د. محمد القطان
لطالما كان هناك ارتباط وثيق بين التنوع البيولوجي والصحة، ولطالما نبهت الجهات العالمية المعنية بالصحة وفي مقدمتها منظمة الصحة العالمية إلى العواقب الصحية الناجمة عن خسارة التنوع البيولوجي وانقراض عدد من الكائنات الحية، أو وضعها على قوائم الكائنات المهددة بالانقراض، وأثر ذلك في صحة البشرية، واستمرار وجودها .
سبل عيش منتجة
إن صحة الإنسان – كما ترى المنظمة – تعتمد اعتماداً جذرياً على منتجات وخدمات النظام الإيكولوجي (كتوافر المياه العذبة والغذاء ومصادر الوقود)، وهي منتجات وخدمات لا غنى عنها لتمتع الإنسان بالصحة الجيدة ولسبل العيش المنتجة. وخسارة التنوع البيولوجي قد يكون لها آثار مهمة ومباشرة على صحة الإنسان إذا أصبحت تلك الخدمات غير كافية لتلبية الاحتياجات الاجتماعية. كما أن للتغيرات الطارئة على تلك الخدمات تأثير غير مباشر في سبل العيش والدخل والهجرة المحلية، وقد تتسبب في تأجيج الصراعات السياسية.
إضافة إلى ذلك، فإن التنوع الفيزيائي البيولوجي للكائنات المجهرية والنباتات والحيوانات يتيح معرفة واسعة لها فوائد مهمة في العلوم البيولوجية والصحية والصيدلانية. وهناك اكتشافات طبية وصيدلانية مهمة تتحقق بفضل تعزيز فهم التنوع البيولوجي على كوكب الأرض. وقد تتسبب خسارة ذلك التنوع في الحد من اكتشاف العلاجات المحتملة لكثير من الأمراض والمشكلات الصحية التي تعانيها البشرية.
وتغيرات التنوع البيولوجي تؤثر في أداء النُظم الإيكولوجية، والاضطرابات الكبيرة في تلك النُظم قد تُسفر عن سلع وخدمات داعمة للبقاء على قيد الحياة. وتعني خسارة التنوع البيولوجي أيضاً أننا نخسر الكثير من المواد الكيميائية والجينات الموجودة في الطبيعة قبل أن نكتشفها، وهي من النوع الذي حقق للجنس البشري فوائد صحية كبيرة.
الأمراض المُعدية
إن الأنشطة البشرية تتسبب في اختلال بنية ووظائف النُظم الإيكولوجية، وتغيّر التنوع البيولوجي الأصلي، كما تقول منظمة الصحة العالمية. وهذا الاختلال يقلل من وفرة بعض الكائنات الحية ويؤدي إلى نمو البعض الآخر ويغيّر التفاعلات بين الكائنات الحية، والتفاعلات بين الكائنات الحية وبين بيئاتها الفيزيائية والكيميائية. وأنماط الأمراض المُعدية حساسة لهذه الاختلالات.
وتشمل أهم العمليات التي تؤثر في مستودعات الأمراض المُعدية وسريانها ما يلي: إزالة الغابات؛ وتغيّر استخدام الأراضي؛ وإدارة المياه؛ وذلك على سبيل المثال من خلال بناء السدود أو الري أو التوسع الحضري غير المضبوط أو الزحف العشوائي للمدن؛ ومقاومة المواد الكيميائية المبيدة للآفات التي تُستعمل في مكافحة بعض نواقل الأمراض؛ وتقلب المناخ وتغيّره؛ والهجرة والتجارة الدولية والسفر الدولي؛ وإدخال الإنسان لمسببات الأمراض دون قصد أو عن قصد.
التنوع البيولوجي والتغذية
يؤدي التنوع البيولوجي دوراً حاسماً في تغذية الإنسان، من خلال تأثيره في إنتاج الغذاء في العالم، فهو يؤمن الإنتاجية المستدامة للتربة ويوفر الموارد الجينية لكل المحاصيل والماشية والأنواع البحرية التي تدخل في الغذاء. ومن المحددات الأساسية للصحة الحصول على ما يكفي من المواد التغذوية المتنوعة.
وترى المنظمة أن ثمة صلة بين التغذية والتنوع البيولوجي على أكثر من مستوى: النظام الإيكولوجي الذي يشكل إنتاج الغذاء خدمة من خدماته؛ والأنواع الحية في النظام الإيكولوجي والتنوع الجيني داخلها. ويمكن أن يكون هناك اختلاف هائل في التركيب الغذائي بين الأغذية وفيما بين أنواع/ أصناف/ سلالات الغذاء الواحد، الأمر الذي يؤثر في توافر المغذيات الزهيدة المقدار في النظام الغذائي. كما أن النُظم الغذائية المحلية المحتوية على مستويات متوسطة وكافية من المدخول التغذوي تحتاج إلى الحفاظ على مستويات عالية من التنوع البيولوجي.
ويتأثر التنوع البيولوجي بالإنتاج الغذائي المكثف والمعزز بواسطة الري أو استعمال الأسمدة أو وقاية المحاصيل (مبيدات الآفات) أو إدخال أنواع محاصيل جديدة والدورات الزراعية، ويؤثر ذلك بدوره في الحالة التغذوية وصحة الإنسان على نطاق العالم. وفي كثير من الأحيان يؤدي تبسيط الموئل وخسارة الأنواع الحية وتعاقب الأنواع الحية إلى زيادة سرعة تأثر المجتمعات المحلية باعتباره المؤشر الذي يدل على مدى الاستعداد البيئي لاعتلال الصحة.
البنية التحتية الخضراء
ركز (مؤتمر الأطراف في اتفاقية التنوع البيولوجي) الذي عقد في كانكون بالمكسيك في ديسمبر عام 2016 على عدد من الروابط القائمة بين الأمور الصحية والتنوع البيولوجي، وأشار في اتفاقيته المتعلقة بهذا الصدد إلى عدد من الموضوعات ذات الصلة في مقدمتها ضرورة مراعاة ما سماه (البنية التحتية الخضراء) التي تتمثل في النظم الإيكولوجية الأرضية والنظم الإيكولوجية للمياه الداخلية، وذلك عند وضع سياسات وبرامج الإمدادات بالمياه والصرف الصحي، بما في ذلك تخطيط وتصميم البنية التحتية ذات الصلة بالمياه، ومراعاة الدور الذي تقوم به في تنظيم كميات المياه العذبة ونوعيتها وإمداداتها وتنظيم الفيضانات، وحماية هذه النظم الإيكولوجية، ومعالجة الدوافع الكامنة وراء فقدانها وتدهورها، بما في ذلك التغير في استخدام الأراضي، والتلوث والأنواع الغازية.
ودعا إلى النهوض بتنوع المحاصيل والثروة الحيوانية والمكونات الأخرى للتنوع البيولوجي في النظم الإيكولوجية الزراعية بغية المساهمة في زيادة الإنتاج المستدام وفي خفض استخدام مبيدات الآفات وغيرها من المدخلات الكيميائية، لما لذلك من منافع على صحة الإنسان والبيئة، والحرص على تعزيز تنوع المحاصيل واستخدامها المستدام وتنوع الثروة الحيوانية وتنوع الأغذية البرية، بما في ذلك من مصادر المياه البحرية والمياه الداخلية، وذلك للمساهمة في تغذية الإنسان والتنوع الغذائي، بما في ذلك عن طريق إتاحة معلومات عن القيمة الغذائية لمختلف الأغذية، بهدف تحسين صحة الإنسان، وتعزيز الأغذية المستدامة. كما ركز على أهمية تعزيز فرص التفاعل بين الناس، لاسيما بين الأطفال والطبيعة، لتوفير المنافع للصحة العقلية، وتشجيع النشاط البدني في المساحات الخضراء وذات التنوع البيولوجي.
وفي إطار التخطيط والتصميم والتنمية والإدارة الحضرية، شدد المؤتمر على مراعاة الدور المهم الذي يقوم به التنوع البيولوجي في توفير منافع فسيولوجية، وخاصة الدور الذي يؤديه الغطاء النباتي في تحسين نوعية الهواء والتصدي لظاهرة جزر الاحترار، وكذلك في دعم التبادل بين الميكروبات البيئية والكائنات المجهرية البشرية. وأكد أهمية تعزيز نهج متكامل (الصحة الواحدة) لإدارة النظم الإيكولوجية، وما يرتبط بها من مستوطنات بشرية وثروة حيوانية، وتقليل الاختلالات غير الضرورية المؤثرة في النظم الطبيعية إلى أدنى حد، من ثم تجنب أو تخفيف إمكانية ظهور عوامل جديدة مُسببة للأمراض، وإدارة أخطار انتقال العوامل المُسببة للأمراض بين الإنسان، والثروة الحيوانية، والأحياء البرية بهدف خفض خطر الأمراض المعدية وحدوثها، بما في ذلك الأمراض الحيوانية المصدر والأمراض المنقولة.
الاكتشافات البيولوجية الطبية
وتضمنت تلك الاتفاقية أمورا طبية أخرى خاصة بالتنوع البيولوجي، منها ضرورة حفظ التنوع البيولوجي في المناطق الأرضية، ومناطق المياه الداخلية والمناطق الساحلية والبحرية، وحماية المعارف التقليدية، لاسيما في المناطق ذات الأهمية الكبيرة بالنسبة إلى التنوع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية لتعزيز الاكتشافات البيولوجية الطبية. وشددت على أهمية تجنب الإفراط في استعمال المضادات الحيوية والعوامل المضادة للميكروبات واستعمالها الروتيني غير الضروري، سواء في الطب البشري أو الطب البيطري، لتقليل الضرر على التنوع الميكروبي المفيد والمتآلف وتقليل خطر المقاومة للمضادات الحيوية، مع التركيز على الإدارة الفضلى لاستخدام المواد الكيميائية المسببة لاضطرابات الغدد الصماء والتخلص منها بهدف تجنب إلحاق الضرر بالناس، وخفض الاستعمال غير المناسب للعقاقير المضادة للالتهابات اللاستيرويدية التي تهدد عشائر الأحياء.
وفيما يتعلق بحفظ الأنواع والموائل دعت الاتفاقية إلى تحسين الحصول على الأغذية البرية واستخدامها المألوف المستدام وغيرها من الموارد الأساسية من قبل الشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية، وخاصة المجتمعات الفقيرة والمعتمدة على الموارد، وأشارت إلى أهمية أخذ صحة الإنسان في الاعتبار عند استعادة النظم الإيكولوجية، واتخاذ تدابير لتعزيز نتائج صحية إيجابية، وإزالة أو تخفيف حدة النتائج الصحية السلبية.
وعند تحليل وتنفيذ النُهُج المعتمدة على النظم الإيكولوجية، والتخفيف والتكيف مع تغير المناخ وتدابير الحد من مخاطر الكوارث، شددت الاتفاقية على أهمية إعطاء الأولوية للتدابير التي تساهم بطريقة مشتركة في صحة الإنسان وفي حفظ التنوع البيولوجي والنظم الإيكولوجية الهشة، والتي تدعم صحة ورفاهية وسلامة وأمن المجموعات البشرية الضعيفة، وبناء القدرة على الصمود.