مرّ علم الأعصاب وتشخيص علل الجهاز العصبي، وعلاج أمراضه، ووصف أدويته بمراحل طويلة عبر التاريخ، وبذلت الحضارات البشرية جهودا حثيثة في هذا الشأن، حتى أثمر العصر الحديث علاجات رائدة، وتطورا كبيرا. ولعل السبب في تأخر الاكتشاف الطبية في هذا المجال يعود إلى حساسية التعامل مع الأعصاب، وعدم معرفة بنيتها وآلية عملها إلا بعد أن تطورت علوم أساسية أخرى كالكيمياء والفيزياء.
ويعود الاهتمام بالأمراض العصبية إلى عصور ما قبل التاريـخ، إذْ تحوي إحدى الأطروحات المصرية القديمة المتعلقة بجراحة الصدمات، تحديداً بردية إدوين سميث، أوصافا لها، وتقترح علاجات للإصابات العصبية المختلفة. ونجد فيها أوصافا للسحايا والسطح الخارجي للدماغ والسائل النخاعي والنبضات داخل الجمجمة، إضافة إلى بعض وظائف الجسم التي ربما تتأثر بإصابات الدماغ أو إصابات العمود الفقري العنقي. ورسم السومريون الشلل النصفي الناجم عن الصدمة الجسدية في نقش بارز لأسد مصاب بسهم في ظهره.
وبـــذل الهنــود جـهودهم في مــعرفـة الاضطرابــات العصبية التي لا تسببها اضطرابات جسدية، فمثلاً في طب الفترة الفيدية في الهند القديمة، ناقش نص الإيورفيدا Charaka Samhita الصرع، من حيث أعراضه والعلاجات الممكنة. وأجرى طبيب بوذا المدعو جيفاكا كومارابهاكا Jīvaka Komārabhacca، عملية جراحية لإزالة طفيليين من دماغ مريض في القرن الخامس قبل الميلاد. وكان الطبيب اليوناني أبقراط مقتنعاً بأن للصرع سببا طبيعيا وليس سبباً مقدساً. وشرَّح الإغريق القدماء الجهاز العصبي، فوصف أرسطو السحايا، وميّز بين المخ والمخيخ. ثم أجرى جالينوس عمليات بسيطة لتشريح الجهاز العصبي في مجموعة متنوعة من الحيوانات، بما في ذلك القردة.
وكان هوا تو Hua Tuo طبيباً صينياً ورائداً في الجراحة عاش في أواخر سلالة هان الحاكمة في القرن الثالث للميلاد، وقيل إنه أجرى جراحة في الجهاز العصبي.
العلماء العرب والمسلمون
شهد تشخيص وعلاج الأمراض العصبية نقلة نوعية خلال عصر الحضارة العربية الإسلامية، وتوسع أطباؤها في معرفة الجهاز العصبي وتمييزهم له عن غيره من الأجهزة. وتلك المعرفة الطبية وصلتهم عن طريق الترجمات الأجنبية، ثم استوعبوها بصورة متميزة وأبدعوا فيها لاحقاً، فابتكروا طرائق جديدة في معالجة الأمراض العصبية أسست بصورة كبيرة للعلاجات التي ظهرت في عصر النهضة الأوروبية لاحقاً.
وأبرز الأمراض العصبية التي درسها الأطباء والعلماء العرب والمسلمون ووضعوا تشخيصات وعلاجات لها، هي:
الحمى الشوكية
عُرف مرض الحمى الشوكية Meningitis عند الأطباء العرب بعدة تسميات؛ فأطلقوا عليه اسم (السرسام الحارّ)، وهو مصطلح فارسي مكوّن من مقطعين (السر) ويعني الرأس، و(السام) ويعني المرض والورم. وميز الأطباء العرب بين الالتهاب الدماغي الذي كان يسمى (ليثرغس Lethargy وسفاقلوس Cephalitis) الذي يشكو المصاب به من ارتفاع طفيف في درجة الحرارة ومن صداع يستمر عدة أيام، وبين الالتهاب السحائي الذي كان يسمى (قرانيطي Crenitis) الـذي يصـيب الأغشـية التي تـغطي الدماغ والنخاع الشوكي، ويعاني المصابون به صداعا وآلاما في الظهر والعضلات وحساسية العينين للضوء وتصلُّباً في العنق.
ويبدو من المصطلحات الشائعة في الأدبيات الطبية العربية أن هذا المرض وأنواعه كانت معروفةً لدى الأطباء اليونانيين. لكننا سنجد أولى الإشارات التي ظهرت عن مرض الحمى الشوكية بصفته وباء في حواشي كتاب (الحيوان) للجاحظ (توفي 255هـ/ 869م) حيث قال:” ويقول الميداني يقال إنّ الله سلط على <قبيلة> جُرهم داء يقال له النخاع، فهلك منهم ثمانون كهلاً في ليلةٍ واحدةٍ سوى الشبان”. ويذكر المؤرخ المصري عبد السلام هارون أنّ هذا الوباء اجتاح مصر في نحو سنة 1922م.
وذلك لأنّ الحمى الشوكية مرضٌ معدٍ يصيب الأغشية الواقية التي تحيط بالدماغ والحبل الشوكي، وينتقل عبر إفرازات الجهاز التنفسي سواء عن طريق السعال أو العطاس أو تشارك الأكواب والأشياء الشخصية، الأمر الذي يفسّر لنا تحوله إلى وباء انتشر في مصر.
كما عرف أبو بكر الرازي (توفي نحو 313هـ/ 953م) هذا المرض واقترح معالجته في كتابه (الحاوي في الطب) عن طريق الفصد، بعد أن ذكر الأعراض، حيث قال:” إذا دام الثقل والوجع في الرأس والعنق يومين ثلاثة، وأربعة وخمسة وأكثر، ويحيد البصر عن الضوء، وتدر الدموع، ويكثر التثاؤب والتمطي، وسهر شديد به، ويحدث الإعياء الشديد، فإنه ينتقل العليل بعد ذلك إلى السرسام، … فإن كان الثقل في الرأس أكثر من الوجع ولم يكن سهر نوم، وكانت الحرارة أسكن والنبض عريضا غير سريع انتقل إلى ليثرغس، فمتى رأيت هذه العلامات فافصد، فإني قد خلصت جماعة به وتركت متعمدا جماعة أستبرئ بذلك رأيي فسرسموا كلهم. وقد يكون هذا في الحميات الدموية. فإذا رأيت في الحمى علامات الجدري فاعلم أنه تنتقل إليه، وإن رأيت هذه العلامات فإليه تنتقل”. وخلص إلى نتيجةٍ تجريبية تعليمية مفادها أنك ” إذا رأيت الثقل والوجع في الرأس دائما فأيقن بحدوث السرسام”.
ولم يعد هذا المرض يعالج في وقتنا الحالي عن طريق الفصد، لكننا نشكر للرازي محاولته تقديم أسلوب جديد غير مسبوق في العلاج. كذلك فقد وصف ابن سينا (توفي 428هـ/ 1037م) التهاب السحايا الحاد وفرَّق بينه وبين التهابات السحايا الأخرى.
الصرع
يعد الصرع Epilepsy أحد الاعتلالات التي تصيب الدماغ، ويتميز بإحداثه لصدمات متواترة ومفاجئة. وقد عرّف ابن سينا الصرع الدوّار بأنه:” أن يتخيل صاحبه أن الأشياء تدور عليه، وأن دماغه وبدنه يدور، فلا يملك أن يثبت، بل يسقط”. وأدرك أن من أعراضه أنه يمنع “الأعضاء النفسية عن أفعال الحسّ والحركة والانتصاب معاً غير تام، وذلك لسدّةٍ تقع، وأكثره لتشنج كلّي يعرض من آفةٍ تصيب البطن المقدم من الدماغ”.
أما عن سبب الصرع فيقترح ابن سينا أن الدماغ “ينقبض لدفع المؤذي مثل ما يعرض للمعدة من الفواق والنهوع (القيء)”. لكننا نعلم حديثاً أن الدماغ لا ينقبض كالمعدة لدفع الأذى، لكن ربما يسد نتيجة انسداد بطون الدماغ واحتباس السائل النخاعي به، أو انسكاب دمٍ أو خلط آخر إليه. كما أشار ابن سينا إلى احتمال نشأة الصرع عن تأثير بعض السموم في العصب، وهو تفسير قريب من التفسير الحالي لحالة مرض الكـُزَاز Tetanus الخطير الذي ينتج عن سموم بكتريا تسمى (المطثِّية الكزازية) ويجعل عضلات المصاب تتشنج بعنف لدرجة يعجز معها عن فتح فمه أو تحريك فكه.
السكتة الدماغية
السكتة الدماغية Stroke هي انقطاع مفاجئ في إمدادات الدم إلى الدماغ. وقد ذكر ابن سينا أن “السكتة تعطّل الأعضاء عن الحسّ والحركة لانسدادٍ واقع في بطون الدماغ، وفي مجاري الروح الحسّاس والمتحرك”، وأدرك الفرق بين أن يصاب المريض بالسكتة الدماغية وبين الغيبوبة Coma (كانوا يسـمونها السبات)، وهــي حالــة فقــدان الوعــي التام العميق؛ فالشخص المصابة بالسكتة “يغط وتدخل نفسه آفة، والسبوت يتدرج في النوم الثقيل إلى السبات، والسَّكوت يعرض ذلك دفعةً واحدة. والسكتة يتقدمها أكثر الأوقات صداع وانتفاخ الأوداج ودوّار وسدر وظلمة البصر واختلاج في البدن كله. فأما ما كان منها من ورمٍ فلا يخلو من حمى ما، وأما ما كان من الدم فيدلّ عليه أن يكون الوجه محمراً والعينان محمرتين جداً وتكون الأوداج وعروق الرقبة متمددة”.
الفالج (الخزل الشقي)
الفالج Hemiplegia هو حالة مرضية يسترخي فيها أحد طرفي البدن طولياً. وحدد ابن سينا أسباب الإصابة بهذا المرض وهي إما تعرّض الشخص لضربة شديدة أو سقوط فيتأثر الدماغ من ذلك كثيراً. قال ابن سينا:” واعلم أنه كثيراً ما تندفع المادة الرطبة إلى الأطراف العلوية حراً على البدن أو لحركةٍ مغافصةٍ من خوفٍ أو جزعٍ أو غضبٍ أو كدرٍ أو غمٍ. واعلم أنه إذا كانت الآفة والمادة التي تفعل الفالج في شق من بطون الدماغ عم شق البدن كله وشق الوجه معه”.
وقــد اقترح ابن سينا الفترة الزمنيـــة التـي يمكن أن يصــاب بها الشـخص بالفالج، فهــي في الشــتاء أكثر من الصيف، والأشخاص الذين يزيد عمرهم عن الخمسين. قال ابن سينا:” وأكـثر ما يعرض الفالج يعرض في شدة برد الشتاء، وقد يعرض في الربيع لحركة الامتلاء، وقد يعرض في البلاد الجنوبية لمن بلغ خمسين سنة ونحوه على سبيل نوازل مندفعة من رؤوسهم لكثرة ما يملأ المزاج الجنوبي الرأس”.
استفادة الأوروبيين
نتلمس أثر الجهود العربية في علم الأعصاب في الأدبيات الطبية الغربية من خلال هيمنة المصطلحات العربية منذ القرن الحادي عشر للميلاد. حيث أدخل قسطنطين الأفريقي (توفي 1087م) وجيرار الكريموني (توفي 1187م) وفرج بن سالم الصقلي (توفي نحو 1285م) وسيمون الجنوي (توفي 1292م) الكثير من الألفاظ إلى اللاتينية في أوروبا، نجد مثلاً كلمة نخاع تكتب هكذا (Nucha)، والصفاق (Siphac)، والثرب (Zirbus).
كما أن التقسيم الثلاثي للدماغ (أو توزع القدرات الذهنية في الدماغ) الذي ظهر في كتاب (كامل الصناعة الطبية) لعلي بن عباس الأهوازي (توفي 383هـ/ 993م)، تبناه كل من غليوم دو كونش ونيميسيوس ديميس. ناهيك على هيمنة كتاب القانون في الطب لابن سينا بكل تعاليمه على التعليم الطبي الأوروبي منذ النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي وحتى العقد الأول من القرن التاسع عشر.
د. سائر بصمه جي
باحث في تاريخ العلوم عند العرب