الفيروسات والزهايمر أي دور للعدوى الفيروسية في حدوث المرض الخطير؟
ربما يأتي يوم نخضع فيه لاختبارات سريعة تساعدنا على توقع الأشخاص المعرضين للإصابة بالزهايمر، ومن ثم إخضاعهم إلى إجراءات وقائية في مرحلة مبكرة قبل بداية ظهور المرض
د. إسلام حسين
باحث في مجال الفيروسات بمعهد ماساتشوستس للتقانة MIT بالولايات المتحدة الأمريكية
يحتل المخ مكانة خاصة بين أعضاء الجسم؛ فمن خلال شبكة معقدة من الأعصاب يقود “أوركسترا” رائعة تعزفها كل خلجة من خلجات أجسادنا في كل جزء بسيط من الثانية. ومن خلال قدرات المخ الفائقة على تلقي المعلومات وتحليلها وتخزينها نتمكن من رؤية العالم من حولنا وتكوين خبرات ومهارات تسهم في تشكيل هوياتنا. ولكن ما نراه كل يوم يذهب ويأتي، ولا يبقى منه إلا ما حوته ذاكرتنا. فما نحن إلا مجموعة من الذكريات التي تراكمت داخل أدمغتنا، فإذا ذهبت ذهبنا.
هذا تحديداً ما يحدث في مرض الزهايمر، الذي استمد اسمه من اسم مكتشفه الطبيب الألماني الويس الزهايمر lois Alzheimer. تابع الدكتور الويس سنة 1906 التغيرات الميكروسكوبية المرضية التي طرأت على نسيج مخ مريضته أوغاستي ديتر. توفيت أوغاستي وعمرها 55 عاما بعد معاناتها مرضا أصابها بالخرف وفقدان الذاكرة. لاحظ الدكتور الويس وجود بعض التجمعات البروتينية غير الذائبة بين الخلايا العصبية (تعرف الآن باسم لويحات الأميلويدAmyloid plaques).
أعباء الزهايمر
يعتبر مرض الزهايمر من أهم أمراض الشيخوخة وأكثرها شيوعاً. ويقدر عدد المصابين به حالياً بنحو 47 مليون مصاب، ومن المتوقع أن يزداد هذا العدد ليبلغ نحو 130 مليون مصاب بحلول عام 2050. يفقد مريض الزهايمر قدرته على التعامل مع مناحي أمور حياته ويصير عبئاً على ذويه، مما يتسبب في ضغوط نفسية شديدة على أفراد العائلة. وعلى الرغم من التقدم الهائل الذي حققه علم الطب الحديث، فإننا لا نزال نفتقر إلى علاج لهذا المرض! فما السبب إذاً وراء هذا الفشل الذريع؟
إن إيجاد علاج لأي مرض يتطلب فهما دقيقا لميكانيكية حدوثه. فكيف يحدث مرض الزهايمر؟ حتى وقت قريب، كان هناك شبه إجماع بين العلماء المتخصصين على أن السبب الرئيسي وراء هذا المرض هو تجمعات بروتين الأميلويد في نسيج المخ، وهو ما عرف بـ”نظرية الأميلويد”. بروتين الأميلويد هو بروتين صغير تنتجه الخلايا العصبية في صورة ذائبة، ويتم التخلص منه عادةً بواسطة السائل النخاعي المحيط بالمخ. اعتقد العلماء لفترة طويلة أنه بروتين لا وظيفة له وينتج بصورة عرضية. ومع تقدم السن يختل التوازن بين معدلات إنتاجه والتخلص منه، مما يؤدي إلى تراكمه في المخ في صورة غير ذائبة. والنتيجة الحتمية لهذه التجمعات غير الذائبة هي تكوين لويحات الأميلويد، التي تضغط على الخلايا العصبية مما يتسبب في تلفها وتعطل نقل الإشارات العصبية في بعض الأماكن الحساسة في المخ والمسؤولة عن الذاكرة. واستناداً إلى هذا التصور، عكف العلماء على تطوير علاجات تستهدف التقليل من تراكم بروتين الأميلويد في المخ. لكن كانت المفاجأة! لم تثمر أي من هذه المحاولات، التي قدرت بالمئات، علاجا لهذا المرض. بل تسببت في حدوث أعراض جانبية غير متوقعة تمثلت في زيادة معدلات الإصابة بالتهابات المخ الناتجة عن أسباب ميكروبية!
نظرية العدوى
أسهمت هذه الملاحظة غير المتوقعة في لفت انتباه مجتمع أبحاث الزهايمر إلى نظرية أخرى عن ميكانيكية حدوث المرض، خرجت إلى النور في أوائل الثمانينات، وعرفت بـ “نظرية العدوى”. اعتمدت هذه النظرية على ملاحظات أولية عن تطابق في الأماكن المصابة في المخ بين مرضى الزهايمر والناجين من التهاب شديد في المخ تسببه الإصابة بفيروس هيربيس البسيط herpes simplex-1 أوHSV-1. وعلى العكس تماماً من نظرية الأميلويد التي افترضت أن بروتين الأميلويد عديم الفائدة، اقترحت نظرية العدوى أنه يؤدي دوراً مهما في حماية المخ من غزو العديد من الميكروبات، مما قد يفسر الزيادة الملحوظة في التهابات المخ الميكروبية التي صاحبت محاولات تقليل تراكم بروتين الأميلويد في المخ. سجل الباحثون بعض الملاحظات المهمة الأخرى التي أسهمت في تدعيم افتراضات نظرية العدوى. فعلى سبيل المثال، عثر على نسبة عالية من المادة الوراثية DNA الخاصة بفيروس HSV-1 في حالة تمركز متطابق “co-localization” مع لويحات الأميلويد في أمخاخ مرضى الزهايمر. يعتبر فيروس HSV-1 أحد أهم أنواع الفيروسات، وأكثرها شيوعاً بين البشر، التي تسبب عدوى مزمنة للجهاز العصبي. وغالباً ما تحدث العدوى بهذا الفيروس في مرحلة مبكرة من العمر عن طريق الاحتكاك المباشر بشخص مصاب. يخترق الفيروس طبقات الجلد من خلال أي جرح طفيف، ثم يسارع بالاختباء من اليد الطولى لجهاز المناعة في الأعصاب الطرفية. ومن خلال الأعصاب يهاجر الفيروس في اتجاه المخ ليستقر في إحدى العقد العصبية في منطقة الرأس، المعروفة بـعقدة العصب ثلاثي التوائمTrigeminal ganglion. في هذه العقدة العصبية يظل الفيروس في حالة خمول تام latency لا يضاعف فيها من مادته الوراثية. وعند تعرض الشخص المصاب لبعض الضغوط التي قد تضعف من ردة فعل جهازه المناعي، قد ينشط فيروس HSV-1 مرة أخرى reactivation ويتضاعف في الخلايا المصابة. وعلى الرغم من وجود الحائل الدموي الدفاعي blood brain barrier حول المخ، الذي يحول دون وصول الميكروبات إلى هذا العضو المهم، فإن قدرته على توفير هذه الحماية تضعف مع التقدم في العمر، مما قد يسمح لفيروس HSV-1 بالاختراق إلى نسيج المخ، ومن ثم قد يدخل في مرحلة كمون مرة أخرى، ثم يعود إلى النشاط من حين إلى آخر.
بروتين الأميلويد
افترضت نظرية العدوى أن بروتين الأميلويد يفعل من دوره المناعي عن طريق التجمع حول الميكروب الموجود في نسيج المخ، ومن ثم يعمل على تغليفه ومنعه من الانتشار إلى أجزاء أخرى سليمة من نسيج المخ. وأظهرت العديد من الدراسات التي أجريت على مزارع الخلايا في المختبرات وعلى حيوانات التجارب أن هذا السيناريو الذي افترضته نظرية العدوى قريب جداً من الصحة، وجدير بالمزيد من الأبحاث التي تستكشف الدور الذي يؤديه بروتين الأميلويد في خطوط المخ الدفاعية في وجه الإصابة بالميكروبات. على سبيل المثال، أظهرت بعض التجارب على مزارع الخلايا العصبية أن العدوى بفيروس HSV-1 تؤدي إلى تراكم بروتين الأميلويد في هذه الخلايا. وإذا عولجت هذه الخلايا بأحد مضادات فيروسات الهيربس acyclovir، تبدأ نسبة الأميلويد بالهبوط. وأظهرت بعض التجارب التي أجريت على بروتين الأميلويد المخلق مختبريا وجود تأثيرات مضادة للعديد من الفيروسات والبكتيريا والفطريات. وجاءت أهم الأدلة التي دعمت نظرية العدوى من فئران التجارب المهندسة وراثياً لإنتاج نسب عالية فوق المعتاد من بروتين الأميلويد. حينما حقن الباحثون هذه الفئران بفيروس HSV-1 أو بكتيريا السالمونيلا، تمكنت هذه الفئران من البقاء على قيد الحياة لمدد أطول مقارنة بمثيلاتها غير المعدلة وراثياً.
افتقرت هذه النتائج البحثية إلى أدلة مباشرة من البشر بسبب التحدي الذي يفرضه مكان الإصابة في المخ، فمن غير المتاح لجوء الباحثين إلى تجميع عينات من أمخاخ الأحياء للكشف عن المسببات الميكروبية. ولذلك لجأ الباحثون إلى طرق غير مباشرة اعتمدت على الكشف عن الأجسام المناعية الخاصة بفيروس HSV-1. كشفت هذه الدراسات أيضاً عن تعرض أكبر للإصابة بمرض الزهايمر لدى الأشخاص الإيجابيين لبعض أنواع الأجسام المناعية التي تكشف عن وجود نشاط حديث للفيروس. لكن لم تكن الإصابة بالفيروس HSV-1 هي المؤشر الوحيد إلى زيادة فرصة الإصابة بالزهايمر في مرحلة متقدمة من العمر؛ فقد كشفت بعض الدراسات عن دور تؤديه العوامل الوراثية أيضاً.
اكتشف العلماء أن 60% على الأقل من مرضى الزهايمر يحملون جينا يعرف باسم APOE4، مما يزيد الصورة تعقيداً ويفتح الباب على مصراعيه أمام المزيد من الدراسات التي قد تمهد الطريق نحو فهم أفضل للعلاقة المتشابكة بين الأميلويد والجينات والعدوى المزمنة ببعض الميكروبات التي تصيب الجهاز العصبي. كشفت الدراسات التي تناولت نظرية العدوى عن مفارقة عجيبة، ألا وهي أن سلوك بروتين الأميلويد التراكمي كمحاولة لحماية المخ من الميكروبات هو السلوك نفسه الذي يحدث ضررا بالمخ حينما يصل إلى معدلات عالية مع التقدم في العمر. ومن ثم نستنتج أن الزهايمر لا يخضع لتصنيف المرض المعدي بمعناه التقليدي.
الميكروبات والزهايمر
الميكروبات لبنة أولى في سلسلة طويلة ومتشابكة من الأحداث قد تؤدي في النهاية إلى ظهور أعراض الزهايمر. لا ترال هذه النظرية محل إثارة للجدل بين الأوساط العلمية المتخصصة، لكنها حازت اهتمام العديد من الباحثين الذين يعكفون حالياً على أبحاث قد تحمل معها إجابات عن الكثير من الأسئلة التي تزال عالقة. وربما تفتح هذه الأبحاث طريقاً نحو طرق علاجية جديدة أكثر كفاءة لمرض الزهايمر قد تتضمن أدوية مضادة للفيروسات. لكن من المرجح أن تعجز هذه الأدوية عن إصلاح العطب الذي حدث بالفعل لنسيج المخ. لذلك هناك حاجة، جنباً إلى جنب مع العلاجات الجديدة، إلى ثورة في مجال التشخيص المبكر لمرض الزهايمر في الدم. ربما يأتي يوم نخضع فيه إلى اختبارات سريعة تساعدنا على توقع الأشخاص المعرضين للإصابة بالزهايمر، ومن ثم إخضاعهم إلى إجراءات وقائية في مرحلة مبكرة قبل بداية ظهور المرض. دعونا نحلم بهذا اليوم!