الـتـنـمـر الإلكتروني فـيـروس بـشـري يـعـبـث فـي الـعـالـم الافـتـراضـي
فاطمة محمد البغدادي بقشيش
هنالك إشكاليات كثيرة ظهرت مع انتشار التكنولوجيا الحديثة، وشيوع استخدامها لدى جميع شرائح المجتمع. وبعضها أخذ يمثل ظاهرة يستفحل خطرها وبلواها، وتهدد بنيان المجتمع وتماسكه الاجتماعي وترابطه الأسري. ومن هذه الإشكاليات التنمر الإلكتروني الذي يُمارسه أشخاص من أصحاب السلوكيات غير السوية، بهدف إيذاء أشخاص آخرين، جلهم حسن النيَّة، ومن صِغار السِن، الذين يُحلقون في هذا الفضاء الواسع، دون وعي حقيقي، أو خِبرة كافية.
وساعد على تكاثر وانتشار هذه الإشكالية التنوُّع الكبير الذي طرأ على تقنيات الاتصال في العالم الافتراضي، والتي صارت في مُتناول الجميع.
استغلال خبيث للإنترنت
كان بل بيلسي، الشاب المُناهِض للتنمُّر الإلكتروني، أوَّل من استَخدَم هذا المُصطلح، وعرَّفه بأنه الاستغلال الخبيث والمُتعمَّد للإنترنت، والتقنيات المُتعلِّقة به، لإغراء واستقطاب الآخرين، ثم إيذائهم بطريقة مُتكررة وعدائية.
ويرى آخرون أن ذلك التنمر هو استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات للحواسيب والأجهزة اللوحيَّة والهواتف الخلويَّة، وغيرها من التقنيات الرقميَّة ذات الصلة، على نحو سيئ، لإزعاج شخص ما، أو مجموعة أشخاص، بصورة مُتكررة ومقصودة، ومن ثم تتحوَّل وسيلة الاتصال والمعلوماتية، التي أوجِدت من أجل أهداف نبيلة، وتحقيق مزيد من الترفيه والمُتعة المعرفيَّة، إلى مصدر قلق وخوف.
ورُصِد في كثير من الحالات أن من يُشاركون في التنمر الإلكتروني، كانوا في الأصل ضحايا له. ووفق دراسة أممية فإن 7 من كل 10 شباب تعرَّضوا للإساءة عبر الإنترنت، في مرحلة ما، وأن التنمر الإلكتروني هو امتداد لإشكاليات قديمة، تعود إلى النزعات الاجتماعية الخفيَّة للأحكام المُسبقة والتمييز، وغالباً ما تؤثر على الأشخاص الذين يتمتَّعون بخصائص محميَّة، كالعرق، والدين، والحياة الجنسية، والهوية الجنسانية، والإعاقة، أكثر من غيرهم.
وتبين أن هنالك شخصا من كُل اثنين من المتعرضين للتنمُّر يُخبر ذويه، أو أحد المُقرَّبين منه، بواقعة التنمر، وأن من لا يُخبر أحدا يكون ذلك بدافع الخوف أو الحَرج أو عدم الثِقة بأنظمة الدعم، وأن لذلك آثارا خطيرة.
وأظهر تقرير حديث اعتمد على دراسة استمرت أربع سنوات جرى فيها تحليل 19 مليون تغريدة، أن هنالك نحو خمسة ملايين حالة من حالات كراهية النساء متضمنة فيها، وأن 52 % من إساءات كُره النساء المُسجَّلة كتبتها نساء! وكان التركيز ــ كمدخل للتنمُّر ــ على اللعب بالعواطف، ومُستوى الذكاء، والتفضيلات للنساء الأخريات. ورصد التقرير 7.7 مليون حالة من حالات العُنصرية، وتتقدَّم السُخرية من المظهر، كأحد أكثر جوانب إساءة الاستخدام شيوعاً على الإنترنت.
ففي عالم مُزدحم، يسوده هاجس المشاهير، يقع كثير من الشباب تحت ضغوط هائلة، من وسائل الإعلام والمؤثرين والمحتوى الإعلامي الذي يستهلكونه، للظهور والتصرُّف بطريقة مُعيَّنة، ولعل هذا ما يدفع كثيرا من الشباب، والفتيات بشكل خاص، إلى الرغبة في المضي قُدماً نحو استخدام وسائل تجميل مُختلفة، تصل في كثير من الأحيان إلى الجراحات التجميلية بغرض تغيير المظهر.
منتديات ومنصَّات ومواقع
تتعدد الأساليب والوسائل التي يتعمَّد المُتنمِّرون استخدامها لإيقاع ضحاياهم في العالم الافتراضي، من أخطرها وأكثرها شيوعاً.
غُرف الدردشة :
تصنف المُنتديات باعتبارها وسيلة سهلَة تُمكِّن الأشخاص الجُدد من الدخول إليها واستكشاف موضوعات وقضايا قد تُثير خجلهم عند الحديث عنها بشكل مُباشر مع ذويهم وأصدقائهم في العالم التقليدي. والخطر الأكبر في هذه المُنتديات يتعرَّض له المُراهقون، من الفتيان والفتيات، الذين يتطلَّعون دائماً لاستكشاف كُل ما هو جديد وخارج عن المألوف دون وعي حقيقي بتداعياته، لاسيما بعد أن يكشفوا عن خصوصياتهم، سواء أكانت معلومات أم صورا.
البريد الإلكتروني:
سوء استخدام البريد الإلكتروني أو عدم الاهتمام بتحصينه، من خِلال وسائل الحماية الكافية، قد يجعل صاحبه ضحيَّة للتنمر، بل وقد يصبح هو نفسه مُتنمراً.
المُراسلات الفورية:
تُتيح برمجيات المراسلات الفورية مزايا مُغرية للشباب لاستخدامها، وكثيراً ما يستدرِج المُتنمِّرون أصحاب هذه التطبيقات للحصول على تفاصيل هويَّتهم، ومن ثم البدء في إيذائهم وتهديدهم.
مواقع التواصل الاجتماعي:
تتشكل عبر هذه المواقع صداقات جديدة، ضِمن مُجتمعات إلكترونية واسعة. وهي تسمح للجميع بأن يُطلقوا العنان لأفكارهم والتعليق بالكتابة، والصوت، والصورة، ومقاطع الفيديو. وعلى الرغم من الإجراءات والقوانين التي تضعها هذه المواقع وتُلزِم مُرتاديها بها فإنها مازالت تُمثل منصَّات خِصبة للتنمُّر والتحرُّش بالآخرين.
صور وأشكال..وتداعيات مُمتدة
إن خطر التنمُّر الإلكتروني يتخذ أشكالاً وصورًا مُختلفة، فقد يأتي في هيئة رسائل نصيَّة مُسيئة، أو مقاطع فيديو مُركَّبة ومُلفَّقة ومُغرِضة وغير أخلاقية، أو خطابات تحض على الكراهية والعُنف، وتهديد بالمُطاردة، وحتى القتل، أو التحرُّش وتشويه السُمعة، أو السُخرية والتحقير، أو نشر الشائعات، أو المُساومة والنصب، أو انتحال الشخصية، وإنشاء حسابات وهميَّة، ونحو ذلك من التصرُّفات والسلوكيَّات غير السويَّة، التي يتَعمَّد المُتنمِّر مُمارستها مع الآخرين.
ومن أهم التكتيكات التي يستخدِمها المُتنمِّرون إلكترونيا:
يدَّعون أنهم أشخاص يرغبون في مد يد المُساعدة إلى الآخرين، لكنهم ماكرون خدَّاعون.
ينشرون الأكاذيب والشائعات المُغرِضة عن الضحايا.
يُقدِّمون المُغريات الزائفة حتى تستدرج الضحيَّة، للكشف عن الهويَّة الشخصية.
يتعمَّدون إعادة توجيه الرسائل المُهينة.
ينشرون صور ضحاياهم دون موافقتهم.
وهنالك تداعيات وأخطار يتعرَّض لها الضحايا، فقد ينتاب الضحيَّة كثير من الاضطرابات العاطفية والنفسية، التي تتراوح بين الإحباط والغضب الشديد، لأسباب غير مفهومة من ذويه والمُقرَّبين منه. وتمتد هذه الاضطرابات إلى الشعور بالخوف الدائم والاكتئاب. كما ينتابه شعور بالاضطهاد قد يولَّد لديه رغبة قويَّة في الانتقام، وتنتابه حالة من التنمَّر يبدأ في ممارستها تجاه الآخرين بمن فيهم القريبون منه.
ومن العلامات القويَّة الدالة على ذلك تجنُّبه لأصدقاء كان قريباً منهم، وقريبين منه، وتجنُّب المُشاركة في الأنشطة، وقد يصل إلى حد ضرب الآخرين، لاسيما الأصغر والأضعف منه، دون سابق إنذار. ويتولَّد لدى الضحيَّة سلوك اللامُبالاة، حتى ولو تعاظمت الأمور، ويفقد الثِقة في نفسه، ويُصبح أقل تقديرًا لذاته. وتزداد لديه نزعة التفكير في الانتحار، فضلا عن مشكلات صحية تتمثل في عزوفه عن تناول الطعام، والإسراف في تناول الشاي والقهوة والمُنبِّهات، وقلة النوم، والشعور بالصُداع.
وإذا كان الضحية موظفاً أو عاملاً، فإن التداعيات السلبية تتمدد إلى مكان عمله، مما يؤثر في إنتاجيته. وكشفت دراسة بريطانية أن واحداً من كُل عشرة موظفين، في كل بريطانيا، يرون أن التنمر الإلكتروني يُعد مُشكِلة حقيقية تنعكس بالسلب على عملهم وتُقلل من حماستهم المهنية.
تفاعل مجتمعي
لايمكن للتوعية أن تؤتي ثمارها إلا إذا تشارك فيها كل الجهات ذات الصِلة والتأثير، بدءًا من الوالدين، وامتدادًا إلى المدرسة ووسائل الإعلام المُختلفة ومؤسسات وهيئات المُجتمع المدني، وصولا إلى الجهات الرسمية.
وأدركت بعض الدِول أهميَّة ذلك، فتوسَّعت في الأنشطة التوعوية الخاصة بمواجهة التنمر الإلكتروني. ففي بريطانيا وضِع ما يُعرف بـ «إرشادات أوفستد للسلامة الإلكترونية»، وتتضمن المناهج الحديثة، المُقررة في صفوف المراحل الأساسية من التعليم، دروساً تتعلَّق بالحد من هذه الظاهرة.
ومن نماذج السلوكيِّات الإيجابية في مواجهة الظاهرة، ابتكار مجموعة من الفِتية المُراهقين في ولاية كونيتيكت الأمريكية، من الذين سبق لهم التعرُّض للتنمُّر الإلكتروني، تطبيق للمُساعدة على كشف المُتنمِّرين حظي بانتشار واسع، وساهم في إنقاذ كثير من الضحايا، قبل استسلامهم للمُتنمِّرين.