د. عبدالله بدران
لم تعد الدراسات المعنية في مجال الطاقة تقتصر على معالجة الموضوعات المرتبطة بالطاقة وأمورها الفنية فحسب، أو تركز على التطورات التقنية الحاصلة في هذا الميدان، بل أخذت تربط ذلك بمجالات أخرى لاسيما المجالات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والسياسية؛ نظرا للعلاقة الوثيقة القائمة بين هذه المجالات وتأثر كل منها بالآخر.
ولعل من أهم الدلائل على ذلك ما ذكرته الأمم المتحدة في تقاريرها المتخصصة عندما سلمت بهذا الدور، مؤكدة أهمية الطاقة بالنسبة إلى كل تحد رئيسي يواجهه العالم أو فرصة متاحة أمامه حاليا، سواء من أجل فرص العمل أم الأمن أم تغير المناخ أم إنتاج الأغذية أم زيادة الدخل.
ومن المعروف أن الهدف السابع من أهداف التنمية المستدامة في خطة التنمية المستدامة لعام 2030 التي أطلقتها الأمم المتحدة يرمي إلى ضمان حصول الجميع على خدمات الطاقة الحديثة الموثوقة والمستدامة بتكلفة ميسورة، وإلى بلوغ ثلاث غايات بحلول عام 2030، هي: ضمان حصول الجميع بتكلفة ميسورة على خدمات الطاقة الحديثة الموثوقة؛ وتحقيق زيادة كبيرة في حصة الطاقة المتجددة في مزيح الطاقة العالمي؛ ومضاعفة المعدل العالمي للتحسن في كفاءة استخدام الطاقة.
الطاقة في المنطقة العربية
لم يعد التطرق إلى التقدم الذي تحرزه المنطقة العربية في قضايا الطاقة ممكنا بمعزل عن سائر أهداف التنمية الاجتماعية والاقتصادية، بل إنّه شرط لا بد منه لحفز التقدم باطراد. والتصدي لأوجه الضعف في مجال الطاقة أولوية تنموية لا غنى عنها في المنطقة لنجاح خطة عام 2030 والامتداد إلى ما وراءها. ومن الأهميّة تعزيز القدرة على الاستفادة من مجموعة الموارد الطبيعية التي تتيحها المنطقة من خلال الاختيار الصحيح للبنى الأساسية والتكنولوجيا وممارسات الحوكمة والإدارة المستدامة، لاستحداث فرص اقتصادية للشباب وتحسين مستوى معيشتهم. وهذه القدرة ضرورية لحفز التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتمكين المرأة وتحقيق المساواة بين الجنسين والإنصاف بين الأجيال، كقوى دافعة للازدهار الطويل الأمد في المنطقة العربية.
وهذه النتائج خلصت إليها دراسة حديثة أصدرتها اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) التابعة للأمم المتحدة، استهدفت تحديد مصادر الضعف في مجال الطاقة في المنطقة العربية التي تحول دون تأمين الدول الأعضاء حصول الجميع، اليوم كما في المستقبل، على خدمات طاقة حديثة وموثوقة وميسورة الكلفة. وسعت إلى تقييم الاستراتيجيات الهادفة إلى معالجة أوجه الضعف بفعالية، وتبيان الكيفية التي يمكن بها لمجموعات مختلفة أن تسهم في حل هذه القضايا. وانطلاقاً من خطة التنمية المستدامة لعام 2030 وأهدافها، فقد سعت الدراسة التي نشرت بعنوان (الهشاشة في مجال الطاقة في المنطقة العربية) إلى رسم آفاق ما بعد عام 2030 لتعميم مفهوم إدارة الطاقة المستدامة على المدى الطويل في المنطقة العربية والتصدي لأوجه الضعف الناجمة عن استمرار الوضع على حاله.
والهشاشة في مجال الطاقة نابعة من عجز الدول عن ضمان وصول الجميع إلى خدمات الطاقة الميسورة التكلفة والحديثة والموثوقة وتوفيرها للأجيال الحالية والمقبلة. وتحدد الدراسة الهشاشة في مجال الطاقة بأنها غياب الضمانات اللازمة لكفالة استدامة أنماط العرض والطلب في قطاع الطاقة، على الرغم من أهمية هذه الضمانات في دعم النمو الاقتصادي والاجتماعي والتنمية على المدى الطويل.
وتسترشد الدراسة بخطة التنمية المستدامة لعام 2030؛ غير أنها لا تكتفي بالبحث في سبل تحقيق أهدافها، بل تبحث أيضا في مفهوم الإدارة المستدامة الطويلة الأمد للطاقة في المنطقة العربية، ومعالجة هشاشة مردها إلى الاستمرار في اعتماد سيناريو إبقاء الأمور على حالها.
وتشكل الهشاشة في مجال الطاقة موضوعا مهما، وتتطلب تداعياته مناقشة مستفيضة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والحكومية، حيث يوجد تباين شاسع في التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتفاوت كبير بين بلدان المنطقة العربية في الحصول على خدمات طاقة حديثة موثوقة ومستدامة بتكلفة معقولة.
الطلب على الطاقة
أدى النمو الاقتصادي والسكاني المتسارع في البلدان العربية إلى إنعاش سوق الطاقة في المنطقة. وفي ضوء التوقعات باستمرار هذا النمو وبزيادة التصنيع وارتفاع مستويات المعيشة، يتوقع أن يستمر تزايد الطلب على الطاقة خلال العقود المقبلة. وتوفير إمدادات الطاقة الكافية والميسورة التكلفة أمر محوري في تحسين مستويات المعيشة، والنهوض بالاقتصاد، والحفاظ على الاستقرار السياسي في منطقة تعد اليوم أكثر هشاشة مما كانت عليه في العقد الماضي.
وترى الدراسة أن غياب أو عدم فاعلية إدارة الطلب، كعامل شديد الأهمية، أسهم في عدم كفاءة استخدام موارد الطاقة، إلى جانب نمو الطلب على الطاقة. غير أن تلافي وقوع خسائر اقتصادية وبيئية نتيجة لعدم كفاءة أنماط الاستهلاك أمر ممكن، كما يمكن استخدام الموارد المالية المتوفرة بطرق أفضل بكثير. وتشتمل مظاهر القصور في إدارة الطلب في المنطقة العربية أربعة أمور هي: أسعار الطاقة، والأطر التنظيمية والمؤسسية، والبنى الأساسية للنقل العام، وحفظ الطاقة والوعي البيئي.
وترى الدراسة أن الإدارة الفعالة لنمو الطلب على الطاقة وفصل آثار هذا الطلب عن مسار النمو الاقتصادي في المنطقة العربية مهمتان شاقتان. ويجب على الدول التي ترغب في ضبط نمو الطلب المحلي على الطاقة أن تعمد إلى إصلاح هياكل أسواق الطاقة، وأن تعيد النظر في الحوافز المقدمة لمستخدمي الطاقة. وعليها كذلك أن تحدث تغييرات جذرية في سلوكيات المستهلك، وأن تعمل بشكل مواز على تحقيق أهداف إنمائية قد تبدو في بعض الأحيان متناقضة، مثل حماية دخل الأسرة وفي الوقت نفسه تعزيز القدرة التنافسية الصناعية.
تنويع مصادر الطاقة
وفيما يتعلق بتنويع مصادر الطاقة المستخدمة وطرق استخدامها في البلدان العربية، فإن الدراسة تراها أمرا ضروريا، ومما يشجع على تحقيق ذلك توفر عدة مسارات على مستوى السياسات من شأنها أن تساعد الدول على العمل أكثر بموارد أقل، وذلك مع تلبية أولويات التنمية الاجتماعية والاقتصادية والوطنية والتقليل من البصمة الكربونية في المنطقة في آن واحد.
وتتطرق الدراسة إلى إنتاجية الطاقة كمؤشر أكثر دقة لتحسين أوجه استخدام الطاقة في جميع أنحاء العالم، حيث يستخدم واضعو السياسات إنتاجية الطاقة وكفاءتها وكثافتها لتحديد ما يجب تنفيذه من استجابات لمعالجة الشواغل المتعلقة بتغير المناخ العالمي. وبينما حدد معظم الأهداف الرسمية على أساس كثافة الطاقة، يسجل دعم متزايد للرأي القائل بأن إنتاجية الطاقة هي مقياس أفضل للمضي قدما نحو تحقيق هذه الأهداف. وترى الدراسة أنه على المستوى الكلي فإن إنتاجية الطاقة هي قيمة الإنتاج الاقتصادي، كالناتج المحلي الإجمالي مثلا، لكل وحدة من استهلاك الطاقة، ومن ثم تتناسب عكسيا مع قيمة كثافة الطاقة. ويفيد مؤيدو اعتماد إنتاجية الطاقة بأنها تقدم صورة وافية عن القدرة التنافسية للبلد، وعن أدائه البيئي، وفرص التحسن لديه، كما تتماشى مع برامج السياسات المتصلة بالاقتصاد والطاقة والبيئة على نحو مباشر أكثر من كثافة الطاقة وغيرها من المقاييس.
وتخلص الدراسة إلى أنه ثبت في المنطقة العربية أنه لم يعد من الممكن فصل قضايا الطاقة عن مسار أهداف التنمية الاجتماعية والاقتصادية غير المتعلقة بالطاقة، وأن معالجة قضايا الطاقة شرط أساسي لدفع عجلة التقدم المستدام. ومن ثم، فالتصدي للهشاشة في مجال الطاقة في المنطقة العربية أولوية إنمائية أساسية، ليس فقط لنجاح خطة التنمية المستدامة لعام 2030 بل لتحقيق أهداف أخرى على الأمد الأبعد. ومن شأن الاستفادة من الموارد الطبيعية المتنوعة، باتخاذ مجموعة من الخيارات المناسبة على صعد البنى الأساسية والتكنولوجيا والحوكمة وممارسات الإدارة المستدامة، أن تؤدي دورا أساسيا في خلق الفرص الاقتصادية للشباب وتحسين مستويات معيشتهم. كما أن تسخير هذه الموارد محرك رئيسي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وأداة أساسية لتحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة والعدل بين الأجيال. وجميعها غايات لابد منها لتحقيق الازدهار في المنطقة العربية على الأمد البعيد.