تطبيقات الاستشعار عن بعد في الرصد البيئي البحري
Dr. Waheed Mohamed Mofaddal
أحدثت تقنية الاستشعار عن بعد Remote Sensing، منذ شيوع استخدامها في المجالات المدنية في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، ثورة حقيقية في طريقة التعرف إلى المظاهر الموجودة على سطح الأرض ودراسة الثروات الطبيعية المتاحة، وهذا من واقع ما تتمتع به من خصائص ومزايا، ومن واقع النقلة النوعية التي أحدثتها في أسلوب جمع المعلومات ورصد المظاهر السطحية والعناصر الأرضية من بعد.
ونظراً للتطور المستمر الحادث في طرق تحليل الصور الفضائية وخصائص المستشعرات المحمولة على السواتل (الأقمار الصنعية) المعنية بالرصد البيئي ودراسة الظواهر الطبيعية، ولظهور تقنيات أخرى مساندة لها، مثل نظم المعلومات الجغرافية GIS، وأسلوب النمذجة Modelling، فقد توسعت تطبيقات الاستشعار عن بعد استخدامات الصور الفضائية عموماً، إلى حد أنه لم يعد هناك مجال إلا وأصبح لهذه التقنية دور فيه، بما في ذلك الطب الوقائي والبحث الجنائي والكشف عن الآثار القديمة.
وأثمر هذا تطور أكثر من مجال بحثي آخر معني باستكشاف حالة النظم البيئية ورصد الأخطار التي تتهدد الموائل البيولوجية والمجتمعات البشرية، على حد سواء. ولعل من أبرز هذه المجالات مجال الرصد البيئي عموماً والرصد البيئي البحري خصوصاً، إذ تم خلال العقدين الأخيرين إطلاق عشرات السواتل والمستشعرات الفضائية المتخصصة في دراسة المناطق الساحلية والبحرية. وأدى ذلك إلى الحصول على بيانات دقيقة عن حالة البحار والمحيطات وعن دينامية العوامل الطبيعية المؤثرة فيها، و قياس بعض المعاملات والخصائص البحرية كدرجة ملوحة المياه وارتفاع الأمواج وسرعة الرياح.
مجلس التعاون
وبالنسبة إلى دول مجلس التعاون الخليجي عموماً، فقد شهدت زيادة في معدلات الأخطار الطبيعية، خاصة العواصف الترابية والأعاصير الجوية وموجات المد الأحمر الضار، وزادت معها أيضا الأضرار الاقتصادية والمتاعب الصحية الناتجة عن هذه الظواهر.
وهذا من جهة أخرى يعكس مدى الحاجة إلى استخدام تقنية سريعة وفعالة مثل الاستشعار عن بعد من أجل رصد هذه الأخطار وتتبع تأثيراتها، ويعكس أيضاً أهمية الأخذ بالتقدم الحادث في استخدام الصور الفضائية في حماية البيئة وإدارة المناطق الساحلية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة بصورة عامة.
ويبدو أن هذا هو الحادث فعلاً على مستوى المنطقة، إذ تم حديثاً إنشاء أكثر من مركز للتميز العلمي، وأكثر من وحدة متخصصة في استخدام تقنيات الاستشعار عن بعد في مجال الرصد البيئي البحري، إضافة إلى المراكز البحثية والأكاديمية الرائدة في هذا المجال، والتي تم إنشاؤها سابقاً في أكثر من دولة خليجية.
المراكز المتخصصة
تضم القائمة أكثر من مركز تميز علمي وهيئة متخصصة في هذا المجال، منها المنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية والمعروفة اختصارا باسم «روبمي»، التي تم افتتاح أمانتها رسمياً بدولة الكويت في شهر يوليو 1980، بغرض متابعة تنفيذ اتفاقية الكويت الإقليمية الموقعة في العام 1978 وتعزيز التعاون بين الدول الثماني الموقعة على الاتفاقية، من أجل حماية البيئة البحرية من التلوث وبقية الأخطار الأخرى. ولدى المنظمة وحدة للاستشعار عن بعد تعمل على رصد الأخطار الطبيعية والبشرية التي تتعرض لها البيئة البحرية في المنطقة. ونجحت المنظمة في دعم قدراتها في مجال الرصد البيئي، من خلال تثبيت محطة أرضية لاستقبال وحفظ وتحليل الصور والبيانات الفضائية الملتقطة بواسطة المستشعر الأمريكي «موديس» MODIS، في مقرها بالكويت.
وهذه المحطة تعد المحطة الأولى من نوعها بالمنطقة، إذ أنشئت عام 2003. كما نجحت المنظمة أخيرا في تعزيز هذه القدرة من خلال تثبيت محطة أخرى EUMETCast Receiving Station أصغر وأقل تكلفة لاستقبال بيانات ومعلومات فضائية وميدانية إضافية في مجال الرصد البيئي.
معهد الأبحاث العلمية
على المستوى الوطني فإنَّ معهد الكويت للأبحاث العلمية يعدّ رائداً أيضا في هذا المجال، إذ تحتوي مرافقه على مختبر متخصص للاستشعار عن بعد ومركز لنظم المعلومات الجغرافية، وكلاهما ساهم في تقديم معلومات مهمة عن البيئة البحرية بالكويت.
كما ساهم مركز أبحاث البيئة والعلوم الحياتية في المعهد من خلال برامجه البحثية في دراسة البيئة البحرية والساحلية وتطبيق باحثيه لتقنية الاستشعار عن بعد في معرفة آثار تجفيف الأهوار العراقية في جزيرتي وربة وبوبيان، والرصد البيئي للعواصف الترابية وموجات المد الأحمر والانسكابات النفطية وحركة الرسوبيات، وتوزيع الهائمات النباتية البحرية وغيرها من المتغيرات البيولوجية بالمياه الإقليمية الكويتية.
كذلك لا يفوتنا الإشارة إلى الجهود القيمة التي تقوم بها الهيئة العامة للبيئة في الكويت في مجال حماية البيئة البحرية وتقييم مكامن الخطر ومصادر التلوث البحري والأرضي، ولاسيما إصدار بوابة معلوماتية إلكترونية تتضمن مكوناً أو برنامجاً خاصاً لمتابعة ومراقبة حالة البيئة البحرية في دولة الكويت يعرف باسم Marine eMISK. وهذه البوابة تعد إحدى صور التكامل بين تقنية الاستشعار عن بعد ونظم المعلومات الجغرافية ومصادر المعلومات الأخرى. وهي تتميز بثراء محتواها المعلوماتي.
جامعة الكويت
وفي جامعة الكويت ساهم قسم علوم الأرض والبيئة بكلية العلوم في إنجاز أكثر من دراسة تتعلق برصد تغيرات خط الشاطئ ومعدلات النحر والترسيب وتقييم حالة البيئة الساحلية لدولة الكويت. وفي هذا السياق فإنه تجدر الإشارة إلى إضافة أخرى مهمة لمجال دراسة البيئة البحرية في الكويت، ونعني بذلك افتتاح جامعة الكويت حديثاً لمركز بحثي متخصص في علوم البحار.
جهود سعودية
في السعودية فإن كلا من قسم الدراسات البحرية بمركز أبحاث البيئة والمياه التابع لجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وقسم علوم الأرض في الجامعة نفسها، أدى دورا مماثلاً من خلال تطبيق تقنية الاستشعار عن بعد في تقييم حالة تجمعات غابات المانغروف الموجودة على ساحل المملكة الشرقي قرب الدمام والجبيل وخليج تاروت، ودراسة كثافة الشعاب (coral reefs) المرجانية وترسيم أمكنة وجودها على الساحل الشرقي للمملكة.
وثمة دور مهم لمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية في دعم الهيئات الأكاديمية والبحثية المعنية بتطبيق تقنية الاستشعار عن بعد واستخدام الصور الفضائية في المملكة. هذا من خلال تمويلها لعمليات شراء الصور الفضائية المطلوبة، أو من خلال الجهود البحثية التي تقوم بها معاهد الأبحاث التابعة لها مثل المركز الوطني لتقنية الاستشعار عن بعد ومعهد بحوث الأحياء والبيئة.
وبالنسبة إلى مملكة البحرين، هنالك إسهامات فردية قيمة في هذا المجال من بعض الباحثين في كلية الدراسات العليا بجامعة الخليج العربي.
وفي دولة قطر، فإن كلا من قسم علوم وتكنولوجيا المياه والبيئة ومختبر علوم الجغرافيا المكانية في معهد قطر لبحوث البيئة والطاقة، يجرى أبحاثا تطبيقية في مجال تقييم حالة البيئة البحرية والموائل الطبيعية الوطنية، وترسيم أمكنة وجود الشعاب المرجانية وغابات القرم ورصد التغيرات الطارئة عليها، وهذا من واقع استخدام الصور الفضائية وتطبيق تقنية الاستشعار عن بعد.
وفي دولة الإمارات فإن «مختبر النمذجة والاستشعار البيئي عن بعد» التابع لمعهد «مصدر للعلوم التكنولوجيا»، يعد مثالاً للمراكز العلمية الناهضة في هذا المجال، حيث تمكن المركز من تحقيق إنجازات علمية عدة في مجال تطبيق الاستشعار عن بعد في الرصد البيئي البحري. ومن ذلك على سبيل المثال إطلاقه لمرصد إلكتروني لمراقبة آنية للبيئة الساحلية والظواهر البحرية الطارئة في المياه الإقليمية لدولة الإمارات وبقية سواحل المنطقة.
أما في سلطنة عمان، فإن جامعة السلطان قابوس ممثلة في كلية الزراعة وعلوم البحار ومركز الاستشعار عن بعد ونظم المعلومات الجغرافية، إضافة إلى مركز علوم البحار والمصايد التابع لوزارة الزراعة والمصايد، هما أكثر المهتمين بتطبيق تقنيات الاستشعار عن بعد والصور الفضائية في دراسة البيئة البحرية والظواهر المرتبطة بها، خاصة موجات الازدهار الطحلبي البحري الضارة، نظراً لتأثيراتها السلبية في الثروة السمكية التي تعد من أهم مصادر الدخل القومي في السلطنة.
انتشار واسع
وبصورة عامة يمكن القول إن تطبيق تقنية الاستشعار عن بعد في دراسة البيئة البحرية بدأ ينتشر في معظم دول مجلس التعاون الخليجي، وإن العملية البحثية في هذا المجال حققت تقدماً ملحوظاً خلال السنوات القليلة الماضية، من خلال إنشاء وبزوغ أكثر من مركز تميز علمي. غير أنه يجدر أيضاً القول إنه من خلال مراجعة معظم الإنتاج العلمي والنشاطات البحثية في تلك المراكز، فإن هناك أكثر من تطبيق لتقنية الاستشعار عن بعد لم يتم اقتحامه بعد بواسطة هذه المراكز، ربما بسبب نقص الخبرة. ومن هذه المجالات رصد وتحديد التجمعات السمكية والأمكنة المناسبة للصيد البحري، وإنتاج خرائط بمناسيب الأعماق المميزة للمناطق الضحلة. لذا فإن كل المأمول أن تتمكن المراكز والهيئات العلمية المعنية في المنطقة من تدارك هذه الفجوة خلال الفترة المقبلة، وتتمكن من مواصلة النجاح، لاسيما على صعيد تطبيق واستخدام تقنية الاستشعار عن بعد والصور الفضائية في عملية الرصد البيئي وحماية البيئة البحرية. >