د. علي بن ذيب الأكلبي
أكاديمي في جامعة الملك سعود في الرياض (السعودية)
تعتبر البيانات الضخمة، وكذلك إنترنت الأشياء، مورداً مهماً للمعرفة وذا تأثير كبير في حيازتها والإفادة منها ومشاركتها. ومعظم المنظمات والمؤسسات الحكومية والخاصة تشهد حاليا تدفقا هائلا للبيانات الضخمة، وتقف منها أحد موقفين: الأول ينمّ عن جهل المنظمة أو تجاهلها لأهمية البيانات الضخمة والعائد من امتلاكها وتنظيمها وتحليلها وتحويلها إلى قيمة مضافة، والموقف الآخر تتعامل فيه المنظمة بدراية كافية بماهية البيانات الضخمة وتدرك أهميتها، والميزة التنافسية التي تتسبب فيها لمن يملكها، لتكون مصدراً مهما للمعرفة التي تساند متخذي القرار فيها. وفي الوقت ذاته تتطور تطبيقات إنترنت الأشياء، والمجالات التي تعمل فيها بناء على البيانات التي تشغّلها، وتتمكن بواسطتها من تنفيذ الأوامر التي تتلقاها.
ويظهر من هذه التوطئة العلاقة المنطقية والاستفادة الطردية بين محاور هذه المقالة المتمثلة في أهمية البيانات لتوليد المعرفة، واعتماد إنترنت الأشياء على البيانات والمعرفة في تنفيذ مهامها. وندرك جميعا أهمية توفر البيانات كقوة وضمانة لمن يحسن العناية بها في اقتناص الفرص على الأصعدة الصحية والاجتماعية والتعليمية والاقتصادية، بل حتى السياسية، وتحويلها إلى معرفة تراكمية.
الاستثمار في البيانات الضخمة
بات الاستثمار في البيانات الضخمة مطلباً ملحاً وتوجها لجميع المنظمات والمؤسسات التي بدأنا نلاحظ تسابقها في شراء أو استئجار مساحات تخزين كافية عبر تقنيات الحوسبة السحابية، وذلك سعيا منها لتحقيق غايات مهمة منها توليد المعرفة ليعتمد عليها صانع القرار في اتخاذ القرار الأفضل، وتمكين إدارة المعرفة وخبراء التخطيط الاستراتيجي من المعلومات التي تكشف لهم آفاق المستقبل وتجعل التوقعات التنبئية أقرب ما تكون إلى الحقائق.
وتتميز البيانات الضخمة بعدة خصائص، منها سرعة نموها، وضخامة حجمها، وتنوعها من حيث طبيعتها (نصية، سمعية، بصرية أو على شكل صور أو خرائط أو مجسمات) ومن حيث تنوع موضوعاتها ومصادرها، والقيمة المضافة التي تحققها.
إدارة المعرفة
تحظى إدارة المعرفة بقدر كبير من الأهمية؛ لأنها تكشف عن التجارب والسلوكيات والخبرات وتوظفها في اكتساب الميزة التنافسية وتعمل على تقاسمها والتشارك فيها. ونقصد بمصطلح إدارة المعرفة العمل على إيجاد أو خلق المعرفة، وامتلاكها وتنظيمها ومشاركتها وتنميتها لتبقى ذات قيمة، ويستمر أثرها وتأثيرها عندما تتولد عبر تحليل البيانات والكشف عن العلاقات بين عناصرها واستخراج المعرفة الكامنة وراء تلك البيانات.
وتأتي إنترنت الأشياء كمظهر من مظاهر التحول الرقمي التي تستشرف مستقبل الجيل الجديد من الإنترنت، حيث أصبح بإمكان الأشياء التفاهم مع بعضها بعضا، من خلال اتصالها عبر الإنترنت في منظومة أوامر تلقائية تتشكل نتيجة لعمليات برمجية خوارزمية مبنية على فكر بشري.
والأشياء التي يمكن أن تتفاهم عبر الإنترنت هي جميع الأشياء التي لها عنوان ثابت على الإنترنت سواء من خلال موقع محدد أو عبر توصيل شريحة ذكية، فالمقصود بالأشياء أي شبكة من الأشياء المادية المحسوسة التي توصف بأنها (أشياء ذكية)، والتي يمكن تعريفها بعنوان دقيق على الإنترنت من خلال إلصاق عنوان إنترنت (IP) عليها، مثل السيارة، والهاتف الجوال، وجهاز التلفزيون، أو أي من الأدوات المنزلية المختلفة كالثلاجة، والفرن الكهربائي، وغسالة الأواني، أو الملابس، ومقبض باب المنزل، وأجهزة التكييف، أو أي شيء آخر ملصق به مستشعر إلكتروني يستطيع استقبال البيانات وإرسالها، حيث يكون بمقدور الأشياء الاتصال فيما بينها والتفاهم من خلال المستشعرات الموجودة فيها.
وبناء على ذلك، فالإنسان نفسه يمكن أن يكون من ضمن هذه الأشياء بمجرد وجود شريحة ذكية خاصة به، وملاصقة له على شكل ساعة، أو نظارة، أو بطاقة هوية ذكية، أو من خلال هاتفه المحمول، إضافة إلى استخدام البرمجيات التي تعتمد على نظام الأقمار الاصطناعية، أو المستشعرات عن بعد، مما يتيح لهذه الأشياء التي يمكن أن تتعرف عليها شبكة الإنترنت العمل، وتنفيذ الأوامر، حيث أصبح لدينا سيارات ذكية، ومنازل ذكية، بل ومدن ذكية.
خدمة البشرية
كل تلك التطورات والتحولات غايتها في الحقيقة خدمة الإنسان، وتمكينه من إدارة المعرفة باقتدار، لينعم بحياة آمنة ومتطورة، باعتباره المستفيد النهائي من تلك الخدمات، لاسيما الرعاية الصحية، وذلك مع ظهور المعدات والأجهزة الطبية المتصلة بإنترنت الأشياء، إذ صار ممكناً ضمن برامج تحسين خدمات الرعاية الصحية التواصل بين المرضى ومقدمي الرعاية الصحية ومتابعة الحالات المرضية عن بعد في الكثير من أنواع المرض.
وهكذا ستكون إنترنت الأشياء مؤثرة في استقبال وتراسل البيانات، ومن ثم جمع المعرفة المتولدة عن تلك البيانات، من خلال توظيف إنترنت الأشياء في تتبع السلوك وتحليله وإنتاج المعرفة، كما هو الحال في ظرف جائحة كورونا، حين استطاعت الكثير من الدول عبر استخدام طائرات مسيرة من دون طيار وعربات ذاتية القيادة وأجهزة تصوير مثبتة في أماكن محددة ومزودة بحساسات متصلة عبر الإنترنت جمع البيانات حول الأشخاص المصابين، والذين خالطوهم.
وظهرت مؤخرا تطبيقات على الهواتف الذكية تمكّن الأفراد والأنظمة الصحية من تتبع فيروس كورونا باستخدام البيانات عن قرب، حيث تزود الأفراد بالبيانات التي تتحول من خلال الاستفادة منها واتخاذ قرارات بناء عليها إلى معرفة تمكّنهم من تجنب الأماكن الموبوءة، والأشخاص المصابين، وتحذر من الاقتراب منهم. وعندما تظهر إصابة في محيط بشري سبق أن وجد فيه أحد الأفراد المفعّلين لخاصية التنبيه في التطبيق فإنه يبلغهم بما حدث من إصابات، إذا كان ضمن دائرة المخالطين، وربما يكون احتمال إصابة هذا الشخص المستخدم للتطبيق عاليا، فيتخذ عدة قرارات منها البدء في العزل المنزلي، ومراقبة الأعراض التي قد تظهر عليه، ومدى الحاجة للتوجه إلى المستشفى، كما أنه يؤدي الى امتلاك المعرفة اللازمة حول أعراض المرض، والسلوكيات التي تكرر حدوثها لدى المصابين، فيتجنبها ويحذّر غيره منها، ويتولد لديه معرفة بمدة احتضان المرض، فيتهيأ إذا أصيب نفسيا وعلاجيا للمدة المتوقعة، وما سيحدث بعد الشفاء من مناعة لدى من سبقت إصابتهم، وغير ذلك من التجارب والخبرات التي تمثل في مجملها معارف تحتاج ممن يمتلكها إلى أن يتعامل معها بالشكل المتوافق مع مبادئ إدارة المعرفة، ومن أهم ذلك مشاركة المعرفة واستثمارها في القرارات التي يتم اتخاذها.
وفي قطاع الصناعة تزداد الحاجة إلى توظيف ذلك كله، لتوليد المعرفة في أعمال مراقبة الإنتاج والتوزيع، والتشغيل والتحكم في هذه الصناعات المتعددة وفق المعرفة المتحصل عليها، عبر جمع البيانات التي ترسلها الأشياء المتصلة إلى برمجيات التحكم والجودة في تلك القطاعات، وكذلك الحال في متابعة وإدارة وسائل النقل، وأدوات السلامة، ومجالات الذكاء الاصطناعي، وتنفيذ الكثير من الأعمال في المجالات الأخرى، من خلال تحليل بيانات ضخمة تولدها تلك التطبيقات التي ستكون من التقنيات المهمة في إدارة الحياة، وتساهم في نجاح الاقتصاد، والتعليم، والصحة، وجودة الحياة المبنية جميعها على إدارة المعرفة، باعتبارها مورداً لها وأداة استثمار فيها، وتساعد قدرات الذكاء الاصطناعي بناءً على تحليل البيانات، وتفعيل إنترنت الأشياء للتعامل بذكاء ودقة وسرعة مع ما يجب التعامل معه بشكل يفوق التوقعات.