضارات الأخرى: (تحياتنا للأصدقاء في النجوم… ليت السماء تجمعنا)، كما احتوت الأسطوانة على 116 صورة تمثل مختلف مناحي الحياة الأرضية، وعلى أصوات مسجلة لحيوانات، وقطع موسيقية حديثة وكلاسيكية قديمة.
هل هنالك من رد ؟
لم تكن الرسالة على متن المركبتين أو أي مركبة أخرى جادة وإنما استعراض لتطورنا التكنولوجي والعلمي وما يمكننا عمله. فالمسألة ليست بوجود الحضارات من عدمه وإنما بإمكانية الاتصال بها بسبب الاتساع الضخم للكون. فالمركبة بحاجة لنحو 40 ألف عام لتقترب من أول نجم في طريقها، ولا نعرف إذا ما كانت تدور حوله كواكب مناسبة للحياة؟ لقد قدر العلماء عدد الحضارات المتطورة في درب التبانة عام 1961 بنحو مليون حضارة؛ أي إن هنالك مليون كوكب في المجرة مثل الأرض تعج بالحياة والحضارة. لقد جعل هذا الرقم الكبير للحضارات بعض العلماء يصرخون: أين هم إذن إذا كانوا بهذه الكثرة ؟ حاول بعض العلماء تقدير البعد بين الحضارات على أساس أنها موزعة توزيعا شبه منتظم في المجرة، وكانت النتيجة أن أقرب حضارة لنا تقع على بعد نحو 300 سنة ضوئية. وإذا أرسلنا لهم رسالة بسرعة الضوء فإنها بحاجة لنحو 300 عام كي تصل إليهم، وإذا كان هنالك رد فوري على الرسالة فلن نحصل عليه قبل مرور 600 عام.أما إذا كان عدد الحضارات أقل من ذلك، فإن الأمور تكون أكثر تعقيدا من ذلك. إن المعضلة الأساسية تتمثل في الاتساع الضخم للكون الذي يعوق عملية الاتصال بالحضارات الأخرى إذا ما وجدت.