تلسكوب هابل.. ربع قرن من الإنجازات
يمتص الغلاف الجوي على وجه الخصوص إشعاعات الطاقة العالية مثل الأشعة فوق البنفسجية (UV) والأشعة السينية وأشعة غاما، وتتصادم فوتونات الإشعاعات الأخرى مع ذرات وجزيئات غازات الغلاف الجوي وذرات الغبار مما يؤدي لبعثرتها وتشتتها، ومن ثمّ تشويه صور النجوم، وبسبب ذلك نرى صور النجوم تتلألأ؛ أي نراها وكأنها تتحرك أو تهتز.
وفكر العلماء باستخدام تلسكوب فضائي للتغلب على إشكالات وتأثيرات الغلاف الجوي على رصد الأجرام السماوية في عشرينيات القرن الماضي. ونضجت الأفكار بعد أكثر من نصف قرن، وتقرر تصميم وبناء تلسكوب فضائي بالتعاون بين وكالة (ناسا) الأمريكية ووكالة الفضاء الأوروبية (ESA) عام 1975، سموه (هابل).
تلسكوب هابل
تقرر إطلاق اسم تلسكوب هابل الفضائي (HST) على التلسكوب الجديد تخليداً لذكرى الفلكي الأمريكي هابل (1889 – 1955).
وأطلقت وكالة (ناسا) التلسكوب للفضاء الخارجي على متن مركبة الفضاء الأمريكية (Discovery) بتاريخ 24 أبريل من عام 1990.
وكان هابل قد وجد تجريبياً أن المجرات تتحرك مبتعدة عنا بسرعات تتناسب مع بعدها عن الأرض فيما يعرف الآن بقانون هابل، واستنتج في الربع الأول من القرن الماضي أن الكون يتوسع أو يزداد اتساعاً مع الزمن.
ويتناقض هذا القانون مع كون آينشتاين الساكن (static universe) في نظرية النسبية العامة التي نشرها عام 1916. وكانت النظرية النسبية العامة قد بينت أن حجم الكون يزداد مع الزمن (أي يتوسع)، وأضاف آينشتاين حداً من مخيلته إلى معادلة النظرية النسبية ليبدو الكون متزناً أو ساكناً كما نراه بالعين المجردة. وقد ندم ندماً شديداً بعد اكتشاف هابل، وأصيب بالاكتئاب لفترة طويلة بسبب هذا الخطأ الجسيم الذي أفقده ميزة التنبؤ نظرياً بتوسع الكون قبل اكتشاف هابل التجريبي .
ويعمل التلسكوب على الطاقة الشمسية، ويدور حول الأرض بسرعة 28 ألف كيلومتر في الساعة على ارتفاع 552 كيلومتراً فوق سطح الأرض، ويستغرق 97 دقيقة لإكمال دورة واحدة حول الأرض (زمنه الدوري).
وكلف التلسكوب عند إطلاقه نحو مليار ونصف مليار دولار، عانت الصور الأولى التي التقطها عيوباً فنية ولم تنشر. ثم أرسلت (ناسا) بعثة فنية لضبط مرآته، والتقط أول صورة واضحة في 13 ديسمبر 1994، وقد التقط التلسكوب منذ ذلك التاريخ أكثر من مئة ألف صورة واضحة للأجرام السماوية المختلفة.
أجهزةالتلسكوب
يوجد على متن التلسكوب مرآة مقعرة رئيسية قطرها 2.4 متر لجمع إشعاعات النجوم والأجرام السماوية الأخرى، ويوجد كذلك مرآة مساعدة صغيرة قطرها 30 سم، ويحتوي على كاميرات وأجهزة لتحليل الإشعاعات على النحو الآتي:
(1) كاميرا حساسة جداً لتصوير النجوم البعيدة الخافتة الضوء (Faint-Object Camera, FOC).
(2) كاميرا كوكبية ذات مجال واسع
(Wide Field Planetary Camera WFPC) وهي من أفضل أجهزة التلسكوب، والتقطت صوراً واضحة جداً لنجوم ومجرات وسدم بعيدة جداً.
(3) مطياف (جهاز تحليل الطيف)spectrometer وسبكتروغراف (جهاز رسم الطيف) spectrograph لقياس وتسجيل وتحليل أطياف النجوم والمجرات والسدم في شرائح الأشعة تحت الحمراء والضوء (الأشعة المرئية) والأشعة فوق البنفسجية.
وتفوق القدرة التحليلية للتلسكوب القدرة التحليلية للتلسكوبات الأرضية وتمكنه من رصد وتصوير النجوم البعيدة والقديمة جداً التي تكونت بعد الانفجار العظيم بنحو 800 مليون عام أو أكثر.
إنجازات مهمة
إضافة إلى الأعداد الكبيرة جداً من الصور الواضحة التي التقطها التلسكوب للكون ومكنت الباحثين من نشر نحو ثمانية آلاف بحث خلال عام 2008 فقط، فقد ساهم التلسكوب في تطوير فهمنا للكون وتطوره وحقق الإنجازات العلمية الآتية:
(1) اكتشف التلسكوب مجرات قديمة وبعيدة جداً تكونت في بداية نشأة الكون، فمجرة (EGS-zs8-1) التي صورها التلسكوب تبعد عن الأرض 13.1 مليار عام، وقد تكونت بعد الانفجار العظيم بنحو 650 مليون سنة، وهي أبعد مجرة عرفها الإنسان. كما قدم أدلة قوية على وجود الثقوب السوداء التي تنبأت بها النظرية النسبية العامة عام 1916، وسلط الضوء على الطاقة المعتمة المسؤولة عن تسارع توسع الكون.
(2) تمكن التلسكوب من تصوير تكون أو نشأة النجوم، ورصد نجوماً في مراحل تطورها النهائية (أو في مرحلة النهاية والموت بعد نفاد وقودها أو الهدروجين الموجود في اللب)، واكتشف بسبب قدرته الفائقة كواكب بعيدة جداً (تتبع نجوماً غير الشمس) لم تتمكن التلسكوبات الأرضية من اكتشافها بسبب قدراتها التي لا تقارن بقدرة تلسكوب هابل.
(3) التقط التلسكوب صوراً لسدم أو غيوم جزيئية بعيدة جداً، ولمجرات بعيدة جداً في طور التكون والنشوء، مما عزز معلوماتنا عن مراحل نشوء وتطور الكون.
(4) أكد التلسكوب تجريبياً ظاهرة التعدس الثقالي (الجذبي) (gravitational lensing) التي تحدث عند مرور الفوتونات قرب نجم عملاق جاذبيته كبيرة جداً. إن جاذبية النجم الكبيرة تحرف مسار الفوتونات مما يؤدي لانكسار مسارها كما ينكسر الضوء خلال العدسة الزجاجية. وكان آينشتاين تنبأ بهذه الظاهرة في النظرية النسبية العامة التي نشرها عام 1916.
(5) تمكن العلماء اعتماداً على معلومات تلسكوب هابل من تحديد عمر دقيق للكون يراوح بين 13 و14 مليار عام، ونعلم الآن أن العمر الدقيق للكون من مصادر مختلفة هو 13.75 مليار عام. وكان العلماء قبل ذلك يجهلون عمر الكون ويعتقدون أنه يراوح بين 10 و 20 مليار عام .
المستقبل
توقع العلماء عند تصميمهم للتلسكوب أن يعمل لمدة عشر سنوات، لكنه ما زال يعمل بعد ربع قرن من إطلاقه. ويبدو الآن أن التلسكوب استنفد قدراته، والعلماء بحاجة إلى معرفة المزيد الذي لا يمكنه تحقيقه. وتقود وكالة (ناسا) هذه الأيام مشروعاً ضخما تشارك فيه 14 دولة معظمها أوروبية لتصميم وبناء تلسكوب يخلف هابل.
وأطلق على التلسكوب الجديد اسم تلسكوب جيمس ويب الفضائي (James Webb Space Telescope JWST) تخليداً لذكرى أحد قادة وكالة (ناسا) في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أي خلال فترة برنامج أبولو الشهير.
تتكون مرآته المصنوعة من عنصر البريليوم والمطلية بالذهب الخالص عيار 24 قيراطا من 18 قطعة، ويبلغ قطرها 6.5 متر، ومن ثم فإن مساحتها تساوي سبعة أضعاف مساحة مرآة سابقه هابل.
وسيكون بعد التلسكوب الجديد عن الأرض 1.5 مليون كيلومتر (أي أربعة أضعاف بعد القمر عنها) في مدار نصف قطره (800) ألف كيلومتر، ويستغرق نحو نصف عام لإكمال دورة واحدة. وسيحوي التلسكوب أربعة أجهزة متطورة تفوق أجهزة سابقه هابل، وتعمل في شريحة الأشعة تحت الحمراء.
ومن أهم أجهزة التلسكوب الجديد كاميرا تعمل بالأشعة تحت الحمراء لكشف وتصوير النجوم والمجرات القديمة و البعيدة جداً، ويمكن من الناحية النظرية أن تصور المرآة نجوماً موغلة في القدم تكونت بعد الانفجار العظيم بنحو 200 مليون عام.
ويحوي التلسكوب كذلك مطياف الأشعة تحت الحمراء لرصد نشأة وتكون النجوم، ولدراسة التركيب الكيميائي للمجرات الحديثة التكوين. ويتوقع العلماء إطلاق التلسكوب الذي تقدر تكلفته بنحو 9 مليارات دولار في شهر أكتوبر من عام 2018.