Dr. Sakir Basma Ji
باحث في التراث العلمي العربي
بقدر ما كان الإنسان القديم حريصا على التفنن في أساليب توليد النار للاستفادة منها في التدفئة والحماية من الوحوش الضارية التي كانت تتربص به، فقد كان عقله يحتار في كيفية وقاية نفسه من تلك النار أيضاً، لأنها إذا وصلت إلى ثيابه أو أثاث منزله أو غابته فستحرقها ولا تتركها إلا رماداً. لذلك لن نبالغ إذا ذكرنا أن الإنسان سعى منذ معرفته بالنار إلى الحصول على المواد التي تحميه منها وتقيه من شرّها المستطير.
وأسهم العلماء العرب عبر عقود عدة، من خلال تطور المعارف لديهم، في التوصل إلى عدد من المواد غير القابلة للاحتراق، واستخدامها في مجالات عدة، وتوظيفها بنجاح في السلم والحرب، والصناعة والزينة، وغير ذلك.
حماية الورق
تذكر المراجع أن جابر بن حيان (توفي 200هـ/ 813م) توصل إلى صنع نوعٍ من الورق الذي لا يحترق بلهيب النار، وقد فعل ذلك نزولاً عند رغبة أستاذ له ألّف كتابا وأراد نسخه ونشره على ورقٍ لا يحترق، وقد نجح جابر في التوصل إلى تركيبة كيميائية شرّبها للورق، ثم ألقى بالكتاب في النار فلم يحترق.
وربما تكون هي الخلطة أو ما يشبهها التي استخدمها الصليبيون لاحقاً في طلاء أبراجهم الخشبية التي بلغ طولها 32.4 متر عندما كانوا يحاصرون عكا، كما ذكر ذلك المؤرخ ابن الأثير في حوادث سنة 586هـ/ 1196م، لكن أحد الكيميائيين الدمشقيين، مجهول الهوية، تمكن من إيجاد المادة المضادة لها، وبذلك أحرقوا تلك الأبراج وتمكنوا من تخليص عكا من الحصار. وحاول صلاح الدين الأيوبي مكافأة ذلك الكيميائي بمبلغ كبير لكنه لم يقبل منه أي شيء، وقال له: “إنما عملته لله تعالى ولا أريد الجزاء إلا منه”.
الوقاية من النار الإغريقية
ذكر المؤرخ القبطي ساويرس بن المقفع (توفي 987م) أنه عندما كان عبد الملك بن موسى بن نصير والياً على مصر كان هناك رجل شرير يدعى عبد الرحيم، وكان يشغل منصب مدير دور الصناعة في مصر ومتولي شؤون الحكومة. وقد أتى جهده وعمله بنتائج لم يُسمع عنها من قبل. فقد أخذ خرقاً من كتان ودهن سفن الأسطول بمادة مستخلصة من الأعشاب بعد غليها ومزجها، حتى إذا ألقى عليها الرومان النار لا تحترق. و”قد رأيت بنفسي هذا وقد اشتعلت <المركب> لكنها لم تحترق وسرعان ما خمدت النار”. هذا النص يشير إلى استخدام هذا الشخص المبدع للطحالب البحرية، وطلي المراكب بمنقوعها وبذلك أمكنه حماية السفن. ومن المعروف حاليا أن هناك نوعا من الطحالب البحرية البنية التي تسمى (سيستوزيرا Cystoseira) تنتشر على سواحل الإسكندرية، وهي تحتوي على مركبات غروية من مادة الألجين التي تقاوم فعل النيران، ويصنع منها قماش مقاوم للاحتراق.
وتطرق أبو عبيد البكري (توفي 487هـ/ 1094م) إلى شجرةٍ تنبت ببلاد السودان طويلة الساق دقيقة تسمى (تورزي)، ولها ثمر كبير بداخله صوف أبيض، تصنع منه ألبسة لا تؤثر فيها النار. وذكر أن هناك أهل بلد يسمى اللامس لا يلبسون إلا من هذا الصوف. وهناك نوع من الحجارة بوادي درعة تسمى بالبربرية (تامطْغُست) إذا حُكّت باليد فإنها تلين حتى تصبح بقوام الكتان فيصنع منها قيود للدواب لا تحترق بالنار، وقد صُنع منها لباس لبعض ملوك زنانة بسجلماسة. وذكر البكري أن تاجراً محتالاً أخذ من هذا النسيج منديلاً إلى الملك فردناند وقال له إنه منديل لبعض الحواريين، وإن النار لا تؤثر فيه وأراه ذلك بعينيه، فعظم هذا المنديل عند الملك فردناند ودفع له مالاً كثيراً، ثم أرسل الملك فردناند بالمنديل إلى صاحب القسطنطينية ليوضع في كنيسة آيا صوفيا (التي تعني الحكمة الإلهية)، عندها كافأ صاحب القسطنطينية الملك فردناند بالتتويج.
أسطورة السمندل
وذكر أبو منصور الثعالبي (توفي 429هـ / 1038م) وشهاب الدين النويري (توفي 733 هـ /1333م) أن التجار العرب كانوا يحضرون (مناديل الغمر الصينية) التي إذا اتسخت ألقيت في النار فتتنظف ولا تحترق. وتناول محمد بن أبي بكر الزهري الغرناطي (توفي بعد 541هـ/ 1154م) طبيعة هذه المناديل، وذكر أنها كانت تصنع من وبر حيوان السمندل Salamander الموجود في مدينة القند الصينية. وأضاف أنه إذا صُنع من وبر السمندل هذا فتيل وأوقد طرفه بدهن ثم غمس في الدهن اشتعل حتى ينتهي الدهن ويبقى الفتيل سليماً. وهذه المناديل كان تصدّر إلى بلاد الأندلس والمغرب ويتهاداها الملوك فيما بينهم.
ومن غير الواضح مقصد الغرناطي بحيوان السمندل، فهل كان يقصد (السمندل الصيني البري) المعروف حالياً بأنه حيوان برمائي، لأن هذا النوع ليس له وبر أو قدرة على صمود جلده في النار، وربما يكون حيواناً آخر لكن كانوا يطلقون عليه اسم السمندل. وليس هناك اتفاق بين الجغرافيين واللغويين العرب حول حقيقة السمندل، هل هو حيوان برمائي أم طائر. وفي جميع الأحول، نعتقد أن الجميع ربما كانوا متأثرين بالأسطورة الرومانية التي تطورت حول السمندل على مرّ القرون، والعديد منها متعلق بالنار. إذْ من المحتمل أن ينشأ هذا الاتصال عن ميل العديد من السمندل إلى السكن داخل جذوع الأشجار المتعفنة. وعندما كان يوضع في النار، كان السمندل يحاول الهرب، مما يضفي مصداقية على الاعتقاد أن السمندل مكون من اللهب.
ولم نستطع فك لغز وحقيقة (مناديل السمندل) إلا عندما نظرنا في رأي الرحالة الإيطالي ماركو بولو (توفي 1324م) في وصفه لمغامراته التي دونت في عام 1298؛ فقد وجد أن ما قيل عن السمندلات الواقعية هو نتاجات صنعية معدنية لمادة (خام الاسبستوس Asbestos) أو الحرير الصخري.
ورأيه هذا هو الأقرب للصحة والصواب؛ إذْ من المعروف أن ألياف الاسبستوس تدخل في صناعة أغلفة الأبواب المقاومة للحريق والخزائن الفولاذية، كما تستخدم في صناعة الملابس الواقية من الحريق. فالاسبستوس قوامه الأساسي هو سليكات المغنيزيوم ويكون عند استخراجه من مناجمه بشكل ألياف يسهل غزله ونسجه.
مواد أخرى
ذكر التيفاشي (توفي 651هـ/ 1253م) أنه توصل إلى الخلطة السرية التي تمكن الشخص من صناعة مواد لا تحترق. ففي حديثه عن آخر مادة في كتابه (أزهار الأفكار في جواهر الأحجار) وهي الطلق (أو الطالق أو التالك Talc، كما كان يُسمى عند العرب أيضاً بكوكب الأرض وعروق العروس، وصيغته الكيميائية [Mg3Si4O10(OH)2]) نجد أنه يبين لنا أهم خاصية لهذا الحجر وهي مقاومته للحرارة، حتى إنه إذا جرى إذابته ودهن اليد به وتعريضها للنار فإنها لا تحترق. ثم يتحدث عن الخلطة التي تجعل السفن محمية من الاحتراق بالنار بأن نأخذ رطلاً من الطلق المستحلب ونغمره بماء محضر بطريقة خاصة (يتكون هذا الماء من سندروس ناعم يوضع في بوتقة ويضاف إليه تنكار ونطرون، لكن التيفاشي لم يذكر مقادير هذه المواد)، فينحل ويضاف إليه مثل كميته من مادة الشب والكمية نفسها من الصمغ العربي، ويضاف من المغرة رطلان ثم تطلى بهذا الخليط السفن، وعندها لن تحترق بالنار. لكن التيفاشي يقرّ معترفاً أنه لم يجرب هذه الخلطة السرية للوقاية من النار، لكنه يرى أنها تستحق التجربة.
من الناحية العلمية يمتاز الطلق بأنه حجر رخو له ملمس صابوني دهني، وهو يتكون من سليكات المغنيسيوم المميهة، ويتصف بمقاومته المرتفعة للحرارة.
وتحدث يوسف بن عمر بن رسول (توفي 694هــ / 1249م) عن لفظ (الكهرباء)، واصفا إياه بأنه حجر برّاق يطلى به المواضع التي تدنو من النار، وذلك حتى لا تعمل النار فيها، في حين ذكر محمود الكاشغري أن من خصائص القاش (حجر اليشب Jasper)، أنه إذا لُفّ بثوبٍ غليظٍ من القطن (الكِرباس) فإن الثوب لا يحترق.
قد يستغرب القارئ عندما يعلم أن الأوروبيين لم يبدؤوا بحوثهم عن الأقمشة القطنية غير القابلة للاحتراق حتى القرن السابع عشر للميلاد. فقد قام سابيني عام 1638 بأولى المحاولات، وجرت الثانية عام 1735، حيث استخدم فيها خليط من بعض مركبات كبريتات الحديدوز وفوسفات أمونيوم البوراكس مع مواد أخرى.