محركات البلازما.. قفزة نوعية في النقل الفضائي
ثمة آفاق واعدة أمام محركات البلازما، منها إيصال الأقمار الاصطناعية إلى مداراتها حول الأرض، والحفاظ على مدارات المحطات الفضائية الحالية والمستقبلية وتوفير الدعم الدوري لها
حسن الخاطر
كاتب علمي (السعودية)
العدد 113، إبريل-يونيو، 2021
حينما أطلق كاتب الخيال العلمي البريطاني آرثر سي كلارك العنان لمخيلته فكتب عمليه الإبداعيين ملحمة الفضاء في عام 2001، والملحمة الثانية عام 2010، اللذين يصوران مركبات الفضاء وهي تقوم برحلات بين الكواكب باستخدام محركات البلازما، لم يكن يتصور أن ذلك الخيال العلمي سيخضع لبحوث معمقة لدراسة إمكانية تطبيقه، ومن ثم البدء بمرحلة جديدة في مجال النقل الفضائي. ففي ملحمتي كلارك تقوم مركبتا الفضاء Discovery وAlexei Leonov برحلات بين الكواكب باستخدام محركات البلازما، وذلك من خلال مفاعلات نووية تعمل على تسخين الهيدروجين أو الأمونيا إلى حالة بلازما بهدف توفير قوة دفع عالية للمركبة الفضائية.
يخبرنا العلم أن المادة توجد في الظروف الطبيعية في ثلاث حالات هي: الصلبة، والسائلة، والغازية. وهناك حالة رابعة تسمى البلازما Plasma، وهي غير مألوفة لدينا؛ لأنها توجد غالبًا في درجات الحرارة العالية جدًّا، الموجودة داخل النجوم مثل الشمس، التي هي في الأساس كرة كبيرة من البلازما الساخنة. وتشكّل البلازما نسبة 99% من الكون المرئي، أي إنها النسبة الأعلى من مكوناته.
والبلازما التي تتكون منها الشمس ألهمت الباحثين بالفعل في محاولات عديدة لبناء مفاعلات الاندماج النووي على الأرض في عملية محاكاة لما تفعله الشمس في الفضاء، لكن واجهتهم تحديات عديدة منها أن الطاقة اللازمة لتشغيلها أكبر بكثير مما تنتجه، إضافة إلى الخطورة الشديدة التي تشكّلها هذه العملية على كوكب الأرض، فتخيّل وجود قطعة من الشمس على الأرض؟! لكن إذا استطعنا الوصول إلى نقطة التعادل ومستوى الكفاءة في الطاقة، وامتلكنا القدرة على إتقان هذه العملية النووية والتحكم فيها، عندئذ ستصبح مفاعلات الاندماج النووي واقعًا في المستقبل، وستوفر طاقة لا حدود لها لجميع سكان الأرض.
عندما نسخن المادة الصلبة تكتسب طاقة حرارية وتقوم الجزيئات بالاهتزاز والحركة بسرعة كبيرة، الأمر الذي يؤدي إلى أن تصبح سائلة. وعندما نسخن السائل يتحول إلى غاز، ومع الاستمرار في عملية التسخين تزداد الطاقة الكافية لتحرير الإلكترونات من الذرات، وتبدأ الذرات التي يتكون منها الغاز بفقدان إلكتروناتها وتصبح أيونات موجبة الشحنة، وتكون هذه الإلكترونات الحرة قادرة على الطفو بسهولة، وتسمى هذه العملية بالتأين Ionization. وبمجرد أن يتأين جزء كبير من الغاز تتغير الخصائص الكهربائية للمادة بشكل كبير، ويطلق عليها اسم البلازما. وهذا يعني أن البلازما عبارة عن غاز متأين تكون فيه الإلكترونات حرة وغير مرتبطة بالذرات.
محركات البلازما
تستخدم الموجات الراديوية والحقول المغنطيسية من أجل تسخين غاز الهيدروجين إلى مليون درجة مئوية، وهي تعادل نحو 173 مرة من درجة حرارة سطح الشمس. وعندما تتشكل البلازما توفر قوة دفع كبيرة للمركبة الفضائية.
ومن أمثلة محركات البلازما الصاروخ المغنطيسي متغير الاندفاع النوعي VASIMR، الذي صممه رائد الفضاء المهندس فرانكلين تشانغ دياز Franklin Chang Diaz عام 1983. يُضخ غاز مثل الأرغون أو الزينون أو الهيدروجين في أنبوب معدني ويُقصف بالكهرباء عن طريق موجات راديوية، وعندما يتحول الغاز إلى بلازما يتم التحكم في البلازما عن طريق الحقول المغنطيسية، حتى تندفع في الاتجاه الصحيح من نهاية المحرك لتوفير قوة الدفع في الاتجاه المعاكس طبقًا لقانون نيوتن الثالث المعروف باسم قانون الفعل ورد الفعل.
وتوفر قوة الدفع سرعات عالية جدًّا بحيث يمكن للـمحرك VASIMR السفر من الأرض إلى المريخ في 39 يومًا فقط! علمًا أن التقنيات الحالية تستغرق نحو سبعة أشهر للوصول إلى الكوكب الأحمر، والمدة الزمنية القصيرة لها انعكاسات إيجابية على الجانب الصحي؛ حيث يتعرض رواد الفضاء إلى إشعاعات أقل. إضافة إلى ذلك، يستطيع محرك البلازما VASIMR إعادة تدوير نفايات الهيدروجين من محطة الفضاء الدولية، بحيث يبقى المختبر في مدار الأرض المنخفض دون الحاجة لزيارة الأرض من أجل الوقود. ويعتقد دياز أن هذه التقنية ستشكّل قفزة نوعية في النقل الفضائي. وما زال هذا النوع من محركات البلازما قيد التطوير، وسيكون محرك البلازما VASIMR جاهزًا لإجراء الاختبارات الأولى في الفضاء بدءا من عام 2023.
هناك تحديات كثيرة تواجه محركات البلازما منها الطاقة اللازمة لإنتاج الطاقة الكهربائية المطلوبة في توليد البلازما، وهناك تصاميم تقترح استخدام الطاقة الشمسية في توفير الطاقة للبلازما، في حين تقترح تصاميم أخرى استخدام تفاعلات الانشطار النووي من أجل توليد الطاقة المطلوبة.
إن لاستخدام تفاعلات الانشطار النووي آثارا سلبية هائلة على صعيد التلوث الفضائي وحدوث سلسلة من المشكلات المستقبلية، إذ إنها تطرح كمية كبيرة من المواد المشعة في الفضاء متسببة في حدوث كوارث فضائية، بدءا من تلوث الفضاء وما يصاحبه من مخاطر على رواد الفضاء إلى استنفاد وتدمير طبقة الأوزون المحيطة بكوكبنا، والتي تعكس الأشعة فوق البنفسجية بعيدًا عن الأرض؛ لذلك ربما تكون مستبعدة لاسيما أن السياحة الفضائية باتت قاب قوسين من تحقيقها.
إمكانات واعدة
ثمة آفاق واعدة أمام محركات البلازما، منها إيصال الأقمار الاصطناعية إلى مداراتها حول الأرض، والحفاظ على مدارات المحطات الفضائية الحالية والمستقبلية مثل محطة الفضاء الدولية وتوفير الدعم الدوري لها، بحيث تكون في ارتفاعها المحدد بنحو 400 كم من سطح الأرض، ذلك أنها تعاني من انخفاض تدريجي بسبب مقاومة الغلاف الجوي. ومع توفير الطاقة الكافية يمكن لمحركات البلازما دفع أي كويكب بعيدًا عن مسار الاصطدام بالأرض، أو وضعه في موقع محدد بهدف التعدين الفضائي.
وفي المستقبل البعيد ربما تكون محركات البلازما قادرة على السفر بالجنس البشري إلى كواكب بعيدة تدعم الحياة، إذا اضطررنا إلى مغادرة كوكبنا الأزرق نتيجة مخاطر مستقبلية ربما يتعرض لها كتغير المناخ. وإذا ذهبنا بخيالنا إلى ما هو أبعد من تغير المناخ، فبعد خمسة بلايين سنة ربما تستنفد الشمس وقودها من الهيدروجين والهيليوم، متحولة إلى نجم عملاق أحمر، وتلتهم الكواكب القريبة منها بما فيها كوكب الأرض. إن الصواريخ التقليدية الحالية التي تعمل بالوقود الكيميائي ستكون عاجزة عن السفر إلى ألفا سنتوري، وهو أقرب النجوم إلى الأرض بعد الشمس.
إعادة الاتصال المغنطيسي
تحدث على الشمس عملية تسمى إعادة الاتصال المغنطيسي Magnetic Reconnection، وهي المسؤولة عن تحرك التوهجات الشمسية. وخلال هذه العملية تتقارب الحقول المغنطيسية وتنفصل وتنضم مرة أخرى وتطلق كميات هائلة من الطاقة، حيث يتم تحويل طاقة المجال المغنطيسي إلى طاقة حركية وحرارية للبلازما. وتحدث هذه الظاهرة أيضًا في مفاعلات الاندماج النووي التوكاماك Tokamak التي تأخذ شكل الدونات.
وفي عام 2020، قدمت الباحثة في مختبر برينستون لفيزياء البلازما التابع لوزارة الطاقة الأمريكية فاطمة إبراهيمي تصميمًا جديدًا لمحركات البلازما بالاعتماد على ظاهرة إعادة الاتصال المغنطيسي. وتظهر المحاكاة الحاسوبية أن هذا التصميم الجديد قد يدفع البلازما بنبضات وسرعات تبلغ مئات الكيلومترات في الثانية الواحدة، وهي أسرع بعشر مرات من قوة دفع أنظمة الدفع الكهربائي. ويتميز هذا التصميم بالتحكم في الدفع من خلال ضبط الحقول المغنطيسية، إضافة إلى أن الدافعات لا تطلق البلازما فقط، لكن تطلق معها البلازمويدات Plasmoids، وهي كرات من البلازما موجودة في الفقاعات المغنطيسية التي تضيف المزيد من القوة إلى الدفع. وتسمح المجالات المغنطيسية للبلازما داخل الدافع أن تتكون إما من ذرات ثقيلة أو خفيفة، وهذه المرونة تتيح للعلماء تخصيص مقدار الدفع لمهمة معينة.
وترى إبراهيمي أن محركات الدفع الأخرى قد تتطلب غازًا ثقيلا مصنوعًا من ذرات مثل الزينون، لكن هذا التصميم يسمح باستخدام أي نوع من الغاز تريده، وقد يفضّل العلماء الغاز الخفيف في بعض الحالات لأن الذرات الأصغر يمكن أن تتحرك بسرعة أكبر. وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها اقتراح البلازمويدات وإعادة الاتصال المغنطيسي في الدفع الفضائي، وستكون الخطوة التالية بناء نموذج أولي.
Looking into the Future Right Now
استطاع الإنسان أن يضع قدمه على سطح القمر خلال القرن العشرين، وهي أبعد نقطة في الكون تمكن من زيارتها حتى الآن. وقد أثار التقدم العلمي في التقنيات الفضائية خلال هذا القرن رغبة الإنسان في تجاوز القمر والتطلع إلى المستقبل واستكشاف الفضاء والسفر إلى النجوم والكواكب البعيدة.
وهذه الرغبة البشرية تتجاوز قدرات الصواريخ المستخدمة حاليًا ذات الدفع الكيميائي. وبناء على ذلك، يتطلع العلماء إلى تطوير محركات البلازما لتحقيق هذا الهدف. وسوف يتوسع استخدامها ويكون لها آثار هائلة في المستقبل، ولاسيما في وسائل النقل الجوية، وربما تعمل الطائرات المستقبلية بالبلازما بدلا من محركات الاحتراق التي تعمل بالوقود الأحفوري، وسوف يتحقق حلمنا بالسفر إلى النجوم، وتكون المحركات التي تعمل بالوقود الكيميائي شيئًا من الماضي.
مقال رائع وخيال خصب
مفاد علمي وعطاء مميز يطرق العقول
ويستهوي فيها الفضول ويبث الآمال والتفائل
للإبحار في متاهات هذا الكون العظيم العجيب
نسأل الله لكم كل التوفيق
وهو علمي نفع والله طبيعي يمس العقول
يجذب الفضول ويلهم الآمال والتفاؤل
للتنقل في متاهات هذا الكون الرائع الرائع
وفقكم الله كل التوفيق