د. محمد أحمد عنب
أستاذ الأنثروبولوجيا والآثار الإسلامية، كلية الآثار،
جامعة الفيوم (مصر
عندما يتعمق المرء في دراسة الأنثروبولوجيا يجد أن هذا العلم الحيوي لا يدرس الإنسان بوصفه كائنا وحيدًا وإنما بوصفه كائنا يحيا في مجتمع ينتمي إليه ويتفاعل معه. ومن هنا فإن هذا العلم يهتم بدراسة أمور كثيرة ذات صلة وثيقة بالإنسان وحياته ولغته وسلوكه وعاداته.
وعلم الأنثروبولوجيا اللغوية أحد أهم أقسام الأنثروبولوجيا التي تبحث في تركيب اللغات الإنسانية المُنقرضة والحية، وتكمن أهميته كونه يكشف عن العلاقة القائمة بين لغة شعب ما والجوانب الحضارية من ثقافته؛ باعتبار اللغة وعاءً ناقلاً للمعرفة والثقافة.
اللغة والممارسات الاجتماعية
تعد الأنثروبولوجيا اللغوية فرعا من فروع علم الأنثروبولوجيا التي تدرس اللغة ودورها الكبير في الحياة الاجتماعية للأفراد والمجتمعات، وهي من العلوم المهمة التي تحاول توثيق وتسجيل اللغات المُهدّدة بالانقراض والاختفاء، وتدرس التأثير المتبادل بين اللغة ومختلف الأنشطة والممارسات الإنسانية الاجتماعية، أي تأثير اللغة ودورها في تشكيل المجتمع والثقافة، وكذلك تأثير الممارسات الاجتماعية في اللغة، وازدهارها وأفولها، وحياتها وموتها.
والحقيقة أن اللغة كانت وما زالت وستظل إحدى القوى التي ساعدت على تطوُّر الكائنات البشرية وتطوُّر قدرتهم على التفكير وتنظيم الحياة الاجتماعية وتحقيق درجة التقدم التي عليها الإنسان حاليا، فهي تُعتبر أعظم اكتشاف عرفه الإنسان على مر العصور، وهي أبرز ما يُميّزه عن بقية الكائنات، وكما يقول الفيلسوف الألماني ويلهم همبولت Wilhelm Von Humboldt(1767-1835): “إن الإنسان لسان”. لذا يجب على مَنْ يُريد دراسة الإنسان أن يعكف على دراسة لغته باعتبارها إحدى وسائل نشاطه العِلمي والفكري والاجتماعي. لذا اعتبرت الأنثروبولوجيا اللغوية أهم أنواع الأنثروبولوجيا. وسيظل تاريخ اللغة والأنثروبولوجيا اللغوية مجالاً رحبًا نتصفح من خلاله تاريخ الحضارات الإنسانية؛ فبفضل اللغة تكوّنت الجماعات والأمم المُختلفة وكانت أقوى الروابط بين أفراد تلك الجماعات ورمزًا لحياتهم المُشتركة، فالأنثروبولوجيا اللغوية لا تنظر إلى اللغة مَعزولة عن سياقها الاجتماعي، وإنما هناك علاقات مُتبادلة بين اللغة والثقافة والمُمارسات الاجتماعية المختلفة.
تطور اللغة
ثمة نظريات كثيرة عن نشأة اللغات الإنسانية، منها نظرية الوحي والإلهام والتوقيف. ويستند أصحاب هذه النظرية إلى قوله تعالى في القرآن الكريم:(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). ويفسرون هذه الآية بأن الله عز وجل علّم آدم أسـماء جميـع المخلوقـات بجميع اللغات: العربية والسريانية والفارسية والعبرانية والرومية وغيـر ذلـك مـن سـائر اللغـات، وعلّمها لأبنائه الذين علّموها بدورهم لأبنائهم الذين تفرقوا في أنحاء الدنيا، وكوّنوا جماعات وأمما في شتى المناطق، ثم صارت كل جماعة تتحدث لغة معينة تُميّزها عن غيرها، ومن ثم انتشرت هذه اللغات وكوّنت الحضارات المختلفة، كما كان للبلد الواحد أكثر من لغة أو لهجة في بعض الأحيان.
وبدأت اللغة تنمو وتتطوّر بنمو الإنسان فكرًا ووعيًا وتحضُّرًا، لذا كانت اللغة وستظل في تطوُّر دائم تبعًا لتطوّر النشاط الإنساني ومُقتضيات الحياة الاجتماعية وشؤونها، ومن انتقال أو احتكاك الجماعات الناطقة بغيرها، فتنشأ نتيجة لذلك الأَلفاظ وتُهجر أُخرى أو تنقرض انقراضًا تامًا. وهذا التطوّر اللغوي مرهون بعوامل سياسية واجتماعية ونفسية وجغرافية ولغوية ودينية، وعوامل شعبية تتحدّد في الفروق بين الأجناس والفصائل الإنسانية، وجسمية تتحدّد في التكوين الطبيعي لأعضاء النطق وغيرها من العوامل الأخرى. ويُعتبر المجتمع المُؤثر المباشر على اللغة؛ إذ تتعلّق اللغة بشكلٍ كبير بالحياة الاجتماعية ونظم العمران.
الأنثروبولوجيا اللغوية وتطور المجتمعات
تكمن أهمية دراسة الأنثروبولوجيا اللغوية في كون اللغة هي أقرب الأنشطة فاعلية في كل جوانب الحياة، فهي نشاط اجتماعي يخدم ما يُسميه عالم الإنسانيات اللغوي الأمريكي إدوارد سابير Edward Sapir (1884-1939) بالتشارك الاجتماعيCommunion، فحين نُريد استقصاء ملامح مجتمع معين نقف على مدى تبلور تقاليده وأعرافه وتكوُّن ذوقه الجمالي وفِعله الحضاري، ويكون ذلك بالتوغُّل في طيات اللغة وتحليل وظائفها الإنشائية والجمالية والتعبيرية وغيرها من الوظائف اللغوية، فهي التي تُفصح عن العلاقات الشخصية والقيم الحضارية والاجتماعية، فاللغة إذًا جزءٌ من الحضارة ومفرداتها المختلفة، وهي التي تحمل النِتاج الحضاري للأمة، وتعكس كثيرًا من عاداتها وأعرافها وتقاليدها، وهي الأقدر على البقاء لِما تملكه من نظام يُمكن من خلاله رصد وتقويم أي انحراف لغوي.
وتُساعد دراسة الأنثروبولوجيا اللغوية للجماعات المُختلفة على معرفة الفوارق اللغوية بين الطبقات الاجتماعية، وبيان خصائص الرصيد اللغوي لكل منها واتجاهاته وأصوله وأسباب تطوّره سلبًا أو إيجابًا، وتصنيف الأفراد حسب مَلكاتهم اللغوية وطبيعة قاموسهم اللغوي ووصف السلوكات الفردية إزاء اللغة واستعمالاتها بحسب الأوساط الاجتماعية. لذا تُعتبر الأنثروبولوجيا اللغوية أداةً مُهمة في دراسة تاريخ الأمم ومصدرًا للكشف عن الكثير من الحقائق، ومعرفة مدى التغيُّر الكبير للغات واللهجات.
وتُصنّف اللغات حسب استخدامها وطبيعتها إلى ثلاثة أنواع: اللغات المُنعزلة، وهي اللغات التي تتخاطب بها فئات مُنعزلة عن الفئات الأخرى ولا تفهمها إلا تلك الفئات المُتحدثة بها، وهي لغة لا تُكتب وليس لها تاريخ؛ واللغات المُلتصقة، وهي اللغات التي تتخاطب بها شعوب كبيرة لكنها مُلتصقة بهم وبتراثهم، وهي لغات معروفة لكن ليس لها قواعد وإنما تعتمد على المقاطع والكلمات مثل اللغة الصينية؛ وأخيرا اللغة ذات القواعد، وهي اللغات الحديثة التي تَستخدمها الأُمم المُتحضّرة، ولها قواعد نحوية وصرفية تضبط جُملها وقَوالبها اللغوية مثل اللغة العربية واللغات الأوروبية.
أقسام الأنثروبولوجيا اللغوية
تشتمل الأنثروبولوجيا اللغوية على عدة أنواع ذكرها باحث الإنسانيات الإيطالي ألساندرو دورانتيAlessandro Duranti كالتالي: النوع الأول هو لغويات الأنثروبولوجيا التي تُركّز على توثيق وتسجيل اللغات خاصة المُهدّدة بالانقراض، وهو الشكل الأكثر تركيزًا في علم اللسانيات ويتضمن وصفا لقواعد اللغات القديمة وتصنيفها؛ والنوع الثاني هو الأنثروبولوجيا اللغوية التي تتعلق بالدراسات النظرية لاستخدامات اللغة وأشكالها، حيث يتم دراسة اللغة في سياق الوضع الحالي والمجتمع الناطق بها، بمعنى دراسة اللغة عن طريق المضمون والمحتوى؛ والنوع الثالث يدرس القضايا المهتمة بالفروع والمجالات الأخرى للأنثروبولوجيا باستخدام أدوات البحث اللغوية بمعنى دراسة الهوية بالوسائل اللغوية.
الأبجدية العربية
تُعد الأبجدية العربية من أقدم الأبجديات التي اهتم بها دارسو الأنثروبولوجيا اللغوية. واللغة العربية التي تعد من اللغات السامية شهدت تطوّرًا كبيرًا في مَراحلها التَاريخية مُنذ نشأتها وحتى الآن، وهناك فَرضيات ونظريات حول أصول الخط العربي تُرجعه إلى الخط الآرامي أو الخط النبطي في شمال الجزيرة العربية، في حين يرى البعض اشتقاقه من خط المُسْند أو الخَط الحِميَرِي، وهو أحد نُظم الكتابات اليمانية القديمة الذي ظهر وتطوّر في جنوب الجزيرة العربية. وفرضية اشتقاقه من خط المُسْند كما يرى علماء الأنثروبولوجيا اللغوية قوية وتتناسب مع ما كان العرب يَعرفونه عن بلاد اليمن السعيد، وأنّها كانت مصدرًا مُهمًا من مصادر الثقافة والحضارة في الجَزيرة العربية مُنذ القدم، وأنّها كانت في كثير من الأحيان تَفرض على الجزيرة العربية سلطانها السياسي بجانب تفوُّقها الحضاري والثقافي بحكم سيطرتها على طرق التجارة العربية القديمة.
وجميع فرضيات نشأة الأبجدية العربية مَقبولة، فليس من المُستبعد أنْ يكون الخط العربي في رحلة تَطوّره في الجنوب مُتأثرًا بِخط المُسْند الحِميَرِي، وولد في الشمال مُتأثرًا بالخط النبطي الذي فيما يبدو كان نِتاجًا للخط الحَضري، ومن ثم تفاعلت كل هذه الخطوط معًا وانصهرت جميعًا في بوتقةٍ واحدة أنتجت الخط العربي بشكله الحالي.
ويرى بعض الباحثين أنّ اللغة العربية هي أصل اللغات ومنها اشتقت كل اللغات، والدليل على ذلك أن اللغة العربية حافظت على خصائصها اللغوية من إعراب واشتقاق ومعان وغيرها، وهذا ما لا يوجد في أي لغة أخرى، وهو دليل قوتها واستمراريتها. وخير دليل على أصالة اللغة العربية الكم الهائل من الكلمات الشبيهة بالعربية في اللغات الأخرى الحية؛ مما يُؤكد أنها جميعها من أصل واحد. فنحو 80% من الأفعال من اللغة السنسكريتية أصلها عربي، و75% من الأفعال اللاتينية أصلها عربي، كما أن كلا من الفينيقية والآرامية واللغات الشرقية أصلها عربي.
وللقرآن فضلٌ كبير في تطوُّر اللغة العربية؛ فبسببه أصبحت هذه اللغة الفرع الوحيد من اللغات السامية الذي حافظ على عالميته، وذلك في الأغراض والمعاني والأساليب والألفاظ، هذا إضافة إلى تأثير السنة النبوية التي تحمل ثروة لغوية مهمة. وقد اندثرت معظم اللغات السامية، وبقي منها لغات محلية ذات نطاق ضيق مثل: العبرية والأمهرية لغة أهل الحبشة (إثيوبيا)، ويتكلم اللغة العربية الآن نحو ٤٢٢ مليون نسمة كلغة أم، كما يتحدث بها من المسلمين غير العرب قرابة العدد نفسه كلغة ثانية.
إن أهمية الأنثروبولوجيا اللغوية تتضح بما تعكسه من حضارة وثقافة وتطور الشعوب، ومازال علم الأنثروبولوجيا اللغوية يحتاج لمزيد من الدراسات التحليلة والتوثيقة التي ستكشف الكثير من الحقائق والأسرار.