ريادة عربية في تاريخ الجغرافيا الفلكية
مصطفى يعقوب عبد النبي
ربما يبدو للوهلـة الأولـى أن العرب في جاهليتهـم كانوا بمعزل عما جاورهم من أمصار، بحكم أنهم كانوا غارقين في بداوتهم، لا قبل لهـم بأسباب العلم والحضارة. غير أن الحقيقـة التي يعكسهـا واقع الحال هي على النقيض تمـامـا من هذا الأمر؛ فقد كان العربي القديم خبيرا بالبيئــة الصحراويـة وظواهرها، وبنجوم السماء فيها. وكان له في ذلك معرفة أنضجتها السنون وهذبتها الخبرات الموروثة التي لا مكان فيها لأثر من خرافة.
بدايات الجغرافيا الفلكية
على الرغم من كثرة المؤلفات الجغرافية وأعلام الجغرافيين العرب، فإن التاريخ لم يحفظ لنـا اسما واحداً من عرب الجاهليـة أو صدر الإسلام لعالم جغرافي أو فلكي، غير أنه يجب ألا نغفل أناسـا مجهولين كانوا أعلم قومهم بحقائق الجغرافيا والفلك، وكانوا من رواد علم الجغرافيا الفلكية، ونعني بهؤلاء «الأدلاء العرب» الذين كانوا يرشدون قوافل التجارة العربية في الصحراء المترامية الأطراف.
وإذا كان الدليل العربي هو أعلم قومه بمفردات الأرض في سيره نهارا،فهو – أيضا – أعلم قومه بذات القدر من المعرفة بمفردات السماء في سيره ليلا، فالبيئة الصحراوية لا تستغني عن معرفـة أحوال النجوم بحكم الضرورة اللازمــة والحاجــة الملحٌــة لمثل هذا النوع من المعرفــة.
ولعل الدليل العربي الوحيد الذي حفظ لنا التاريخ اسمه هو عبد الله بن أرقط، فهو الدليل الذي صحب النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في رحلة الهجرة إلى المدينة المنورة.
ومن الشهادات الموثقة التي تؤكد أحقية العرب القدماء في ريادة الجغرافيا الفلكية في تاريخ العلم، ما أورده الطبري في تاريخــه إبان الفتوحات الإسلاميــة، أن خالدا بن الوليد حينما كان يقاتل الفرس في دلتا نهر الفرات، قصـد منطقة على تخوم الشام والعراق والجزيرة، وتوجه إلى مكة في طريق وعر جدا. وهذه الرحلـة العجيبــة لدى حج خالد ذهابـاً وإيابـاً مع نفر قليل من أصحابـه قطع فيهـا – بلغـة المسافات المعاصرة – نحو ألفي كيلومتر تظهر أن العرب قبل الإسلام وفي أوائله كانوا على جانب عظيم من ثراء المعارف العلميـــة في الفلك والجغرافيا، والجغرافيا الفلكية بوجه أخص.
ولعلنا لا نجاوز حد الصواب إذا قلنا إنه لو قدر لهذه المعارف المكتسبة أن تدون في حينها لمثلت تراثا علميا يندر أن يكون له نظير بين ثقافات الأمم فيما يختص بالبيئة الصحراوية، لا أثر فيه لشبه ترجمة أو نقل عن الغير، كما يحلو لجمهرة كبيرة من المستشرقين ومؤرخي العلم أن ينسبوا أي تقدم علمي للعرب إلى حركة الترجمة الواسعة النطاق التي حدثت في العصر العباسي.
ومن الأدلة على النشاط البحري عند العرب في عصر ما قبل الإسلام، أن أقدم وثيقة مكتوبة موثوق بها يستدل بها على قدم مساهمة العرب في التجارة والملاحة في المحيط الهندي، هي وثيقة يونانية ترجع إلى القرن الأول الميلادي، وهي تقرير عام عن سواحل وموانىء المحيط الهندي، يصف بعض الموانئ العربية بالمزدحمة بالسفن والبحارة، ولهم تجارة واسعة مع ساحلي كينيا وتنزانيا.
ومعنى هذا أن العرب امتلكوا معرفة علمية متعلقة بكل موجودات الصحراء من معالم جغرافية ومعرفة أوقات هبوب الرياح وأنواعها وطرق السير الآمنة، وحركات النجوم السيارة في أفلاكها والاهتداء بها ليلا، كما امتلكوا معرفة علمية بكل ما يختص بالسفر عبر البحر.
ولعل هذا النزوع الفطري للجغرافيا الذي لازم العربي القديم في حله وترحاله واكبه نزوع فطري مماثل في التعرف إلى أحوال النجوم؛ لأن النجوم تمثل طوق النجاة للسائر في الصحراء ليلاً. لذا فليس من الغريب أن يكون الشعر العربي القديم وخاصة الشعر الجاهلي حافلا بأسماء النجوم وأحوالها.ومن هنا تكونت للعربي القديم أشتات مؤتلفة من معارف مختلفة من الجغرافيا والفلك، تلك الأشتات التي كونت معا ما يعرف بـ «الجغرافيا الفلكية». ولعل أول من تنبه إلى البداية الحقيقية للجغرافيا الفلكية عند العرب ووصف معرفتهم بهذا الصدد المستشرق الروسي كراتشكوفسكي Kratckkovski.
من أباطيل المستشرقين
بينما كان لدى العرب القدماء معارف علمية متقدمة بالفلك، نجد أن معظم المستشرقين ومؤرخي العلم تجاهلوا -عمداً أو سهواً- تلك المعارف العلمية المتقدمة. وربما -على هذا الأساس- لم يتجاوز مؤرخو علم الفلك لدى تأريخهـم لبدايات هذا العلـم في الحضارات القديمـة شعوبـاً ثلاثــة؛ المصريون القدمـاء والبابليون واليونانيون. ويرجـع بعض المؤرخين التراث الفلكــي اليونانـي إلـى أصول مصريـة وبابليــة. فأين العرب من هــؤلاء؟
إننــا لا نجد مؤرخــاً يذكــر شيئــاً عن علـم الفلك عند العرب قبل الإســلام، ليس هذا فحسب, بل إنٌ مؤرخــاً شهيراً كفيليب حتي يقـرر أن دراســة الفــلك من الناحيـة العلميـة بدأت في الإسلام عندمــا تُرْجِــم كتابا «السند هند» و«المجسطــي». ومعنـى هذا أن العرب – في عصر ما قبل الإســلام – لم يكن نصيبهـم في الفلك شيئــاً مذكوراً. غـــير أنٌ قراءة الوثائق المسجٌلـة في التاريخ العربـي القديم تُثبِتُ باليقين أن العرب بلغوا شأواً كبيراً في معرفـــة النجـوم, وربمـا فاقوا غيرهـم من الأمم.
ومهما قيل في أدبيات المستشرقين ومؤرخي العلوم من الغربيين من تجن على العلم العربي أملته روح التعصب وسوء القصد، فإننا لا نعدم فريقا من مؤرخي العلم تميز بالحيدة والموضوعية والتجرد من الهوى فأنصفوا العلم العربي وأشادوا بإنجازاته. ومن لك ما نقل عن المستشرق لويس ماسينيون من اكتشاف العرب للغيوم التي اهتدى بها ماجلان في رحلته حول العالم، وهو أمر يشهد للعرب بالتقدم الهائل في الملاحـة البحرية فضلاً عن علم الفلك. وكانت العلاقات البحرية المنتظمـة بين العرب والهند قد بدأت قبل الإسلام بوقت طويل؛ ثم ازدهرت الملاحـة في بحر العرب بفضل اختراع العرب للشراع المثلث. وكان العرب يعرفون الطريقة القائمة على النجم القطبي الشمالي، ولكن هذه الطريقة لم تكن تصلح للاستخدام عند خط عرض مقديشيو، حين كان النجم القطبي الشمالي يغرق تحت الأفق.
وأدرك العرب أهميـة إبحار التجار الهنود في كوتشي، القائمـة على «نجم ثابت في الجنوب»، وكانوا منذ القدم قد استهدوا، وهم في الصحراء على ظهور الإبل، بالنجم «سهيل» بوصفه نجمة قطبية جنوبية.
وغيوم ماجلان، التي اهتدى بها الملاحون العرب في تجوالهم في بحر العرب والمحيط الهندي، هي التي اهتدى بها ماجلان، في عصر النهضة، حين دخل المحيط الهادي، من أجل إتمام دورة حول الأرض، في سنة 1522. ومن الذين ذكروا غيوم ماجلان هذه: تميم الداري ( المتوفى سنـة 40هـ) وابن وحشية (سنـة 291هـ)؛ وعبد الرحمن الصوفي في «الكواكب المصورة»، (توفي سنـة 376هـ). ومن النتائج المباشرة لريادة العرب في الجغرافيا الفلكية تصحيح علماء الفلك العرب أخطاء ما نقلوه عن التراث اليوناني، ومنها تصحيح مواضع المدن الكثيرة التي عينهـا بطليموس تعييناً جغْرافيٌـاً غيرَ مطابق للحقيقة تمامـاً.
المستشرف نلينو
يعد المستشرق كارلو نلينو Nallino واحداً من الثقات في علم الفلك عند العرب وهو وثيق الصلة بالجغرافيا، إذ ألف كتابا شهيراً بعنوان «علم الفلك…تاريخه عند العرب في القرون الوسطى» أظهر فيه العلاقة بين تقدم العرب في علم الفك من ناحية وبعض أركان الإسلام من ناحية أخرى.
ويوضح نلينو في كتابه دور العرب ولاسيمـا البيرونـي في قياس محيط الأرض على أساس علمـي سليم، ومنها ما أسماه «قاعدة البيرونـي»، وهي تلك التسمية التي اشتهرت في أدبيات تاريخ العلم لقياس محيط الأرض. ومما يستحق الذكر أن البيروني أخرج تلك الطريقة المذكورة من القوة إلى الفعل كما جاء في كتابه «القانون المسعودي» وانتهى إلى إيجاد نصف قطر الأرض بفرق لا يزيد عن 15 كيلومتراً عن المعروف حالياً.