تحسين الخصائص الوراثية في تربية الأحياء المائية
د. شريف الجوهري
في موازاة النمو السريع لعدد سكان العالم المتوقع بلوغهم نحو عشرة بلايين شخص في عام 2050، والحاجة الماسة إلى توفير الغذاء المناسب لهم، تغدو الأحياء المائية الملاذ الملائم لإطعام بني البشر، وتوفير الأمن الغذائي لهم، مع عدم إغفال دور الزراعة في ذلك.
ويبدو الاعتماد على الأحياء المائية لتوفير الأمن الغذائي لكل هذه الأعداد المتزايدة أمرا طبيعيا في ضوء وجود وفرة كبيرة من تلك الأحياء، وازدياد التكنولوجيات المساعدة على اصطيادها والحصول عليها، ورخص التكلفة المستخدمة في ذلك، فضلا عن الإشكاليات التي صاحبت التغير المناخي وأثرت في عدد كبير من المحاصيل الزراعية، في أنحاء شتى من العالم.
وبلغ النمو العالمي السنوي لاستهلاك الأسماك منذ سنة 1961 ضعف النمو السكاني، في دلالة على أهمية قطاع الأسماك لتحقيق هدف الأمم المتحدة المتمثل في بناء عالم خال من الجوع وسوء التغذية. وفي مقابل تراجع النمو السنوي لتربية الأحياء المائية خلال السنوات الماضية، لا يزال يُسجَّل نمو ملحوظ في بعض البلدان، لاسيما في أفريقيا وآسيا. ومساهمة هذا القطاع في النمو الاقتصادي في ازدياد، فقد زاد الطلب القوي والأسعار المرتفعة من قيمة صادرات الأسماك في عام 2017 لتبلغ 152 مليون دولار وكانت نسبة 54% منها من البلدان النامية.
دور الخصائص الوراثية
يستفيد العالم أجمع من التطورات الهائلة التي يشهدها علم الوراثة، ومن تآزر عدد من العلوم الأخرى معه- لاسيما علم الحاسوب وتفرعاته كالذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة والبرمجة وهندسة النظم، فضلا عن الرياضيات كالإحصاء والاحتمالات – في تحسين الخصائص الوراثية لتربية الأحياء المائية، ومن ثم تعزيز الأمن الغذائي للعالم.
ويسلط تقرير حديث أصدرته منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) على الدور الذي يؤديه توسيع نطاق تحسين الخصائص الوراثية في تربية الأحياء المائية في تعزيز إمدادات الغذاء المستدامة للأجيال القادمة، ويرى أن التطبيق الواسع والأمثل والطويل الأمد لذلك التحسين، مع التركيز على الاستيلاد الانتقائي، سيساعد على زيادة إنتاج الغذاء بما يلبي الزيادة المتوقعة في الطلب على الأسماك والمنتجات السمكية، مع استخدام كميات إضافية قليلة نسبياً من الأعلاف والأراضي والمياه وغيرها من المدخلات.
ويستعرض تقرير حالة الموارد الوراثية المائية للأغذية والزراعة في العالم، الذي صدر في أغسطس الماضي، استخدام البشرية للموارد الوراثية المائية في مصائد الأسماك وتربية الأحياء المائية داخل المناطق الخاضعة للولاية الوطنية. ويعتمد ذلك التقرير العالمي الذي يعد الأول من نوعه على معلومات مقدمة من 92 دولة، تمثل معاً 96% من الإنتاج العالمي لتربية الأحياء المائية وأكثر من 80% من إنتاج المصايد الطبيعية.
ووفقا للتقرير المكون من عشرة فصول فإن تربية الأحياء المائية لاتزال متخلفة كثيراً عن الزراعة الأرضية- المحاصيل والماشية – من حيث التوصيف وتوطين وتحسين الموارد الوراثية لإنتاج الغذاء. ويرى أن البشرية تمتلك الفرصة لتحسين الإنتاج المستدام لتربية الأحياء المائية بشكل كبير من خلال الإدارة والتطوير الاستراتيجيين لبعض الأنواع التي تستخدم حالياً في تربية الأحياء المائية والتي يزيد عددها عن 550 نوعاً.
تحديات تواجه الأسماك البرية
يبدو أن جميع الأنواع المستزرعة من الأحياء المائية لا تزال تمتلك أقارب برية في الطبيعة، غير أن العديد من هذه الأنواع البرية معرضة للخطر وتحتاج إلى طرق حفظ محددة الأهداف والأولويات، لذا يدعو التقرير البلدان إلى وضع سياسات وإجراءات لتلبية هذه الحاجة. وأكثر الأقارب البرية للأنواع المائية المستزرعة التي يتم استنفادها هي سمك الحفش الروسي، وسمك السلمون، وسمك الحفش الأوروبي، والسلمون الأطلسي، والسلمون المرقط البني.
وهنالك آثار محتملة لحالات الهروب، بما في ذلك الأنواع غير الأصلية، من مزارع تربية الأحياء المائية، في التنوع البيولوجي والنظم الإيكولوجية، وهو ما يستدعي التبادل المسؤول بين الدول واستخدام الموارد الوراثية المائية المحلية وغير المحلية.
ويسلط التقرير الضوء على الضغوط التي يفرضها الطلب المتزايد على الأسماك والمنتجات السمكية على الأنواع المائية المستزرعة وأقاربها البرية والموائل التي تعتمد عليها، كما يركز على فرص تحقيق النمو المستدام.
وفيما يخص استزراع الأسماك يرى التقرير أن البشرية ما تزال تستزرع الأسماك البرية بشكل كبير، مع وجود اختلاف بنسبة 45% بين الأنواع المستزرعة ونظرائها البرية. ويقول إن ما يزيد قليلاً عن نصف البلدان التي أرسلت تقارير إلى (الفاو) ترى أن لتحسين الخصائص الوراثية تأثيرا كبيرا في إنتاجها في تربية الأحياء المائية، على عكس الاستخدام المكثف للسلالات والأصناف المحسنة في إنتاج الماشية والمحاصيل. لذا من الضروري التشديد على إمكانية تحقيق مكاسب إنتاج مستدامة من خلال تحسين المواد الوراثية للموارد المائية المستزرعة.
إمكانات تربية الأحياء المائية
تتوقع المنظمات الأممية أن يؤدي تزايد عدد السكان إلى زيادة استهلاك الأسماك بنحو 1.2% سنوياً خلال العقد المقبل. ويقدر أن يصل إنتاج الأسماك والمنتجات السمكية إلى أكثر من 200 مليون طن بحلول عام 2030. ونظراً إلى استقرار إنتاج مصايد الأسماك العالمية عند نحو 95-90 مليون طن سنوياً، مع وجود كميات صيد جائر تشكل نحو ثلث كميات الأسماك البحرية التي يتم اصطيادها، فلا يوجد مجال كبير لإنتاج إضافي في المستقبل المنظور إلا من خلال إدارة الفاقد والهدر والكفاءة. ومن ثم يشدد التقرير على ضرورة أن تلبي تربية الأحياء المائية النمو المتوقع في الطلب على الأسماك والمنتجات السمكية. وفي هذا السياق، سيكون الاستخدام المسؤول والمستدام للموارد الوراثية المائية ضرورياً لتحقيق هذا الطلب.
وهناك عدد كبير من التقنيات المتاحة لتحسين الموارد الوراثية المائية، وتوصي منظمة (الفاو) بالتركيز على برامج الاستيلاد الانتقائي الجيدة التصميم والطويلة الأجل التي يمكنها أن تزيد من إنتاجية الأنواع المائية بنسبة 10% لكل جيل. وتدعو إلى حماية الموارد الوراثية المائية الموجودة على الكوكب وإدارتها ومواصلة تطويرها، مما يسمح للكائنات الحية بالنمو والتكيف مع التأثيرات الطبيعية وتلك الناجمة عن الإنسان مثل تغير المناخ، ومقاومة الأمراض والطفيليات، ومواصلة التطور للمساعدة على تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
تعزيز السياسات
يسلط التقرير الضوء في الفصل السابع على السياسات والتشريعات الوطنية للموارد الوراثية المائية، ويرى أنه لما كان الأمن الغذائي والتغذية يعتمدان على توفير سلة طعام متنوعة وصحية – والأغذية المائية عنصر مهم فيها- لذا ينبغي إدراج الموارد الوراثية المائية في سياسات الأمن الغذائي والتغذية الأوسع نطاقا.
ويجب على هذه السياسات أن تأخذ في الحسبان استراتيجيات التنمية الطويلة الأجل لتربية الأحياء المائية، وذلك يشمل الإدارة العابرة للحدود للموارد الوراثية المائية، والحصول على الموارد وتقاسم المنافع، وتحسينها وصيانتها، ويجب أن تشمل العديد من القطاعات والتخصصات لتكون فعالة.
ويسلط التقرير الضوء في الفصول التالية على ضرورة زيادة التوعية وبناء القدرات من أجل تطوير وتحسين الخصائص الوراثية ومواصلة ذلك، لا سيما في البلدان النامية، بما في ذلك تدريب علماء الوراثة لدعم برامج الاستيلاد الانتقائي.