د. شادي عبد الحافظ
كاتب متخصص في الموضوعات العلمية (مصر)
قبل نحو قرن ونصف، اقترح سيغموند فرويد Sigmund Freud، طبيب الأعصاب النمساوي، نظرية نفسية جديدة سببت الكثير من الجدل؛ لأنها تعتمد على رغباتنا الجنسية كمحرك أساسي لفهم تطور شخصياتنا من الولادة إلى الوفاة. في أثناء ذلك كانت حالات السمنة قد بدأت تشغل بال الأطباء، فالتفت إليها فرويد وأسس فرضية تفسرها من خلال نظريته.
بحسب فرويد، فإن للشره الزائد عن الدرجة الطبيعية علاقة باضطراب في المرحلة الفموية، تلك التي تبدأ من لحظة الولادة وحتّى عمر 18 شهرا، وفي أثنائها يشعر الرضيع بالارتياح عبر وضع الأشياء في فمه بهدف إرضاء رغباته، سواء أكان ذلك عبر الرضاعة أم مص أصابعه أم العض على الأشياء. في تلك النقطة يرى فرويد أن الحرمان العاطفي في تلك المرحلة قد يتسبب في محاولات مستقبلية للتعويض المستمر من أجل إرضائها، وهنا يكون الشره للطعام أحد تلك الأعراض.
مرض نفسي
على الرغم من أن نظريات فرويد أصبحت تراثًا بالنسبة إلى علم النفس ولم يعد معمولًا بها، فإنها كانت أول محاولة جادة لفهم السمنة من منظور نفسي. في الواقع، فإن التطور المتسارع للإصابة بالسمنة خلال القرن العشرين دفع المتخصصين في هذا النطاق إلى التفكير في وجود أسباب نفسية تدفع بالمزيد من البشر إلى الأكل بدرجة أكبر من المعتاد، إضافة إلى العوامل الجينية أو الوراثية.
بعد فرويد، اقترحت الطبيبة النفسية هيلدا بروخ في الستينات من القرن الفائت أن السمنة ربما تكون بالفعل مرضًا نفسيا سببه أن بعض الأمهات كانت – في مرحلة الطفولة – تمنع الأكل عن أطفالها وقت احتياجهم الفسيولوجي له، وتطعمهم في أوقات لا يحتاجون إلى الطعام فيها. وهذا يثبط من قدرات أجسامنا على فهم الجوع فيحدث نوع من البلبلة النفسية الجسدية للإنسان، بحيث يصبح من الممكن للمثيرات الخارجية – كإعلانات الطعام في التلفاز – أن تثير اهتمامه بالطعام كالحاجة الفسيولوجية.
ظهرت بعد ذلك نظريات عدة تفرعت من فرضيات بروخ لتشرح السمنة كظاهرة نفسية بقدر ما هي فسيولوجية. وعلى الرغم من أننا لم نستقر بعد على نظرية موحدة لتفسير السمنة في سياق نفسي، وربما لا تكون هناك نظرية موحدة وإنما عناصر عدة تتفاعل معا، فإن التعرف بشكل أوضح إلى بعض الاضطرابات المزاجية كالاكتئاب والقلق ساعد على تحقيق فهم أفضل للعلاقة بين أمزجتنا والسمنة. في تلك الاضطرابات يفقد المرضى قدرتهم على التحكم في نمط أكلهم أو نشاطهم البدني، ما قد يتسبب في إصابتهم بالسمنة بعد حالة مستمرة من الإقبال المفرط على الطعام.
اضطرابات النهم
في الواقع، فإن النظرة النفسية الحديثة للسمنة تقترح أن هؤلاء الذين يأكلون بشرهٍ يتعاملون مع الطعام كآلية تكيف، بمعنى أن هناك حلقة نفسية مغلقة ما إن يدخلها الإنسان حتّى تستمر الحالة في التطور نحو الأسوأ. يبدأ الأمر بانخفاض في المزاج، لسبب أو لآخر، عادة ما يكون مصحوبًا بقلق وتوتر، في تلك النقطة يلجأ الشخص إلى الطعام لرفع حالته المزاجية، وهو ما يحدث بالفعل لكن لفترة قصيرة، ذلك لأن إفراطه في الطعام يُشعره بالخيبة والذنب، فتنخفض حالته المزاجية وتستمر هكذا لفترة، ثم تبدأ مرة أخرى باشتهاء المزيد من الطعام للتكيف معها، وتستمر الدورة.
من تلك الوجهة، تكون السمنة هي مشكلة عقل وجسد معًا، كلٌ منهما يؤثر في الآخر، بل ويمكن أن ننظر إلى الجانب النفسي على أنه المشكلة الرئيسية التي تواجه السمنة، بمعنى أن وجود استعداد وراثي (في الجينات) أو بيئي (الوجود في سياقات تحفز على الأكل) يفتح الباب إلى الدخول في دائرة السمنة المغلقة التي قد تمنعك من الخروج منها، بل وقد يتطور إلى الأمر إلى ما هو أعمق من ذلك، فربما لا تأتي السمنة فقط كعرض جانبي مصاحب لحالات الاكتئاب أو القلق أو حتى التوتر المعتاد، بل قد يصبح الشره للأكل اضطرابًا بحد ذاته.
يمثل اضطراب النهم للطعام أحد أشهر الأمثلة المعاصرة، وهو مدرجٌ حديثًا في الدليل التشخيصي الإحصائي للاضطرابات العقلية (DSM). وقد نجد هذه المتلازمة لدى نحو %25من مرضى السمنة ونحو %2 من عامة الناس. تتميز تلك الحالة بنوبات من الإفراط في التهام الطعام بسرعة كبيرة وعلى مدى زمني قصير. وإذا تكررت تلك الأعراض مرتين أو أكثر أسبوعيًا، على مدار ستة أشهر، فإنها إشارة مباشرة إلى الإصابة بالمرض.
في تلك الحالة يشعر المرضى بأنهم مجبرون على تناول الطعام بكميات كبيرة قد تتسبب في إعيائهم، لكنهم يستمرون على أي حال. بعد ذلك يدخل المريض في دائرة الذنب، فيشعر بالخجل والعار ويخشى أن تتكرر تلك النوبات في وجود آخرين بالمكان، ثم يقرر أنه لن يفعل ذلك مجددًا وأنه قادر على التحكم في ذاته، لكن الأمر يستمر بشكل قهري، ما يدفعه إلى المزيد من الشعور بالقلق والذنب، وقد يتطور الأمر إلى الإصابة بالاكتئاب أو القلق.
العلاج السلوكي
قد يرتبط لدى المصاب بالسمنة أن جلوسه لمشاهدة مسلسل ما يقترن مع جلب الحلوى من المطبخ والتهامها، هنا تعمل أدمغتنا على تذكير كل من الحالتين بالأخرى، بمعنى أن مجرد الجلوس على الأريكة سيثير داخلك شعورًا تلقائيًا بالجوع. من جهة أخرى فإن المصابين بالسمنة عادة ما يستخدمون الطعام كمكافأة أو آلية للمتعة، تعمل هذه القناعات المسبقة كدرع قوي ضد نجاح الحميات الغذائية وكثيرًا ما يفشل الشخص في محاولاته للتخسيس بسببها.
خلال مساق العلاج، يهدف التدخل النفسي إلى التعرف الدقيق على تلك الدوائر الخفية الشبيهة التي تربط بين الجوع وسياقات بعينها، وكسرها. وبشكل أساسي يتدرب المصاب بالسمنة على إعادة الهيكلة الإدراكية، حيث يساعده المعالج على وضع أهداف أكثر واقعية لفقدان الوزن. يساعد التدخل أيضا على تعديل أفكار المرضى في مواجهة تأنيب الذات والشعور بالإحباط في حال فشل الخطط، وهو أمر شائع جدًا في تلك المحاولات للتخسيس. عادة ما تكون تلك الجلسات أسبوعية، وتستمر ستة أشهر.
في الحالات المزمنة من السمنة، وفي حالات «اضطراب النهم للطعام» كذلك، يعد العلاج المعرفي السلوكي هو خط العلاج الأول إلى جانب الحمية الغذائية، وقد يساعد العلاج المعرفي السلوكي، ليس فقط على تثبيت المريض على الخطط الغذائية والرياضية وضبط أفكاره تجاهها، ولكن أيضًا على تقبله لذاته، الأمر الذي يتأثر كثيرًا بالوصم الاجتماعي.
في كل الأحوال، فإن النظر إلى السمنة على أنها حالة وراثية، أو فقط مجرد إصابة ذات أسباب بيئية، لهو اختزال فجٌّ. في الواقع، يتطلب التعامل مع وباء السمنة تدخلًا متعدد النطاقات، يبدأ من الطب، ويمر بعلوم النفس والاجتماع، ويصل إلى الأنثربولوجيا، إذ أصبح ضروريًا لفهم السمنة أن نفهم طبيعة الإنسان المعاصر، لاسيما مع تعرضه إلى المحيط الرقمي فائق التواصل خلال العقود القليلة الماضية.