اللولبية المتجانسة ومادة الكون الأولى
بقلم: د. عوني الخطيب
تقول الفرضية العلمية: «كان في البداية كمية هائلة من الطاقة تحولت إلى مادة ومضاد للمادة matter and antimatter، وهو ما يحاول العلماء إثباته الآن في المصادمات النووية ضمن مشروع CERN، وفي لحظة لا نعرف طولها وبعملية غير معروفة حتى الآن تكوّن من المادة أكثر من مضادها.
وتشكلت هذه المادة الفائضة من الكواركات واللبتونات وجسيمات أخرى مثل بوزون هيغز.
وتحولت هذه الجسيمات الأولية إلى بروتونات ونيوترونات. وبذلك تكون أول نواة تشكلت هي نواة الهدروجين، وربما يفسر ذلك سبب كون الهدروجين أكثر العناصر وجوداً في الكون، وهو على الأقل أكثر بـِعشرة أضعاف من العنصر الذي يليه في الوجود وهو الهليوم. وتشكل الهليوم نتيجة للاندماج بين نظائر الهدروجين وهي الديتيريوم (بروتون + نيترون) والتريتيوم (بروتون + 2 نيترون)».
وأصل العناصر الأثقل من الهدروجين في النجوم أصبح حقيقة مقبولة، وهو ما يعرف بالتراكيب النووية النجمية Stellar Nuclear Synthesis.
وقد اتّفق العلماء على ميكانيكية ممكنة تتشكل فيها العناصر الأثقل من الهدروجين في النجوم الميكانيكية الأولى هي اندماج النويات لتكوين نويات أثقل، ويعتقد أن هذه ميكانيكية دائمة في النجوم.
ومثال ذلك هو ما يحصل في نظامنا الشمسي الذي تنتج الشمس من خلاله ما يكفي من طاقة لهذا النظام، مما يؤدي إلى إمكان الحياة على الأرض.
وأصبح مسلماً به أن اندماج نويات أثقل من الهدروجين ونظائره هو خارج قدرة البشرية بوسائلها الأرضية. وفي هذه العملية التي تسمى عملية ألفا أو التشكيل النووي الذري تندمج نويات عناصر خفيفة لإنتاج نويات أثقل.
إن أبجدية الكون مكونة من 88 عنصراً أوليا وليس 28، وهذه هي العناصر الأولية التي بني منها الكون المادي، لذا لا بد من فرضية أُخرى، وهي أن هناك عناصر أثقل من الحديد والنيكل تشكلت بعملية اقتناص النيوترونات، ومن ثم بواسطة إطلاق إشعاع بيتا – عندما يخسر النيوترون في النواة أشعة بيتا يخسر إلكتروناً ويتحول إلى بروتون – يتم إنتاج عنصر جديد .
تكوّن العناصر
عند درجات الحرارة العالية في الكون المتشكل تكون الذرات غير مستقرة؛ لأن درجات الحرارة العالية تنتزع الإلكترونات من مداراتها، وما يبقى هو البلازما الغازية من هذه العناصر، وعندما يُستنفد عمر نجم معين فإن ارتحال النويات من هذا النجم المحتضر إلى الكون الرحب يؤدي إلى انخفاض درجة حرارتها بما يكفي لتحتفظ بالإلكترونات وتشكل الذرات.
والذرات المتشكلة في تلك الظروف تكون غاية في التفاعلية مما يمكنها من إيجاد كينونات مادية أُخرى تتحمل درجة الحرارة العالية.
ويبرز هنا نوع جديد من الطاقة إضافة إلى الطاقة النووية التي أوجدت وصاحبت تشكل المادة وهو الطاقة الكيميائية. وخلال سلسلة تطور العناصر وتحول النويات إلى ذرات برزت ظاهرة جديدة سيكون لها تأثير كبير هي ظاهرة مولد التفاعلات الكيميائية، وبذلك تظهر المركبات. وهذا التحول من التفاعلات النووية إلى التفاعلات الكيميائية أدى إلى نقل الكون والقوى التي تبني مصيره ومستقبله من القوى النووية الفاعلة إلى القوى والطاقة الكيميائية. ولا بد من الإشارة إلى أن تكوين الأيونات سبق – على الأغلب – تكوين المركبات، وأن المركبات الأيونية هي المركبات الأولى التي ظهرت في الكون. والطاقة اللازمة لإزاحة إلكترون من المدار الاخير لذرة من الذرات لتكوين الأيون الموجب هي نفسها التي تكون السبب في تكوين الأيون السالب، وكلما بردت درجة الحرارة في الغلاف المحيط كان ممكناً للمدارات أن تتداخل لتكوين المركبات التشاركية.
الغلاف الجوي المختزل
أخذت الذرات الخفيفة في تكوين مركبات من خلال الروابط التساهمية الأحادية والثنائية والثلاثية بين ذرتين متماثلتين أو ذرتين أو أكثر مختلفتين لإنتاج جزيئات بسيطة، ولكن تشكل ذرات الأكسجين سيؤدي إلى تفاعل مباشر لتكوين جزيئات غازية مثل أول أكسيد الكربون. كذلك فإن ذرات الهدروجين ستتفاعل مع الكربون والنيتروجين (كمثال) لإنتاج غازات عدة، وهكذا فإن مجمل هذه التفاعلات ينتج ما يسمى بالغلاف الجوي المختزل.
وشكلت أيونات المعادن الأملاح المعدنية التي شكلت القشرة الأرضية، لكن بعضاً من أيونات المعادن التي تم اصطيادها دخلت للتموضع في مركز جزيئات كبيرة، ثم ارتبطت بها، وهذه الجزيئات الكبيرة ذات المركز المعدني أصبحت مهمة جداً في تطور الحياة على الأرض. وأول ما يتبادر إلى الذهن جزيء الكلوروفيل حيث يكون أيون المغنيسيوم محاطاً بجزيئات حلقية من البورفيرين، إذ إن صبغة الكلوروفيل أصبحت تنتج الأكسجين أثناء عملية التمثيل الكلوروفيلي، وبذلك أصبح هناك أكسجين في الغلاف الجوي يزداد تركيزه باستمرار، وكذلك تم إيجاد أهم جزيء يقوم بخزن الطاقة الشمسية على شكل مركبات عضوية. وهناك صيغة أخرى ستتشكل بعد إمطار الأرض بالنيازك الغنية بعنصر الحديد والنيكل من النجوم الميتة، هذه الصيغة هي الهيموغلوبين. وبذلك أصبح عنصرا النيكل والحديد من العناصر الوفيرة في البيئة الأرضية المكونة في الغالب من جزيئات ومركبات غير معدنية وأملاح معدنية.
ماهية اللولبية
مع ازياد حجم المركبات الكيميائية المتكونة يصبح مستوى تعقيدها أكبر، وهذه المركبات قد تلتف أو تنثني بناءً على خواصها الذاتية. فهناك نظير ثلاثي الأبعاد سائد للسكريات متواصل ويدخل في المركبات الحيوية، وفي البروتينات هناك نظير من الأحماض الأمينية هو الشكل السائد في جميع البروتينات.
ومع أخذنا بعين الاعتبار أن هناك 20 حمضاً أمينياً فقط تدخل في بناء الكائنات الحية، كأحماض أمينية أساسية، فإنه ثمة إمكانية لتكوين الآلاف من هذا الأحماض الأمينية، وما يقارب من عشرين حمضاً أمينياً تحرف الضوء المستقطب إلى اليسار، وبذلك تستخدم في الكائنات الحية، وهذا مؤشر داعم للفرضية التي مفادها أنه من دون اللولبة ليس هناك حياة، وهي تشكل بذلك ميلاد المعرفة بهذه الخاصية.
إن اللولبية تعني أن مركبا ما هو صورة مرآة للمركب الآخر تماماً، كما اليد اليسرى هي صورة مرآة لليد اليمنى، لكن كلتا اليدين لا يمكن انطباقهما، تماماً كما أن قفاز اليد اليمنى لا يلائم اليد اليسرى والعكس صحيح. وكلما اتضحت أبعاد هذه الخاصية أصبحت سمة أساسية في بناء المركبات الكبيرة، كالبروتينات الكبيرة، حيثُ تبنى البروتينات في الكائنات الحية من نظير واحد من النظيرين، وهو النظير الأيسر L-form ، وهذه البروتينات مكونة من أحماض أمينية من صفاتها الضوئية حرف الضوء المستقطب إلى اليسار لأن هذا الأمر يحقق للبروتين أقصى درجات الاستقرار.
ويعتبر بناء البروتينات في الأجسام الحية أمراً أساسياً لتتمكن الأجسام من أداء وظائفها الحيوية.
ومن أهم صفات البروتينات هي انثناء الجزيء على نفسه بطريقة محددة. وحتى يصبح البروتين قادراً على أداء وظيفته، لابد أن تتعرف إليه أعضاء الجسم، وكذلك العضو الذي سيقوم فيه هذا البروتين بوظيفته. ومن دون التعرف إلى البروتين يصبح هذا البروتين فضلة من الفضلات ويجب التخلص منه. وبهذه الخاصية، وهي اللولبية، يصبح شكل البروتين وتركيبه معروفين من قبل العضو الذي سيعمل فيه، فالبداية يجب أن تنطلق من التعرف، والتعرف لا يتم إلا إذا كان هذا البروتين مبنياً من أحماض أمينية ذات صفات لولبية محددة.
ولكن لماذا هذه الأحماض الأمينية هي التي تتمتع فقط بالصفات اللولبية المناسبة لبناء البروتين في الشكل المناسب?.
للإجابة عن هذا التساؤل فإن كتب الكيمياء والكيمياء الحيوية تقول: «إن اختيار النظير الضوئي تم بمحض المصادفة، لكن بمجرد الاختيار الأول تواصلت الخلية بالخيار نفسه».
ولكن ما الذي يجعل العشوائية هذه محط تساؤلات: هل يمكن الاختيار بين احتمالين متساويين في الإمكانية إلا إذا كانت هناك قوة تحدد هذا الأمر، أو هل يمكن أن تكون هناك حياة موازية مصنوعة من النظير الآخر وتلك الحياة الموازية انقرضت مع الزمن، أو ربما هناك عوامل كيميائية محددة جعلت هذا الاحتمال هو الخيار الممكن والأكثر إمكانية من الآخر حتى أصبح هو الخيار الوحيد؟ ولا بد من وجود إجابة في الطبيعة للتساؤل: لماذا يوجد مركب ولا يوجد نظيره على الرغم من تكون النظيرين بنسبة متساوية إذا حُضرت هذه المواد في المختبر؟!
دراسة الحالة
لا يوجد متابع أو عالم يستطيع أن يجزم بسبب اختيار النظير الأيسر للأحماض الأمينية في بناء الحياة، لكن بعد مشاهداتي وبعد تجارب محددة أصبح عندي ما يعادل فرضية أولية مفادها أن أيون النيكل ربما أدى دوراً مركزياً في جعل الحمض الأميني L أكثر وجوداً لتكوين البروتينات من النظير الآخر D، وهذا التمايز لا يعطي اختياراً مطلقاً أو متكاملاً.
وقد وجدت أن ارتباط أيون النيكل بالحمض الأمينيL في تشكيل مركبات معقدة يؤدي إلى أن يعمل هذا النيكل على خفض نسبة التحول (يثبط) لهذا النظير إلى النظير D ، على الرغم من أن باقي العناصر التي تم إجراء الاختبار عليها تسارع بهذا التحول مثل الأيونات المحيطة بالنيكل في الجدول الدوري كالكوبلت والنحاس.
ومن جهة أُخرى عندما يرتبط النيكل بمركب معقد مع النظير L، فإن المركب المعقد المكون من الـD يترسب بشكل تفضيلي، وبذلك كما تقول النظرية العلمية فإن هذا الإجراء يقلل من تركيز النظير D في الحساء الكوني الأولي Primordial soup، ومن ثم يزداد التركيز النسبي للنظيرL، وبهذا فإذا وضعت النتيجتان معاً يمكن النظر إلى الأمر بأن هناك تدخلاً كيميائياً بواسطة عنصر النيكل في زيادة التركيز النسبي للنظير L. وقد تم إجراء هذه التجارب مرات عدة بنجاح.
إن نظريات تشكل الكون وبدء الحياة على هذا الكون تفترض دائماً وجود الشيء وضده.
وهناك المادة ومضاد المادة وهناك المادة والطاقة، وهناك أيضاً خيار لم يناقشه العلماء طويلاً وهو خيار اللولبية المتماثلة أو اللولبية المختلفة، فإذا كانت المتماثلة فهل تكون مكوناتها وبشكل مطلق من نظير أم من النظير الآخر وما أفرزته الحياة أنها أخذت اللولبية المتماثلة واعتمدت نظيراً واحداً وهو النظير L من الأحماض الأمينية، وهذا جعل الحياة تقوم على خط واحد من التعرف إلى المركبات المختلفة لإتمام عملية التمثيل الحيوي المنوط به استمرار الحياة.
واتخاذ الخيارات يعزوه العلماء إلى المصادفة في الاختيار الأول، ثم التواصل على الخط نفسه الذي اختير على مر الدهر، ولكن هل هناك إمكانية ليكون اتخاذ هذا الخيار لم يأتِ بالمصادفة المطلقة وإنما كان هناك عوامل دفعت في اتجاه أخذ هذا الاحتمال. لقد حاولنا أن نوضح أن هناك إمكانية كيميائية ربما تدخلت في جعل الاحتمال الذي بين أيدينا قد اتخذ نتيجة عوامل موضوعية يمكن استحضارها وقياسها.
مقال
جميل إلى المزيد من التقدم