المضي في التقدم بناء المنعة لدرء الأخطار
نواف الناصر
ركز التقرير الأخير للتنمية البشرية الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على مفهومين مترابطين ومهمين معاً هما: بناء المنعة و درء الأخطار، مسلطا الضوء على دواعي تعزيز قدرات الأفراد والمجتمعات للتمكن من التصدي للأخطار، إضافة إلى مفهوم المنعة الذي يقصد به (المنعة البشرية)، أي تمتع البشر بخيارات صلبة يستطيعون ممارستها حاليا وفي المستقبل، بحيث يمتلكون القدرة على التصدي للعواقب المتنوعة والتكيّف معها. وصدر التقرير الذي يغطي عام 2014 بعنوان (المضي في التقدم .. بناء المنعة لدرء المخاطر)، مستهدفا مساعدة صانعي القرار والجهات المعنية بالتنمية على السعي إلى تحقيق فوائد إنمائية باعتماد سياسات تركز على درء الأخطار وبناء المنعة.
ويبحث التقرير في أنواع السياسات والإصلاحات المؤسسية التي يمكن أن تساهم في بناء منعة المجتمع ونسيجه، ولا سيما الفئات المعرّضة للإقصاء، وفي الأوقات المصيرية في دورة الحياة، إضافة إلى التدابير العامة التي يمكن اتخاذها لمعالجة التمييز، و ضرورة العمل الجماعي للحد من الأخطار الناجمة عن تقصير المؤسسات الوطنية أو النقص في مقوّمات الحكم العالمي.
وقالت مديرة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي هلن كلارك في التمهيد المخصص للتقرير إنه منذ أن أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقرير التنمية البشرية العالمي الأول في عام 1990، تُحقق معظم البلدان تقدّمًا في التنمية، وإن تقرير هذا العام يظهر أن الاتجاهات العالمية إيجابية، والتقدّم مستمر لكنّ هدر الأرواح لم يتوقف، وسُبل المعيشة لا تزال معرضة للخطر، ومسارات التنمية عرضة للتعثّر، إما بفعل كوارث تسبّبها الطبيعة، أو بفعل أزمات يصنعها الإنسان. ورأت أن تدارك هذه الانتكاسات ليس بالمستحيل؛ فجميع المجتمعات معرضة للأخطار، ولو تباينت درجات التأثر بالضرر وسرعة التعافي منه بين مجتمع وآخر.
نهج مختلف
وذكرت أن معظم الأبحاث في موضوع درء الأخطار وبناء المنعة من منظور التنمية البشرية تتطرق إلى تعرّض الأفراد لأخطار محددة في قطاعات معيّنة، أما هذا التقرير فيعتمد نهجًا مختلفًا و أكثر شمولاً، فينظر في العوامل التي تعرّض التنمية البشرية لأخطار ثم يناقش سبل بناء المنعة إزاءها. ولهذا النهج أهمية بالغة في عالم يزداد ترابطًا؛ فالعولمة، التي عادت بفوائد على الكثيرين، أتت بمصاعب جديدة، تظهر أحيانًا في أحداث تقع في مكان من العالم، وسرعان ما يهزّ وقعها مكانًا آخر ولو بعيدًا. ولتحصين المواطنين من أخطار المستقبل لابدّ من بناء منعة المجتمعات والبلدان. وفي هذا التقرير ما يمهد لذلك. وعملاً بنموذج التنمية البشرية، يعتمد التقرير نهجًا محوره الإنسان، فيولي اهتمامًا خاصًا للفوارق داخل البلدان وفي ما بينها، ويحدد المجموعات الأكثر عرضة من غيرها لأخطار جذورها إما في الماضي، أو في عدم مساواة في المعاملة من سائر فئات المجتمع. وكثيرًا ما تتفاقم هذه الأخطار، وتدوم طويلا،ً وترتبط بعوامل كالجنس والعرق والأصل والموقع الجغرافي. ويواجه الأفراد الأكثر ضعفًا، وكذلك المجموعات، عوائق عديدة ومتداخلة تكبّل القدرة على التصدّي للانتكاسات. فالفقراء الذين ينتمون إلى أقلية معيّنة، أو النساء اللاتي يعانين من إعاقة، يواجهون عقبات تتداخل فتزداد حدة.
ويبيّن التقرير كيفية تغيّر الأخطار في حياتنا باعتماده «نهج دورة الحياة». وخلافًا للنماذج الأخرى، يشير في تحليله إلى أن الأطفال والمراهقين وكبار السن يواجهون أشكالاً مختلفة من الأخطار تتطلب معالجة موجهة. فبعض مراحل الحياة مصيرية كالأيام الألف الأولى من حياة الطفل، أو الانتقال من الدراسة إلى العمل، أو من العمل إلى التقاعد. والانتكاسات في هذه المراحل يصعب تجاوزها، وقد تترك آثارًا تدوم مدى الحياة.
وقالت كلارك إن التقرير يحلل الأدلة المتاحة، فيخلص إلى عدد من التوصيات من أجل عالم قادر على مواجهة الأخطار وبناء المنعة إزاء الصدمات في المستقبل. ويدعو إلى تعميم الخدمات الاجتماعية الأساسية على الجميع، ولاسيما في الصحة والتعليم، وإلى تعزيز الحماية الاجتماعية، بما في ذلك تعويضات البطالة والمعاشات التقاعدية، وإلى الالتزام بالتشغيل الكامل، انطلاقًا من مبدأ القيمة الجوهرية للعمل التي لا تنحصر بما يوفره من دخل. ويتوقف التقرير عند أهمية المؤسسات العادلة التي تلبي حاجات السكان، وأهمية التماسك الاجتماعي في بناء منعة المجتمع ودرء النزاعات.
الأزمات والكوارث
ويرى التقرير أن أكثر السياسات فعالية في درء الأخطار لن تمنع حدوث الأزمات ولن تتجنب آثارها المدمرة أحيانًا. فلا بد من بناء الجاهزية في حال الكوارث والقدرة على التعافي لتمكين المجتمعات من التصدّي للصدمات والنهوض منها. وعلى الصعيد العالمي، ينبّه التقرير إلى أن الأخطار العابرة للحدود بطبيعتها تتطلب عملاً جماعيًا، ويدعو إلى التزام عالمي بمواجهتها، وإلى تحسين نظام الحكم الدولي.
وتعلق كلارك على ذلك قائلة: إن هذه التوصيات المهمة تأتي في أوانها؛ فمع استعداد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لاختتام المفاوضات بشأن خطة التنمية لما بعد عام 2015 وإطلاق مجموعة أهداف التنمية المستدامة، تتخذ الأدلة التي يتضمّنها التقرير ويحلّلها، ومنظور التنمية البشرية الذي يستند إليه، بعدًا قيّمًا وفريدًا؛ فالقضاء على الفقر سيكون هدفًا أساسيًا في الخطة الجديدة، لكن التقدّم في التنمية لن يكون بمنأى عن الخطر ما دام الأفراد معرّضين للانزلاق مجددًا في الفقر بسبب عدد من العوامل الهيكلية والأخطار الدائمة. فالقضاء على الفقر لا يعني مجرد الخروج من دوامة الفقر بل البقاء في مأمن منها. لذا لتحقيق رؤية برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أي مساعدة البلدان على القضاء على الفقر وكذلك الحد من عدم المساواة والإقصاء وتعزيز التنمية البشرية المستدامة، لا بد من التعمّق في مفهومي درء الأخطار وبناء المنعة. فالتقدّم على صعيد التنمية لن يكون منصفًا ولا مستدامًا إلا عند مواجهة الأخطار بفعالية وإتاحة الفرص للجميع ووضع ثمار التقدّم في متناول كل فرد.
مسار التنمية البشرية
أظهرت تقارير التنمية البشرية المتتالية في الأعوام الماضية أن حياة معظم السكان في معظم البلدان في تقدّم مستمر على مسار التنمية البشرية. والتطوّرات في التكنولوجيا والتعليم والدخل تحمل بشائر في حياة أمدّ عمرًا، وأفضل صحة، وأكثر أمانًا. وقد عادت العولمة في الحصيلة بالكثير من المكاسب على التنمية البشرية، ولا سيما في بلدان الجنوب.
لكن هذه الصورة الإيجابية لا تنفي الشعور بخطر يتهدّد العالم، في سبل العيش، والأمن الشخصي، و سلامة البيئة، و السياسة العالمية. فالإنجازات الكبيرة التي تحققت في أوجه مصيرية في التنمية البشرية، مثل الصحة والتغذية، يمكن أن تتبدّد بسرعة البرق بفعل كارثة طبيعية أو انتكاسة اقتصادية. وأعمال النهب والسلب يمكن أن تترك الأفراد في حالة فقر مادي ونفسي. والفساد وعدم وجود مؤسسات مسؤولة يمكن أن يدفعا من هم بحاجة إلى مساعدة إلى طريق مسدود. والأخطار السياسية، والتوترات المجتمعية، وأعمال العنف، وإهمال الصحة العامة، والأخطار البيئية والجريمة والتمييز، جميعها عوامل تزيد من تعريض الأفراد والمجتمعات للأخطار. ويقول معد التقرير خالد مالك إن التقدّم الحقيقي في التنمية البشرية لا يقاس فقط بتوسيع خيارات الأفراد، وقدرتهم على تحصيل التعليم، ووضعهم الصحي الجيد، والعيش في مستوى مقبول، والشعور بالأمان، بل في تحصين الإنجازات وتوفير الظروف المؤازرة لاستمرار التنمية البشرية. وتبقى حصيلة التقدّم ناقصة من غير تقصي الأخطار التي يمكن أن تقوّض الإنجازات، وتقييمها.
ويرى أن مفهوم الأخطار يستخدم عادة لوصف التعرّض للأخطار المادية والتصدّي لها، بما في ذلك التأمين ضد الصدمات وتنويع الأصول والمداخيل، وأن هذا التقرير يعتمد نهجا أوسع، إذ يركّز على علاقة الترابط بين الحد من الأخطار والمضي في التقدّم في التنمية البشرية. كما يتناول مفهوم تعرّض البشر للأخطار من منطلق وصف احتمالات تقويض خيارات الأفراد وتقييد حرياتهم.
ويضيف: ونحن إذ نبحث في مفهوم الأخطار من منظور التنمية البشرية، نوجّه الاهتمام إلى الأخطار التي قد تصيب ظروف الأفراد والمجتمعات والبلدان وإنجازاتهم في المستقبل، ونقترح سياسات وتدابير لتحصين التقدّم في التنمية البشرية والمضي فيه، ونركز على مصادر الأخطار المستحكمة والدائمة. نسأل: لماذا تصيب فئات أكثر من أخرى، لماذا الأمن الشخصي للمرأة، مثلاً، معرّض للخطر أكثر من أمن الرجل؟ نسأل أيضًا: ما الأسباب الهيكلية التي تؤدي إلى تعرض فئات دون أخرى للأخطار؟ فالأفراد يتعرضون بدرجات متفاوتة لأخطار تهدد أمنهم، ولأنواع مختلفة من الأخطار على مدى مراحل حياتهم. وأكثر الفئات تعرضًا للأخطار هم الأطفال والمراهقون وكبار السن بحكم طبيعة الظروف التي تحيط بحياتهم، والسؤال هو: أي أنواع الاستثمارات والإجراءات يمكن أن تحد من الأخطار خلال المراحل الانتقالية المصيرية في دورة الحياة؟
ويشير إلى دور المؤسسات والهياكل والأعراف إما في بناء المنعة أو في تدميرها، وإلى استطاعة سياسات الدولة وشبكات الدعم من المجتمع المحلي تمكين الأفراد من تجاوز الأخطار في أي مكان وزمان؛ لأن التغاضي عن عدم المساواة الأفقية في المجتمع الواحد يمكن أن يضعف قدرات فئات معينة على التصدّي للأخطار.
لم التحدث عن الأخطار اليوم؟
ويرى التقرير أن الأخطار التي يتعرض لها البشر ليست بالجديدة، لكنها تتفاقم حاليا بسبب عدم الاستقرار المالي وتصاعد الضغوط البيئية، مثل تغيّر المناخ، وغيره من العوامل التي يُحتمل أن تقوّض التقدّم في التنمية البشرية. والواقع أن التقدّم يتباطأ منذ عام 2008 في المكوّنات الثلاثة لدليل التنمية البشرية في معظم بلدان العالم، وأن من الأهمية بمكان التصدّي لعوامل الخطر، وتحصين المكاسب، وتجنب حصول تعثر في مسيرة التنمية البشرية.
ويقول معد التقرير إن ما كان بالأمس محليًا أصبح اليوم عالميًا بفعل التجارة الدولية، وحركة السفر، وسهولة الاتصال. فسلاسل الإمداد العالمية المتكاملة، مثلاً، حققت مكاسب في الكفاءة. لكنّ أي انقطاع في السلسلة في أي مكان يمكن أن ينقل المشكلات المحلية بأخطارها إلى أي مكان في العالم. وأنواع السلع والخدمات العامة، المحلية والعالمية، اللازمة لبناء القدرة على التصدي، وبناء المجتمعات المنيعة، غير متوافرة بالمقدار الكافي. وفي مختلف أنحاء العالم، يشعر الناس بعدم الأمن.
ويضيف: إنه بينما نجد المجتمع الدولي منشغلا حاليا في التحضير لخطة التنمية لما بعد عام 2015 ووضع مجموعة أهداف للتنمية المستدامة، تبدو الفرص سانحة للتغيّر والتغيير، واعتماد أساليب جديدة في التعاون على مستوى العالم.
وقد أكد الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في خطابه إلى الجمعية العامة في يوليو 2013 أن العالم يجب أن يولي عناية خاصة لحاجات الفئات الضعيفة المعرضة للإقصاء، ودعا إلى رؤية جديدة تضم مختلف تطلّعات البشر من أجل حياة كريمة للجميع. وهذا التقرير الذي يتناول الأخطار التي تتهدد البشر يستهدف توجيه النقاش وتقديم توصيات بشأن تحقيق أهداف جديدة وبناء مجتمعات منيعة.