الصحة النفسية للحوامل.. أخطار التوتر على الجنين
التعرض لضغوط شديدة ومتواصلة خلال فترة الحمل يؤدي إلى تأثيرات سلبية في صحة الجنين أهمها تلف الدماغ.
د. سارة لكحيلي
باحثة في علم الأعصاب والصحة النفسية، أستاذة في المدرسة العليا لعلم النفس بالدار البيضاء (المغرب)
لطالما مثلت مرحلة الحمل فترة قلقة لجميع الأمهات، لما يصاحبها من تغيرات جسدية ونفسية، ولما قد يطرأ خلالها من مستجدات تؤثر في صحة الأم من جهة والجنين من جهة أخرى. والإجهاد النفسي الذي يعتري الحامل في تلك المرحلة، والتوتر الشديد الذي يصاحبه، يعتبران من أهم العوامل المؤدية إلى ظهور اضطرابات نفسية مفاجئة خلال فترة الحمل، قد تؤثر سلبا في النمو السليم للجنين وتتسبب أحيانا بولادته المبكرة.
والتوتر حالة شعورية طبيعية، وجزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية، تنتج عنه تغيرات فسيولوجية وإدراكية تحفزنا إلى اتخاذ استجابات سلوكية لمواجهة المشكلة التي تتسبب في توترنا. وغالبا ما يكون التوتر إيجابيا ومحفزا إلى التفكير مما يساعد على تحقيق نتائج إيجابية في العمل أو الدراسة، بيد أن التعرض للتوتر المُفرِط والمتواصل ينهك الجسم ولاسيما الجهاز المناعي ويؤدي إلى حدوث مشكلات نفسية وجسدية وخيمة.
وثمة أهمية كبيرة للبيئة المحيطة بالحامل، وتأثير فاعل في نمو الجنين داخل الرحم. فتوتر المرأة خلال الحمل يؤدي إلى تغير الوظائف الفسيولوجية لجسم الأم الذي يفرز كميات كبيرة من هرمونات التوتّر مثل هرمون الكورتيزول. وكلما طالت مدة الضغط ارتفعت مستويات هرمونات التوتر في دم الأم لتعبر المشيمة، محدثة بذلك مجموعة من الأضرار التي قد تؤثر سلبا في نمو الجنين. وارتفاع مستويات هرمونات التوتر المسؤولة عن القلق والإحباط خلال الحمل يؤدي إلى ارتفاع نسبة السكر في الدم، وارتفاع الضغط، وتقلص نسبة الأكسجين في الأنسجة، وهي عوامل قد تتسبب في تشوهات خلقية للجنين وظهور اضطرابات سلوكية لاحقا.
الصحة النفسية للحامل
سجلت مجموعة من الإحصائيات ارتفاع نسبة الإجهاض بين النساء اللواتي تعرضن لضغط نفسي حاد خلال الأشهر الأولى من الحمل، وهو ما أكدته أبحاث حديثة تهتم بدراسة المضاعفات السلبيّة الطويلة المدى لتوتر المرأة الحامل على نمو الجنين. فارتفاع تركيز هرمونات التوتر يحدث انقباضات شديدة في الرحم قد تؤدي إلى الإجهاض وخسارة الجنين، أو الولادة المبكرة.
وخطر الولادة المبكرة مرتبط بارتفاع معدلات وفيات الرضع وإصابتهم باضطرابات جسدية وعقلية. وتظهر أبحاث شملت نساء وحوامل تعرضن لنسب متفاوتة من الإجهاد النفسي والبدني أن معظمهن عانينَ مشكلات أثناء الولادة وأنجبن أطفالا يعانون ضعف الوزن عند الولادة، وتأخر النمو الجسدي وبعض أوجه القصور التي قد تستمر حتى سن البلوغ.
ويعتبر ضعف وخلل نمو قلب الجنين من بين الآثار المباشرة لتوتر الأم خلال الحمل. فتعرض الأم لضغوط عصبية حادة خلال فترة الحمل (مثل خسارة شخص عزيز، أو الأذى البدني أو النفسي، أو التعرض لكوارث طبيعية كالحروب أو الفيضانات أو المجاعة) يؤثر في معدل ضربات قلب الأم، وكذا قدرة الجهاز العصبي الباراسمبثاوي على التحكم في ضربات قلب الجنين، إضافة إلى تأخُّر نموه داخل الرحم وتلف خلايا جهاز العصبي المركزي، وهو ما قد يؤدي إلى تشوهات دماغية واختلالات على المستويين الحسي والإدراكي.
صحة الجنين
ثمة دراسة حديثة تظهر نتائجها وجود علاقة مباشرة بين توتر الأم الحامل وضعف نمو دماغ الجنين داخل الرحم. وتبين ذلك من خلال تقييم مستوى توتر الأمهات وشدة الإجهاد الذي عشنه حسب التجارب والضغوط التي واجهنها خلال الحمل، والتي تنوعت ما بين ضغوط خفيفة بسبب الإجهاد اليومي وضغوط متوسطة نتيجة الانتقال من المنزل أو إجراء اختبارات دراسية أو ضغوط شديدة مثل ألم فقدان أحد الأقارب أو الطلاق. واستخدم الباحثون في الدراسة تقنيات التصوير الطبية المتطورة لدراسة بنية المادة البيضاء (من مكونات الدماغ التي تتكون من ألياف عصبية تربط بين الخلايا العصبية وتمكنها من تبادل الرسائل من أجل معالجة المعلومات النموذجية للإدراك الطبيعي) لدى 251 طفلًا.
وتبين من نتائج الدراسة أن ارتفاع حدة الضغوط النفسية أثناء الحمل وفترة ما قبل الولادة يؤدي إلى تغيرات بنيوية على مستوى المادة البيضاء في المخ، وإضعاف الروابط بين المناطق الدماغية التي تسير الوظائف الإدراكية التنفيذية والسلوكية.
وأظهرت دراسات أجراها فريقنا في مختبرات كلية الطب والصيدلة بالدار البيضاء أن التعرض للتوتر المستمر خلال الحمل يخلف آثارا طويلة المدى على مستوى بنية الدماغ وعلى مستوى الجانبين العاطفي والسلوكي. وتشير نتائج أبحاثنا إلى أن التوتر يؤدي إلى تغييرات جينية تتمثل في ارتفاع عدد مستقبلات الدوبامين D2 في النواة المتكئة وانخفاض عدد مستقبلات السيروتونين 5HT1A في منطقة دماغية تسمى نواة الرفاء، وهذه التغيرات تحدث خللا في وظيفة تلك المناطق الدماغية مما يعزز الشعور بالخوف والقلق، ويؤدي إلى ظهور مشكلات سلوكية أهمها اضطراب القلق، وقابلية الوقوع فريسة الإدمان لاحقا.
الضغط النفسي والاضطرابات السلوكية
تناولت العديد من الدراسات الروابط الموجودة بين الإجهاد النفسي العاطفي الشديد أثناء الحمل وارتفاع نسبة الاضطرابات السلوكية لدى الأبناء في مرحلة البلوغ. وعلى سبيل المثال، فقد خلف غزو القوات الألمانية لهولندا سنة 1940م ارتفاعا في معدل الإصابة بالفصام لدى أبناء النساء اللواتي عشن مأساة الحرب أثناء فترة حملهن (لا سيما خلال الثلث الأول من الحمل)، في حين ارتبطت المجاعة التي اندلعت غرب هولندا خلال شتاء 1944-1945م بتزايد حالات التوحد واضطراب نقص الانتباه المصحوب بفرط الحركة.
وتظهر دراسات سريرية أن الجنين يستجيب للحالة النفسية السلبية للأم. وتلك التغيرات المزاجية تصاحبها تغيرات كيميائية في جسم الأم تؤثر بدورها سلباً في حركة الجنين التي تصبح أقل استقراراً نتيجة لارتفاع الهرمونات التي تعبر الرحم. فتعرض المرأة الحامل للتوتر يزيد من احتمال إصابة الطفل باضطرابات نفسية وسلوكية مثل مشكلات الانتباه، وفرط الحركة، وصعوبات في النوم، والتوحد، وانفصام الشخصية، والقلق، والاكتئاب، كما تؤثر في إدراك الطفل لاحقا وقدرته على الإبداع والتفكير.
وأكدت العديد من الملاحظات الطبية وجود تأثير سلبي لتوتر الأم في نمو مناطق دماغية مسؤولة عن الإدراك وصنع القرار والذاكرة، مما يؤدي إلى زيادة احتمال إصابة هؤلاء الأطفال باضطرابات عقلية وحدوث مشكلات في الذاكرة مقارنة بباقي الأطفال الذين أنجبتهن أمهات لم يصبن بالإجهاد النفسي الحاد خلال الحمل.
أشهر الحمل الأولى
إن حدة مضاعفات توتر المرأة الحامل على الجنين تختلف حسب توقيت الإصابة بالإجهاد، فالجنين يعتبر أكثر عُرضة للتأثر بالحالة النفسية للأمِ خلال الأشهر الستة الأولى من الحمل التي يكتمل فيها نمو أعضاء الجنين مثل القلب، والعظام، والكليتين، والجهاز العصبي. ويتميز الأسبوع العاشر من الحمل بتطور مهم لمخ الجنين، حيث ينتج هذا الأخير نحو 250 ألف خلية عصبية جديدة في الدقيقة الواحدة، لذا فإن كل تشويش خلال تلك الفترة قد تكون له آثار وخيمة على نمو الجهاز العصبي للجنين وقدراته الذهنية.
وتظهر كل هذه المعطيات بشكل قاطع وجود علاقة واضحة بين الحالة النفسية للحامل ونمو الجهاز العصبي للجنين، وتدل على أهمية الاهتمام بالصحة النفسية للأم لضمان نمو سليم وصحة جيدة للوليد على المدى الطويل. وينصح الأطباء المرأة الحامل بالابتعاد عن التوتر نظراً لتأثير حالتها النفسيّة على نمو الجنين، والابتعاد عن أي مصدر للتوتّر والقلق، والحرص على ممارسة التمارين الرياضية المناسبة لتنشيط الدورة الدموية وتحسين الحالة المزاجية.
ويستحسن اتباع نظام غذائي صحي غني بالفيتامينات والمعادن اللازمة لنمو الجنين، وشرب كميات كافية من الماء، مع النوم المبكر وتفادي السهر الطويل؛ إذ إن الحرمان من النوم يضعف قدرة الجسم على التغلب على الضغط النفسي. وينصح باستشارة طبيب مختص في حالة استمرار الحالة النفسية السلبية ما يتيح الفرصة للتدخُّل المبكر عند الحاجة، والتوجيه الملائم الذي يساعد الحامل على التحكم في قلقها بشكل أفضل.a