د. مبروك بوطقوقة
أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة باتنة الجزائرية، مؤسس ورئيس الجمعية الجزائرية للأنثروبولوجيا والدراسات الثقافية والشعبية
أدت التطورات الكبيرة التي طرأت على الأنثروبولوجيا إلى ظهور العشرات من التخصصات الفرعية التي يسعى كل منها إلى دراسة الإنسان من زاوية معينة أو من منظور محدد. ويمكن اعتبار الأنثروبولوجيا الرقمية أحدث هذه التخصصات، إذ لا يتجاوز عمرها بضع سنوات. ولعل ذلك ما يفسر الكثير من الخلط في تعريفها وتحديد ميادينها واختلاف تسمياتها، لذلك يطلق عليها العديد من التسميات التي تتقارب أو تتباعد لفظا وإن تقاربت في المعنى من قبيل: تكنوأنثروبولوجيا، الاثنوغرافيا الرقمية، الأنثروبولوجيا الافتراضية، الأنثروبولوجيا السيبرانية، لكن المصطلح الأكثر استخداما وشيوعا وتداولا هو الأنثروبولوجيا الرقمية.
الإنسان في العصر الرقمي
يمكن التأريخ للأنثروبولوجيا الرقمية بسنة 2012 حين صدر كتاب: “الأنثروبولوجيا الرقمية” الذي حرره كل من دانيال ميلر Daniel Miller، وهو أنثروبولوجي وأستاذ الثقافة المادية في كلية لندن الجامعية، وهيذر هورست heather horst، وهي أنثروبولوجية متخصصة في الإعلام من جامعة ملبورن في أستراليا. ضم الكتاب بين دفتيه العديد من الأبحاث التي كتبها باحثون متخصصون في محاولة للإجابة عن سؤال جريء فحواه: “ما معنى أن يكون المرء إنسانا في العصر الرقمي؟”، وذلك من خلال تحليل الكيفية التي يتفاعل فيها الناس مع العوالم الرقمية (أجهزة، اختراعات، برامج، تطبيقات..إلخ)، والكيفية التي يتغير فيها السلوك البشري مع الوقت تحت تأثير التطور التكنولوجي والعولمة والعوامل المشابهة، والكيفية التي تتجذر بها السلوكيات الجديدة التي تتشكل وتصبح مألوفة بسرعة بحيث تصبح هي القاعدة وتصبح السلوكيات القديمة متخلفة وغريبة. وكان ذلك الكتاب بمثابة البوابة التي فتحت البحث للعديد من الدراسات الجديدة في مجال الوسائط الرقمية والتكنولوجيا والإنترنت.
يحاول علماء الأنثروبولوجيا الرقمية دراسة العلاقة بين ثقافة الإنسان من جهة وتقنيات العصر الرقمي من جهة أخرى؛ أي الكيفية التي تشكل بها التقنيات الرقمية الثقافة الإنسانية والمجتمع وتتشكل من خلالهما؛ لأن التقنيات الرقمية تؤثر وتتأثر بالثقافة الإنسانية وتقبُل المجتمع أو رفضه لها. وبعبارات أخرى تسعى الأنثروبولوجيا الرقمية إلى دراسة ونقد الأبعاد الاجتماعية والثقافية للظاهرة الرقمية في كل تجلياتها، مثل وسائل التواصل الاجتماعي والبيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي والطباعة ثلاثية الأبعاد والعملات الرقمية.
ويعتبر الرقمي Digital موضوعا للأنثروبولوجيا الرقمية، وهو في أبسط تعريفاته تلك التقنيات الجديدة التي يمكن اختزالها في النهاية إلى رمز ثنائي (واحد/صفر) يمكن حفظه ونسخه ومعالجته وإرساله بسهولة. وهو ما جعل الإنسان قادرا على إنتاج وتحويل الكثير من المواد الثقافية وإعادة إنتاجها ومشاركتها بسهولة ويسر وتكلفة منخفضة جدا تكاد تقارب الصفر. وأدت هذه التقنيات في السنوات الأخيرة إلى إحداث تغييرات هائلة في حياة الناس بل لا تزال هذه التغييرات تشهد منحى تصاعديا ومتسارعا لا أحد يعرف نتائجه وتأثيراته.
الفضاءات الرقمية
من ناحية الموضوع، يدرس علماء الأنثروبولوجيا الرقمية الفضاءات الرقمية باعتبارها موضوعات أنثروبولوجية يمكن من خلالها تحليل وتفسير الظواهر الاجتماعية-الثقافية التي تحدث وتتفاعل داخل الفضاءات الرقمية. وأظهرت دراساتهم أن المجموعات البشرية أثناء احتكاكها بالتكنولوجيات الرقمية تتبنى مجموعة من المعايير والممارسات والعادات، ويتداول أفرادها مجموعة من القصص والخطابات، ويطورون مجموعة من المفردات واللهجات الخاصة، كما تكون تلك الفضاءات مجالا لظهور الصراعات والهجرات منها وإليها بنفس الطريقة التي تحدث في المجتمعات الإنسانية التقليدية المحدودة جغرافيا وبشريا.
لنضرب مثالا بأحد الموضوعات التي يدرسها علماء الأنثروبولوجيا الرقمية، وهو تأثير التكنولوجيا الجديدة على إحساسنا بـ “نزع الإنسانية”؛ بمعنى آخر: كيف يرى الناس أنفسهم على أنهم تصورات للبيانات أكثر من كونهم مجرد أشخاص. ففي الوقت الذي يذهب فيه المتشككون والمتخوفون من الرقمية إلى أن التكنولوجيات الرقمية تدمر إنسانيتنا وتشوهها بسبب الطبيعة غير الأصيلة وغير الأصلية لمنتجاتها، فقد ذهب ميلر وهورست إلى أن التكنولوجيات الرقمية لا تعمل فقط على توسيع معارفنا، بل تعمل كذلك على توسيع إنسانيتنا، ومن ثم فهي امتداد لها، بل وجادلا بأن الأنثروبولوجيا الرقمية تؤثر على فهم الأنثروبولوجيا لنفسها وما يعنيه أن يكون المرء إنسانًا.
وحين يتعلق الأمر بتأثيرات الرقمنة على حياتنا نجد أن هناك تيارين متاقضين يتصدران المشهد. يذهب أصحاب التيار الأكثر تشاؤما إلى أن التقنيات الرقمية أفقدتنا إنسانيتنا، بسبب تعلقنا المرضي بهواتفنا وإدماننا على وسائل التواصل الاجتماعي، ويدعون إلى أن نكون أكثر قلقا من سيطرة الذكاء الاصطناعي على حياتنا، وأكثر حذرا من التطبيقات التي تجمع عنا كل صغيرة وكبيرة بحيث تحول ذواتنا إلى مجرد بيانات مخزنة في السحابة. من جهة ثانية يذهب أصحاب التيار الأكثر تفاؤلا إلى أن التقنيات الرقمية قد تحل جميع المشكلات الصحية وتساهم في توفير حياة أكثر سهولة أو تمنع العواقب الكارثية لتغير المناخ. وبدلا من التركيز على تقديم حجج معيارية وأخلاقية والدخول في مناقشات العواقب الجيدة أو السيئة للتقنيات الرقمية تقتصر مهمة الأنثروبولوجيا الرقمية على مراقبة عواقب التغيير التكنولوجي وتفسيرها من خلال وضعها في سياق ثقافي واجتماعي أوسع بكثير، ومن ثم تسليط الضوء على التناقضات والتعقيدات التي تنشأ عنها.
وهذا ما يحيلنا إلى فكرة مهمة مفادها أنه بدلاً من محاولة الحكم على التقنيات الرقمية بأنها إيجابية أو سلبية، على الأنثروبولوجيا أن تركز على التناقضات الكامنة فيها، وهو ما يمكن للأنثروبولوجيا أن تقدم فيه مساهمة كبيرة. فعلى سبيل المثال أظهرت الأنثروبولوجيا الكيفية التي يمكن بها للتقنيات الرقمية، في بعض المجتمعات مثل الهند، أن تتيح إمكانات جديدة للنشاط السياسي لطبقات كانت في السابق مهمشة كليا، وفي المقابل، كانت التقنيات نفسها وسيلة لتوسيع مراقبة الدولة وقمعها للمواطنين في دولة مثل الصين.
الرقمية كمنهج أنثروبولوجي
لما كان من المسلم به أن التقنيات الرقمية تؤثر في الحياة اليومية للناس في جميع أنحاء العالم فإن الأنثروبولوجيا بحاجة إلى مراقبة هذا التأثير وتفسيره، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا من من خلال الإثنوغرافيا الشاملة، لذا يلجأ علماء الأنثروبولوجيا الرقمية إلى استخدام التقنيات الرقمية كأدوات في البحث الأنثروبولوجي، حيث يتم تطبيق العديد من خصائص الإثنوغرافيا التقليدية على عالم متصل كليا بالإنترنت، من خلال التطبيق الميداني لمناهج الملاحظة المباشرة والملاحظة بالمشاركة والمقابلات والمقارنة والمقاربة الانعكاسية، وكذلك من خلال التواصل مع الناس من أجل مساعدتهم على فهم ما يفعلونه وفهم نظرتهم للعالم وكيفية فهم العالم من منظورهم خصوصا في المجموعات التي يكون فيها تأثير التقنيات الرقمية كبيرا وواضحا، بحيث يتم تبني ممارسات جديدة كليا مثل مجموعات الصحفيين الذين يعملون عن بعد أو مجموعات التدوين المرئي على اليوتيوب أو مجموعات الفيسبوك أو الواتساب.
توجد العديد من مصادر المعلومات الجديدة عبر الإنترنت. وقد يستعيض علماء الأنثروبولوجيا عن دفاترهم المحمولة التقليدية بأجهزة مثل الهاتف والمسجل الصوتي بالاقتباس من المصادر الرقمية أو الملفات المشتركة، بيد أن هناك بعض الاختلافات المنهجية التي يجب الانتباه إليها، فعلى سبيل المثال غالبًا ما تتألف الإثنوغرافيا من البحث ووصف المكان والزمان المحدودين، بحيث إنه بمجرد مغادرة الأنثروبولوجي لميدان البحث تنقطع علاقته مع المجتمع المبحوث، لكن مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت هذه العلاقة غير قابلة للانقطاع، بمعنى أنها قد تستمر لمدة طويلة جدا يصعب تحديدها.
كما أن هناك جانبا آخر تجدر الإشارة إليه، وهو أنه يمكن للتقنيات الرقمية أن تعزز مشاركة علماء الأنثروبولوجيا في نشر نتائج أبحاثهم على مستوى أوسع بكثير، سواء من حيث طبيعة المحتوى نفسه أو مداه الجغرافي. فعلى سبيل المثال أنتج مشروع “لماذا ننشر” Why We Post الذي أشرف عليه ميلر مجموعة من المحتويات القصيرة التي يسهل الوصول إليها، مثل أفلام YouTube التي تقل مدتها عن خمس دقائق، ومنشورات في وسائل التواصل الاجتماعي، ومدونات وملفات للتحميل، ومساقات جامعية مجانية عبر الإنترنت. ومن خلال إتاحة العمل الأنثروبولوجي مجانًا على الإنترنت بلغات محلية عديدة قد تصبح الدراسات الأنثروبولوجية التقليدية شائعة جدًا، حيث بلغ عدد تحميلات هذا المشروع نصف مليون تحميل بحلول عام 2018.
لاتزال التغيرات الاجتماعية السريعة الناتجة عن التطورات التكنولوجية تشكل موضوعا خصبا لدراسات الأنثروبولوجيا الرقمية التي يتم إجراؤها لاحتواء التعقيد والتناقضات المتأصلة في تقييم عوالمنا الرقمية الجديدة، ومن ثم، يمكن الاعتماد على تلك الدراسات لفهم إنسانيتنا الجديدة التي تتصالح مع التطورات التقنية عبر فهمها في سياق اجتماعي وثقافي أكثر شمولا.