د. علي الأكلبي
أكاديمي في جامعة الملك سعود (السعودية)
تتضح العلاقة بين اقتصاد المعرفة من جهة وإدارة المعرفة من جهة أخرى، التي تؤدي في نهاية الأمر إلى التنمية المستدامة، من خلال ما يشهده العالم من تحولات متسارعة تعتمد على مستجدات التقنية والبيئة الرقمية. ويتأثر بهذه التحولات النظام الاقتصادي على مستوى العالم حيث لم يعد التركيز على قواعده القديمة المعتمدة بشكل كلي على زيادة المصادر المادية الملموسة والإنتاج الكمي، بل تحولت المعادلة بدلا من ذلك إلى ما صار يعرف بالاقتصاد المعرفي، وهو اقتصاد غير مادي، يعتمد على رأس المال الفكري ويركز على خبرات البشر وعقولهم وتجاربهم، ويسعى إلى حيازتها وتنظيمها وتحليلها وإعادة مشاركتها وتنميتها لتحقق الميزة التنافسية لقطاع الأعمال، ومن ثم تحقيق التنمية المستدامة.
وساهمت الثورة الصناعية الرابعة في تسريع وتيرة التحول الرقمي الذي يأتي في طليعة تطبيقاته ما يعرف بالذكاء الاصطناعي، حيث تحمل تلك الثورة في طياتها أوجها جديدة ومتطورة تعتمد كليا على تحليل البيانات والمعلومات وحيازة المعرفة وتوظيفها في قطاع الأعمال بواسطة الذكاء الاصطناعي، والإنترنت، وإنترنت الأشياء في البيئة الرقمية في مختلف مناحي الحياة.
البيئة الرقمية
إذا كان العصر الصناعي الرئيسي الرابع، منذ الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وما تلاه من ثورات حتى هذه المرحلة، يعتمد على البيئة الرقمية في مجالات عدة، مثل الحوسبة الكمومية وتقنية النانو والمركبات المستقلة والذكاء الاصطناعي والروبوتات، فإن هذه المرحلة تؤذن بشكل جديد من الاقتصاد المبني على المعرفة، الذي أضحت ملامحه الأبرز تعتمد على رأس مال فكري تقوده إدارة المعرفة.
وإذا كان مفهوم قطاع الأعمال يرتبط بالمؤسسات والشركات وذلك النوع من المنظمات المرتبط وجودها بالإنتاج، أو التي تركز على الاستثمار الذي يهدف إلى الربح، فإنها بحاجة ماسة للاقتصاد القائم على المعرفة الذي يستثمر في المعارف بشكل عام، والمعرفة الضمنية على وجه التحديد باعتبارها الأكثر أهمية والأغلى ثمنا، والتي يتطلب تحصيلها جهودا مضنية من التنقيب في عقول الخبراء وأصحاب التجارب والموهوبين.
وإذا كانت رحلة الإنتاج تمر بمراحل ضرورية لاكتمال مسيرتها، فإن الاقتصاد المعرفي صار قادرا على المساهمة في تقديم نماذج أولية وتجارب دقيقة فيما يعرف بمعامل المحاكاة، ومن ضمنها عمليات النمذجة التي تساعد كثيرا على إيجاد المعرفة اللازمة للوصول إلى التصنيع المثالي بجهد أقل وتكلفة منخفضة وبجودة أعلى في زمن وجيز.
Digital Transformation
يعتبر التحول الرقمي (التحول للتصنيع الآلي) من أهم ممكّنات اقتصاد المعرفة التي تساعد إدارة المعرفة على نجاحه بكفاءة متناهية، لذا فإن الخبراء بما يكتنزونه في عقولهم من تجارب وخبرات معرفية يعتبرون بمثابة مستودعات معرفية مهدرة، ومعظمهم غادروا أعمالهم دون أن تتم حيازة ما لديهم من معارف ضمنية يمكن أن تساهم في الاستثمار المعرفي والعناية برأس المال الفكري.
إن العناية بإدارة المعرفة جعلت الكثير من الدول التي ليس لديها موارد طبيعية تقفز إلى الصف الأول بين دول العالم المتقدم، ومنها على سبيل المثال اليابان وكوريا وألمانيا، التي احتلت مواقع مهمة في قائمة المجتمعات المتقدمة وفق معطيات التقدم العلمي المعرفي والتنمية المستدامة بالاعتماد على المعرفة.
وإذا كانت إدارة المعرفة على قدر كبير من الأهمية خصوصاً عندما تستخدم في استثمار الخبرات والإفادة منها في اكتساب الميزة التنافسية وتحقيق مستويات عالية تقاس في بيئة المعلومات بمقدار الربح المتحقق والاستثمار ومدى مشاركة المعرفة، فإن ذلك يتطلب توفير أدوات مناسبة لتفعيلها في اقتصاد المعرفة بأيدي اختصاصيين مؤهلين لهذا المجال من الأعمال النوعية. وهذا يؤكد على أن المعرفة تعني إعادة استخدام البيانات والمعلومات بناءً على فهمها، ومن ثم مزجها بالخبرة والتجربة لتكون سلوكاً يمكن تطبيقه وممارسته في الواقع العملي.
المعرفة الإنتاجية وإنتاجية المعرفة
تظهر قيمة استدامة رأس المال الفكري واقتصاد المعرفة من خلال إدراك وتبني مفهومي المعرفة الإنتاجية وإنتاجية المعرفة اللذين يشكلان حجر الزاوية في اقتصاد المعرفة، عبر قيام إدارة المعرفة بمشاركة وتقاسم المعرفة التي جُمعت وبوِّبت لكي تكون قيمة تضاف إلى اقتصاد قطاع الأعمال، ومن ثم تطوير عمليات الإنتاج وزيادة المنتجات بناء على تلك المعارف والخبرات التي مكنت قطاع الأعمال من تحقيق الميزة التنافسية وجعلته قادرا على إنتاج المزيد من المعرفة عبر ما يتم من تجارب وأفكار وإبداعات أثناء عمليات التصنيع والإنتاج والتسويق والتوزيع.
وهذا يعني إضافة رافد قوي ورصيد معرفي متجدد ومحقق للتنمية المستدامة اقتصاديا وتعليميا وصحيا وأمنيا، إضافة إلى عدد كبير من الآثار الإيجابية في بقية مناحي الحياة ومسارات التنمية المستدامة على مستوى الأوطان، لاسيما ونحن نعبر مرحلة الثورة الصناعية الرابعة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تعتمد على البيانات الضخمة كوقود وطاقة تشغيل لها، وعلاقة ذلك بإدارة المشاريع وتطوير المنظمات.
ومما لا شك فيه أن لدى اقتصاد المعرفة قدرة على توظيف إدارات المعرفة للمساعدة على التخطيط الجيد وتحديد أهداف التنمية المستدامة، يليها وضع الأولويات بناء على تقييم الواقع ومعرفة عناصر القوة والضعف والفرص والتحديات ومخزون المنظمات المعرفي والفكري الذي يعد من أهم الممكنات الاقتصادية في وقتنا الحاضر.
وتعتبر معامل المحاكاة وعمليات النمذجة وورش العمل والزيارات التبادلية للموظفين من أهم مجالات توليد الأفكار والمعرفة التي تعمل إدارة المعرفة من خلالها على تطوير قدرات الفريق واستكشاف مهاراتهم وحيازة معارفهم وإعادة استخدامها في قطاع الأعمال.
وفي هذه الحال ينبغي توفير متطلبات الثورة الصناعية الرابعة، وتجهيز البنى التحتية والتوسع في استخدام التقنية بالقدر الكافي لنجاح اقتصاد المعرفة، الذي تأثر بمسرعات التحول الرقمي باعتباره من أهم مقومات ومحفزات النمو لتطوير الخدمات وتحسينها وتسهيل وصولها إلى العملاء.
غايات إدارة المعرفة
تتحقق غايات إدارة المعرفة في ما بات يعرف حاليا بالاقتصاد المعرفي في تمكين قطاع الأعمال من خدمة أفضل للعملاء، بناء على ما تم معرفته عنهم وما توافر من معلومات ومعرفة بعد تحليل البيانات، ومن ثم اكتشاف مكامن الخلل وتحسين عمليات الإنتاج والتشغيل، واكتساب مزايا تنافسية في السوق، وذلك عبر القدرة على صناعة قرارات واضحة وصحيحة، وزيادة القدرة على التنبؤ لدى المخططين في المنظمات.
وهذا هو الاستثمار الأمثل للمعلومات والبيانات الذي يعتمد على توظيف مهارات الأفراد وقدراتهم وأفكارهم من المعرفة، المتولدة من المعلومات الممزوجة بالخبرة والتجربة. وهي أمور لا تتأتى بشكل عشوائي بل عبر جهد منظم وموجه من قبل مؤسسات قطاع الأعمال لكي تتمكن من إيجاد المعرفة والتقاطها وحيازتها، وبعد ذلك يعمل فريق المعرفة على هيكلتها وتنظيمها وإتاحتها للمشاركة والاسترجاع بما يساهم في مساندة متخذي القرار وتحقيق التنمية المستدامة.
خلاصة الأمر أن اقتصاد المعرفة قائم على إدارة المعرفة التي ستكون نتيجتها تحقيق التنمية المستدامة إذا استطاعت التعرف على ما لدى الأفراد، سواء أكانوا موظفين أم مستشارين أم مستفيدين، من معارف ضمنية تتكون من تجارب وخبرات وأفكار، ومزج ذلك كله بالمعرفة الظاهرة في السجلات والوثـائق، وامتلاك تلك المعارف وتخزينها وفق منهجية تنظيم تجعلها قابلة للبحث والاسترجاع والاستفادة منها واستخدامها والمشاركة فيها بين منسوبي المؤسسة بمـا يحقـق رفـع مستوى الأداء وإنجاح العمل بأفضل الأساليب، وأقل التكاليف، وهو ما يعرف باستثمار رأس المال الفكري، وتحويله إلى قوة إنتاجية وقيمة مضافة تسهم في تنمية أداء الموظفين، ورفع كفاءة المؤسسة.