Dr. Waheed Mohamed Mofaddal
خبير في المنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية، (الكويت)
توفر النظم الإيكولوجية البحرية والبحار والمحيطات للجنس البشري عددا كبيرا من الخدمات والحاجات الأساسية، مثل إمداده بالغذاء والمواد العلاجية، وإنتاج الأكسجين، وخفض التلوث، وغير ذلك مما لا يمكن تعويضه أو الاستغناء عنه.
غير أن فوائد البحار والمحيطات لا تقتصر على توفير الحاجات الأساسية أو على الفوائد الروحية والجمالية التي تقدمها لبني البشر، بل تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، وتحديدا إلى الجانب الاقتصادي؛ فتدعم الثروات البيولوجية والموارد الطبيعية الموجودة في البحار والمحيطات مهنا كثيرة، مثل الصيد ونشاطات الغوص والرياضات البحرية والسياحة والملاحة والشحن، وغيرها من النشاطات التي تسهم في دعم الاقتصاد ومحاربة الفقر ودعم استقرار المجتمعات البشرية.
ويعد استخراج الوقود الأحفوري والمعادن من البحار، والتعدين البحري، من أهم الموارد البحرية التي تسهم في تعزيز النمو الاقتصادي، وركيزة أساسية لما يعرف باسم “الاقتصاد الأزرق”، وهو الاقتصاد المرتكز على الانتفاع اقتصاديا بالثروات البحرية وخدمات النظم الإيكولوجية، من دون الإخلال بالتوازن البيئي، أو الإضرار بصحة وسلامة الموائل والنظم الإيكولوجية البحرية.
وقد زاد التوجه نحو التعدين البحري بصورة كبيرة في الآونة الأخيرة؛ بسبب نضوب بعض الثروات المعدنية في اليابسة وزيادة الطلب العالمي على المعادن، مما أدى إلى تسارع وتيرة البحث عن مكامن جديدة غير تقليدية لهذه الثروة بغية تلبية الطلب المتزايد عليها.
والواقع أن قيعان البحار والمحيطات تماثل اليابسة في الطبيعة الجيولوجية من حيث وجود سلاسل من الجبال والهضاب والقمم البركانية، وغيرها من التكوينات الأرضية التي نراها من حولنا ونعرفها. لذا فهي تحتوي على معظم المعادن التقليدية الكائنة في باطن الجبال، بل إن الثروات المعدنية الموجودة في سواحلها وقيعانها عادة ما تتميز بالوفرة وبقيمتها الاقتصادية الكبيرة.
وهذه الثروات توجد في البحار على جميع الأعماق تقريبا، وتأخذ أكثر من هيئة وشكل؛ فهي إما توجد مطمورة داخل الطبقات الصخرية على أعماق سحيقة تحت القاع مثل النفط والغاز، أو في شكل رسوبيات معدنية سطحية جاثية على القاع في الأعماق الكبيرة أو على هيئة رمال سوداء مترسبة في المناطق الضحلة القريبة من الشاطئ أو على الشواطئ والكثبان الساحلية المجاورة لها.
وإذا ما نحينا جانبا التنقيب عن النفط والغاز، وعن المعادن غير الاقتصادية المستخرجة من المستنقعات والبرك الساحلية، باعتبار أنهما من أكثر أنماط التعدين البحري شيوعا وسبق تناولهما في أكثر من موضع، فإنه قد يكون حري بنا تسليط الضوء على مصادر التعدين البحري الأخرى، وعلى أهم الثروات المعدنية المستخرجة منها.
الرمال الشاطئية السوداء
تنفرد بعض الشواطئ لاسيما في المناطق الساحلية الواقعة قبالة الجبال أو مصبات الأنهار الكبرى بمظهر مختلف ومتفرد جدا، يتمثل في تحول لونها إلى الأسود اللامع خلافا لبقية الشواطئ التقليدية، مما قد يفسره البعض خطأ على أنه نتاج تلوث أو اختلاط رمال الشاطئ بالنفط أو ما شابه. لكن مع التدقيق في الأمر سيتضح أن الشاطئ يتكون في الواقع من حبات رمل ثقيلة وسوداء ليس إلا. وهذا يعزى إلى وجود ما يعرف باسم المعادن الثقيلة Heavy Minerals بتراكيز عالية في هذه الرمال وترسبها بكميات كبيرة على الشاطئ من مصادر خارجية، بفعل عوامل النقل المختلفة.
والمعادن الثقيلة تتكون من مجموعة كبيرة من المعادن ذات الكثافة النوعية العالية، وتحديدا تلك التي تزيد كثافتها النوعية على 2.89 غرام/سم3، مثل معادن الزيركون والغارنت والألمنيت والماغنتيت والروتيل والمونازيت، التي عادة ما تكون غنية بأكاسيد الحديد والتيتانيوم والزركونيوم والعناصر الأرضية النادرة، فضلا عن الذهب الذي تصل كثافته النوعية إلى 18 غرام/سم3. ومن هنا أطلق على هذه النوعية من المعادن اسم”المعادن الثقيلة”، وما دون ذلك اسم “المعادن الخفيفة”، وأشهرها الكوارتز والفلسبارات.
وتتميز معظم المعادن المكونة لمجموعة المعادن الثقيلة بلونها الأسود أو الأحمر القاتم، لذا فإن انتشار هذه المعادن بكميات كبيرة وتراكيز عالية في رمال الشواطئ وضفاف الأنهار عادة ما يكسبها لونا أسود قاتما، وهذا هو السبب في ظهور رمال بعض الشواطئ بهذا المظهر وتسميتها باسم “الرمال السوداء”.
وتنشأ الرمال السوداء في الأساس نتيجة عمليات التجوية الطبيعية التي تعري وتفتت المعادن الموجودة ضمن الهضاب وصخور المصدر القاعدية، ثم تقوم عوامل النقل المختلفة مثل الرياح والتيارات المائية النهرية بنقلها إلى مسافات بعيدة جدا من موضعها الأصلي في تلك الجبال إلى أماكن ترسيبية جديدة، لتستقر في النهاية على ضفاف الشواطئ وأمام سواحل الدلتات وعند المصبات النهرية وغيرها.
وعند وصول هذه المعادن إلى مصبات الأنهار والسواحل البحرية، تفرزها الأمواج والتيارات الساحلية وأحيانا الرياح، وتصنفها طبيعيا وفقا لثقلها وكثافتها النوعية، كما تعيد نقلها وترسيبها إلى أماكن ساحلية جديدة، حيث تترسب المعادن الثقيلة على ضفاف الشواطئ، في حين تنقل أنواع المعادن الأخرى الخفيفة مع الأمواج المرتدة إلى داخل البحر.
وتتميز الرمال السوداء بقيمة اقتصادية وتعدينية كبيرة، بسبب ثرائها بالمعادن الاقتصادية والعناصر المعدنية النادرة. وعلى سبيل المثال فإن معدن الألمنيت يعد مصدراً لإنتاج معدن التيتانيوم الذي يستخدم في صناعة هياكل الطائرات والصواريخ، كما يعد معدن الماغنتيت مصدرا لخامات الحديد، في حين يستغل الروتيل كخام أساسي في صناعة البويات والأصباغ ومواد اللحام، ويستغل الزيركون في عمليات تزجيج السيراميك، والغارنت في صناعة مواد الصنفرة، أما المونازيت فيحتوي على بعض العناصر الأرضية النادرة التي تستخدم على نطاق واسع في صناعة الإلكترونيات، كما يعد مصدرا لعنصر الثوريوم المشع.
وتعتبر مصر والسعودية واليمن وسلطنة عمان والمغرب أكثر الدول العربية ثراء بالرمال السوداء، حيث يتكرر ظهور رواسب هذه الرمال في عدة مناطق ساحلية من البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وخليج عمان وبحر العرب، وإن حظيت مصر بكميات وافرة من هذه الرمال، لاسيما على شواطئ الدلتا.
وفضلا عن رمال الشواطئ السوداء المتاخمة للجبال أو القريبة من مصبات الأنهار، فإن المعادن الاقتصادية الثقيلة قد توجد بكثافة وبتراكيز عالية مختلطة، سواء مع رمال الكثبان الرملية الساحلية القريبة من الشواطئ أم مع الرواسب الرملية البحرية الموجودة على القاع في المناطق المائية الضحلة نسبيا داخل البحار.
العقد والمركبات متعددة المعادن
بعيدا عن الرمال السوداء والمناطق المائية الضحلة فإن المعادن قد توجد على القاع وفي أعماق البحار في أكثر من هيئة وشكل. وبصفة عامة فإن المعادن الاقتصادية الموجودة في قيعان البحار والمحيطات يمكن تقسيمها من حيث نمط تكونها والأعماق التي توجد عليها إلى نوعين رئيسيين: النوع الأول يضم الكبريتيدات عديدة المعادن الغنية بالمعادن الفلزية الثمينة مثل النحاس والزنك والذهب والفضة، وهي عادة ما توجد في هيئة رواسب حول المنافذ المائية الحارة Hydrothermal Vents والمداخن السوداء Black Smokers الكثيرة المنتشرة في قاع المحيط.
وهذه المركبات تتكون عندما تندفع المواد البركانية الغنية بالمركبات الكبريتية والمعدنية الثمينة من المنافذ المائية الحارة والمداخن القاعية إلى الخارج، ولدى ملامسة هذه المواد للمياه الأقل في درجة الحرارة تتكثف وتترسب في صورة مركبات كبريتية غنية بمعادن الزنك والنحاس والفضة والذهب والرصاص، وبقدر يزيد بأكثر من عشرة أضعاف عن الرسوبيات المماثلة الموجودة على اليابسة. وتوجد هذه المركبات على أعماق كبيرة تبلغ 3000 متر، بالقرب من الشقوق الطولية الموجودة في الأجزاء الوسطى من معظم المحيطات وأماكن تصادم الطبقات التكتونية والأقواس البركانية.
أما النوع الثاني من الرواسب المعدنية البحرية فيضم المعادن المتشكلة في هيئة عقد أو كريات صغيرة في حجم حبة البطاطا ملتصقة مع بعضها بعضا، وهي تسمى بالعقد متعددة المعادن Polymetallic Nodules، وإن كان أكثرها انتشارا وشيوعا عقد الحديد والمنغنيز Ferromanganese Nodules. وهذه يمكن أن توجد على أعماق كبيرة تتراوح بين 400 إلى 5000 متر تحت سطح الماء.
وتحتوي الكريات عديدة المعادن على مجموعة متنوعة من المعادن، وليس فقط المنغنيز والحديد، مثل النحاس والنيكل والكوبالت والرصاص والزنك، فضلا عن تراكيز صغيرة لكنها مهمة من الموليبدينيوم والليثيوم والتيتانيوم والنيوبيوم وعناصر معدنية أخرى. وهي عادة ما توجد على أعماق كبيرة تتراوح بين 3500 و5500 متر في شرقي المحيط الهادي والجزء الأوسط من المحيط الهندي، والمناطق الاقتصادية الخالصة لجزر كوك وكيريباتي وبولينيزيا الفرنسية.
رواسب الأغوار فائقة الملوحة
تمثل الأغوار الحارة فائقة الملوحةHot Brines Deeps الموجودة في قيعان بعض البحار، لاسيما في الأماكن القريبة من الشقوق البركانية في وسط المحيطات، حالة خاصة وظاهرة بحرية فريدة ومهمة في الوقت نفسه؛ نظرا إلى ندرتها ودورها في إنتاج العناصر المعدنية النادرة والمهمة اقتصاديا.
وهذه الأغوار توجد على أعماق كبيرة تحت سطح البحار، وتتشكل في هيئة بحيرات قاعية ساخنة قد تصل درجة حرارة المياه فيها إلى 60 درجة سيليزية، ونسبة الملوحة إلى عشرة أضعاف درجة الملوحة العادية.
كما تتميز هذه الأغوار بغناها بالعناصر المعدنية الثقيلة لاسيما الحديد والمنغنيز والنحاس والزنك، حيث تصل تراكيز هذه العناصر إلى 1000 ضعف التراكيز المعروفة في بقية البحار والمحيطات الأخرى، وهو ما يعكس غنى رسوبيات القاع الموجودة في هذه الأغوار بالمحتوي المعدني نفسه.
وعلى الرغم من وجود هذه الأغوار في أكثر من موقع عبر بحار العالم ومحيطاته، فإن الأغوار الموجودة في منتصف البحر الأحمر لا يوجد لها مثيل، نظرا لثرائها اللافت بالمحتوى المعدني وارتفاع ملوحتها بشكل فائق.
وتوجد أغوار البحر الأحمر فائقة الملوحة في أكثر من موقع على أعماق سحيقة ما بين 1000 إلى 2000 متر بطول البحر من الشمال إلى الجنوب، لكن أشهر هذه الأغوار وأكثرها ثراء بالرواسب المعدنية هي الأغوار الموجودة في الجزء الأوسط المركزي، لاسيما تلك المعروفة باسم ديسكفري وأتلانتيس وتشين، وجميعها تقع في المياه البحرية الإقليمية المشتركة بين حدود السعودية والسودان، لذا فإن حق استغلالها الاقتصادي – وفقا لقانون البحار الدولي – يقتصر على هاتين الدولتين.
ويعد أتلانتيس أشهر هذه الأغوار؛ نظرا لامتداده على مساحة كبيرة تبلغ نحو 60 كيلومترا مربعا، ونظرا إلى تميزه عن باقي الأغوار من حيث حجم المحتوى المعدني وأنواع المعادن الموجودة فيه. وتظهر نتائج الدراسات أن رواسب هذا الغور تحتوي على كميات كبيرة من الخامات والمعادن الفلزية تقدر بنحو 97 مليون طن، تبلغ قيمتها السوقية نحو 2.5 بليون دولار، وهذا إذا ما تم استخراج هذه الرواسب والاستفادة منها اقتصاديا.
ونظرا إلى ثراء هذه الأغوار بالمحتوى المعدني وإمكاناتها الاقتصادية الواعدة، فقد اتفقت كل من السعودية والسودان في عام 1974 على إنشاء ما يعرف باسم (الهيئة السعودية السودانية لاستغلال ثروات البحر الأحمر)، بهدف التعاون والتنسيق المشترك من أجل استغلال الثروة المعدنية الكامنة في تلك الأغوار.
وأثمرت جهود هذه الهيئة إصدار أول رخصة تعدين في عام 2010 لاستغلال الثروات الفلزية الكامنة من ذهب وفضة ونحاس وزنك وغيرها من المعادن الموجودة في منطقة غور أتلانتيس. ولا يتبقى بعد هذا سوى بدء عجلة استخراج وإنتاج هذه المعادن، ومن ثم استغلالها على النحو الأمثل في التطبيقات الصناعية المختلفة.