قوة النمل أسرار وعجائب
داود سليمان الشراد
على الرغم من صغر حجمه؛ فإنَّ النمل يبدو مثل بطل رفع أثقال أولمبي، فهو يعمل بلا كلل ولا ملل، في نقل أجسام تفوق وزنه كثيراً، ولا سيما في نقل الغذاء، أو بناء المساكن. ولعل ذلك ما أدهش العلماء ودفعهم إلى دراسة عالم النمل للتعرف إلى ماهية قدراته الفائقة، ومن ثم الإفادة منها في عدد كبير من مجالات الحياة البشرية ونشاطاتها.
النمل من الحشرات التي تعيش تحت التربة، وفي جماعات منظمة، ولذلك يعرف بالحشرات الاجتماعية، ويعتبر ثاني أكبر الجماعات الحشرية من حيث التطور في السلوك الاجتماعي. ويعيش النمل في مستعمرات تتكون من دهاليز وأنفاق، تمتد أحياناً لعدة أمتار تحت سطح الأرض. وقد تحتوي المستعمرة على 12 فرداً، أو مئات، أو آلاف، أو ملايين الأفراد.
وفي كل مستعمرة ملكة واحدة، أو عدة ملكات. ومعظم أعضاء المستعمرة شغالات (عاملات)، وهي إناث مثل الملكة تقوم ببناء العش والبحث عن الغذاء ورعاية الصغار، ومحاربة الأعداء. وتوجد الذكور في الأعشاش في فترات محددة، ويكون عملها هو تلقيح الملكات المكتملات النمو، وتلقى حتفها بعد ذلك مباشرة.
ينتشر النمل في كل بقعة على الأرض، عدا المناطق الشديدة البرودة من العالم. وهو منتشر بكثرة في المناطق ذات الطقس الدافئ. ويبني عدة نماذج من الأعشاش، ويعيش بعض أنواعه في أنفاق تحت الأرض، ويعيش الآخر في ربوات ترابية كبيرة، وتسكن بعض أنواعه داخل الأشجار أو في أجزاء بعض النباتات المجوفة. ويبني عدد منه أعشاشه من أوراق الأشجار، لكن بعض أنواعه المحاربة ليس لها بيوت دائمة.
النمل والأعشاش
يبني نمل الخشب – الأسود أو البني– أعشاشه داخل جذوع الشجر وفروعه، أو حتى داخل القوائم الخشبية للمنازل. وهو على عكس النمل الأبيض؛ لا يأكل الخشب، بل يحفر فيه بفكوكه أنفاقاً يعيش فيها فقط. وتصنع أنواع كثيرة بيوتها في كتل الأخشاب المتعفنة، أو تحت الأشجار، أو في تجاويف بين أوراق نباتات معينة. وبعض الأنواع تصنع ألياف النباتات، ثم تستخدم مادتها في بناء أعشاشها بما يشبه الورق المقوى.
وتتباين أعشاش النمل كثيراً في الحجم، فبعضها يسكن أعشاشاً تحوي حجرة واحدة فقط لا تزيد على حجم الإصبع، وهذا العش قد يشتمل على 12 نملة كحد أدنى، و300 نملة كحد أقصى. لكن بعض أنواع النمل المداري تبني أعشاشاً قد تمتد إلى 12 متراً تحت الأرض. وقد يضم العش أكثر من عشرة ملايين نملة، بل إن بعض أنواع النمل الأوروبية والأمريكية الشمالية تبني أعشاشاً تتكون من 12 تلة أو أكثر من التلال الكبيرة المتصلة بأنفاق تحت الأرض. وقد تغطي تلك التلال مساحة كبيرة، وربما يبلغ ارتفاع بعض تلك التلال أكثر من متر، وقد يعيش فيها وفي الغرف المحفورة تحت الأرض ملايين النمل.
أجسام النمل
تتباين كل من الملكات والشغالات والذكور في الحجم في معظم أنواع النمل. ففي حالات كثيرة تكون الملكات أكبر بعدة مرات من الشغالات، أما الذكور فهي تفوق الشغالات وأصغر من الملكات. وتمثل الشغالات الضخمة الجنود، وقد يكون رأسها أكبر مما لدى الشغالات الأخريات.
وللنمل غلاف صلب يسمى الهيكل الخارجي، يعمل على حماية الأعضاء الداخلية، وتتصل عضلات الجسم بالجدران الداخلية للهيكل الخارجي. وللحشرة ثلاثة أزواج في الأرجل، وكل رجل بها تسع عقل متصلة بمفاصل حركية، وللقدم في كل رجل مخلبان معقوفان، وعند المشي تنغرز المخالب في السطح، فتتمكن بذلك من صعود الأشجار والمشي على السطوح السفلية للفروع والأوراق. ويستخدم كثير منها مخالب الأرجل الأمامية في حفر التربة أو شق أنفاق تحت الأرض. وعلى الرغم من ضآلة حجم النملة فهي قوية لدرجة عجيبة، فمعظم النمل يستطيع نقل أجسام أثقل من وزنه بعشرات المرات، بل إن بعضها يمكنه رفع أجسام تفوق وزن جسمه بصورة كبيرة جداً.
الحياة في المستعمرات
يختلف النمل كثيراً في طرق معيشته، وينقسم أفراد جميع مستعمرات النمل تقريباً إلى ثلاث طبقات هي: الملكة والشغالات والذكور. وفي معظم الأحوال تبدأ الملكة اليافعة في تكوين مستعمرة جديدة بعد التزاوج مع واحد أو أكثر من الذكور، حيث تستمر في وضع البيض بقية حياتها بعد إنشاء المستعمرة. وهي لا تحكم المستعمرة، لكن الشغالات تقوم بإطعامها والعناية بها مثل العناية بنفسها. وتكون في بعض المستعمرات ملكة واحدة، لكن بعضها الآخر قد يحتوي على عدة ملكات.
وتقوم الشغالات بالإضافة الى رعاية الملكة بتوسيع العش وإصلاحه والدفاع عنه، والعناية بالصغار وجمع الغذاء. وقد تستمر في عمل واحد طوال حياتها، أو قد تغير عملها من وقت إلى آخر. أما الذكور فلا عمل لهم في المستعمرة، ويعيشون لفترة قصيرة، ومهمتهم الوحيدة هي تلقيح الملكات. وتتفاوت الشغالات في الحجم والشكل باختلاف كثير من أنواع النمل، فتكون أكبرها في بعض الأنواع هي الجنود ولها رأس كبير، وفكان أماميان قويان. وفي بعضها الآخر يقتصر عملهم على الدفاع عن المستعمرة، وفي أنواع أخرى لا يكون لهم أي عمل محدد.
أساليب الدفاع
يقع النمل فريسة لكل من: آكلات النمل والعناكب والضفادع والسحالي والطيور وأنواع متعددة من الحشرات. وينشأ في معظم الحالات عداء بين النمل من مستعمرات مختلفة. وتحمي المجموعات نفسها ضد أعدائها باللسع أو العض أو تنثر عليها حمض النمليك، أو الفورميك Formic Acid، ومواد كيميائية طاردة أخرى.
ويملك نصف أنواع النمل تقريباً أعضاء للسع، حيث يمتلك النمل الناري، والنمل الثور أعضاء لسع تثقب الجلد وتحقن سماً مؤلماً. وهنالك أعضاء لسع معينة يمكنها اختراق أي جلد سميك، أو قوي. ويستطيع بعض النمل الذي لا يملك أعضاء لسع أن ينثر السم في طرف الجزء المعدي.
ويعتبر النمل مفيداً وضاراً للمزارعين في آن واحد، فقد يساعد النمل على قتل الحشرات التي تتلف المحاصيل، وحفر الأعشاش تحت الأرض لتحسين التربة. ويعتبر كثير من أنواع النمل آفات منزلية، إذ يهاجم نمل الخشب المنازل المشيدة من الأخشاب، وذلك بحفر أنفاق في دعائمها الخشبية، في حين يسطو النمل الفرعوني والنمل السارق على الأغذية المخزنة.
البحث في سر قوة النمل
درس فريق من المهندسين في جامعة ولاية أوهايو الأمريكية العلاقة القائمة بين الوظيفة الميكانيكية (الحركية)، والتصميم البنيوي، وخصائص المواد لدى نمل (أليغيني) Allegheny من نوع Formica Exsectoides، الذي يمتلك قدرة على صناعة دهاليز وأنفاق تمتد لنحو متر واحد، كما يمكنه تكديس تراب الحفر لعمل ربوة ترابية.
وركزت الدراسة على عنق النملة، أي المفصل الوحيد المصنوع من نسيج لين، وهو الذي يصل بين الهيكل العظمي الخارجي والصلب في رأس النملة والقفص الصدري. وأظهرت أن مفصل العنق عند النمل قد يتحمل ثقلاً أعلى من وزن النملة بخمسة آلاف مرة. في السابق، كان النمل يصور وهو يحمل طيوراً صغيرة نافقة، لذا أشارت التقديرات إلى أنه يستطيع حمل ثقل أعلى من وزنه بألف مرة. لكن الأرقام الجديدة فاجأت الباحثين أنفسهم.وقد توقعوا أن يتمكن النمل من تحمل ثقل أعلى من وزنه بألف مرة، لذا فكروا بالبدء من هذه النقطة.
في البداية، لم يظن أحد أن هذا النمل لديه أي إمكانات ضخمة لكنه فاجأ الجميع.
وذكرت الدراسة أن النملة ترفع الحمولة بمحيط الفم وتنقلها إلى مفصل العنق وصولاً إلى القفص الصدري، ثم توزعها على السيقان الست والكاحل الذي يشكل قاعدة الدعم. واستكشفت الدراسة أيضاً آليات وظيفة القدم، والعلاقة بين الوظيفة الميكانيكية والتصميم البنيوي وخصائص المواد لدى النمل. ولمعرفة ذلك شمل اختبار قوة النمل تدابير خاصة، فعمد العلماء على تخدير نمل من رتبة غشائي الأجنحة Hymenoptera ثم ألصقوا رؤوسه بجهاز طرد مركزي بحجم قرص صغير. وحين راح القرص يدور بسرعة متزايدة، زادت القوى المحسوبة المفروضة على النمل إلى أن تشوهت أعناق الحشرات وانفصلت رؤوسها عن أجسامها في مفصل العنق الضئيل. وتموضع حاجز زجاجي حول جهاز الطرد المركزي لحماية الدارسين لأن أجسام النمل كانت تطير في لحظة التمزق. لقد تمزقت أعناق النمل حين فرض الجهاز ثقلاً أعلى من متوسط وزن الجسم بـ3400 إلى خمسة آلاف مرة.
وأظهرت دراسات الطرد المركزي الرسم السطحي المحسوب لإعادة بناء نموذج ثلاثي الأبعاد من مفصل عنق النمل، أن سطح عنق النمل له بنية مجهرية من الطيات والنتوءات تساعد النمل على رفع حمولات أكبر، وتبين أيضاً أن بنية مفصل العنق تتمتع بأقصى قوة ممكنة، حينما يكون رأسها مستقيماً، لكن تلك القوى تتراجع عند الالتفات نحو الجانب الآخر.
وكشفت الدراسة عن تركز الضغط الذي يؤدي إلى ضعف العنق ويحدد طبيعة الواجهة خلال نقل الحمولة من العنق إلى الرأس باعتبارها منطقة ضعف.
ويعتبر تصميم هذه الواجهة وبنيتها من العوامل الحاسمة بالنسبة إلى أداء مفصل العنق. والواجهة الوحيدة بين المواد اللينة والصلبة تقوي على الأرجح درجة الالتصاق، وقد تكون البنية الأساسية التي تعزز قدرة مفصل العنق على رفع الحمولات الثقيلة.
ولفهم قدرة تحمل عنق النملة وحدودها القصوى بطريقة أفضل، هندس الباحثون التصاميم الميكانيكية الحيوية بصورة معاكسة عبر تطوير نماذج ثلاثية الأبعاد لتركيبة النمل الداخلية والخارجية. ثم تم ابتكار النماذج عبر تنزيل صور مقطعية بالأشعة السينية لنماذج النمل على برنامج نمذجة ScanIPbFE يجمع الأجزاء ويحولها إلى نموذج متداخل فيه أكثر من 6.5 مليون عنصر.
ثم جرى تحميل النموذج في برنامج تحليل العناصر المحدودة (Abaqus)، وهو تطبيق ينتج تجارب محاكاة دقيقة للقوى والتصاميم الهندسية المعقدة. وأظهرت تجارب المحاكاة قوة المفصل الاتجاهية. وتماشياً مع نتائج التجارب، أشارت الاختبارات إلى أن مرحلة الضعف الحاسمة في مفصل العنق تحصل عند نقل الحمولة من العنق إلى الرأس حيث يلتقي الغشاء اللين بالهيكل الخارجي الصلب.
رفع الأوزان الكبيرة
وذكرت دراسة أخرى أن رفع أوزان كبيرة يطرح مشكلة لأسباب عدة، منها قوة العضلات والصلابة الهيكلية والتوازن، وأن قوة العضلات ليست مشكلة بصورة عامة، إذ تكون تلك القوة عند الحيوانات الأصغر حجماً متوازنة مع وزن الجسم مقارنة بالحيوانات الأكبر حجماً، ومع ذلك، تنشأ مشكلة كبرى لإقامة توازن بين الأثقال. أولاً، يجب أن يقيم النمل توازناً مع الحمولات عند رفعها عن الأرض، وهي مسألة شائكة إذا كانت الأجسام غريبة الشكل أو ثقيلة. ثم يجب إقامة توازن عند رفع الجسم فوق الرأس أثناء السير، وهي مهمة شائكة أيضاً لتجنب السقوط.
وأشارت دراسة أخرى إلى أن مفصل عنق النملة عبارة عن نظام ميكانيكي معقد ومتكامل جداً. وأن الجهود الرامية إلى فهم العلاقة بين البنية والوظيفة ضمن هذا النظام ستساهم في استكشاف نماذج التصميم لإنشاء أفضل الآليات في الهيكل العظمي، وأنه حين نتطلع إلى مستقبل الأجهزة المساعدة للبشر والإنسالات الخفيفة، يبدو لنا أن تطوير نماذج ثلاثية الأبعاد للتحليل البصري والمحاكاة الحركية سيساهم في توفير أدوات تسمح بتقييم التشكل الوظيفي لمختلف أنواع المفاصل وبإقامة مقارنة بينها. >