الذكاء الاصطناعي وآفاقه الواعدة
د. منذر الحمدوش
لطالما حلم العلماء منذ مطلع الخمسينيات من القرن الماضي ببناء آلات تستطيع التفكير واتخاذ القرار بشكل مشابه للبشر، لكن التقدم العلمي في مجال صناعة التكنولوجيا لم يكن قد نضج بعد إلى الدرجة التي تسمح باستخدام خوارزميات حوسبة معقدة. ومع مطلع الألفية الحالية شهدت صناعة الحواسيب قفزات نوعية تجاوزت جميع التوقعات، مما أسهم في توافر حواسيب ذات سرعات هائلة وبأسعار مقبولة. ولم يتوقف هذا التطور السريع في تكنولوجيا صناعة الحواسيب عند هذا الحد بل تعداه إلى صناعة حواسيب ذات أحجام صغيرة جداً وذات قدرات حسابية كبيرة، مما مكن الكثير من الشركات من إدخال الأنظمة المبرمجة إلى منتجاتها كالسيارات والهواتف المحمولة والأجهزة الطبية والأجهزة الملبوسة.
ومع تطور صناعة الحساسات الإلكترونية وتقدمها أصبح لدى الكثير من القطاعات الصناعية إمكانية توليد كميات هائلة من البيانات خلال فترات قصيرة جدا، ويضاف إلى هذا انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت مصدراً كبيراً لبيانات هذا العصر.
هذه العوامل جميعها أدت إلى حاجة ملحة لتوظيف التكنولوجيا لمعالجة هذه البيانات الضخمة والانتقال بعملية تحليل البيانات إلى مستوى مختلف تماماً، بحيث يتم تمكين الحواسيب من التعلم من هذا الكم الهائل من البيانات، وبالنتيجة تستطيع المشاركة في اتخاذ القرار مع البشر القائمين على هذه الأنظمة (الشكل 1)، وذلك الأمر فتح بابا كبيرا لعودة الذكاء الاصطناعي إلى الساحة العلمية والتقنية لكي يملأ هذا الفراغ الذي يزداد يوما بعد آخر.
تيارا الذكاء الاصطناعي
أطلق الأمريكي (جون ماكارثي) مصطلح الذكاء الاصطناعي للمرة الأولى عام 1956. وحينها كان يعمل في جامعة ستانفورد الأمريكية، حيث قام مع مجموعة من الباحثين من جامعات أخرى بتعريف الهدف من هذا التخصص وصنفه كأحد فروع تخصص علوم الحاسوب. ويعرف هذا التخصص بأنه علم يدرس إمكانية تمكين الآلات للحصول على قدرات التفكير والتعلم بحيث يصبح لديها القدرة على التصرف واتخاذ القرار بشكل مشابه للبشر أو حتى بشكل أفضل منهم. وحتى يتم تحقيق هذا الأمر لابد للأنظمة الحاسوبية من أن تكون قادرة على محاكاة عملية التفكير وكذلك السلوك البشري من ناحية، ومن ناحية أخرى أن يصبح لديها القدرة على التصرف بطريقة بشرية ذكية و عقلانية وأخلاقية.
وهنالك تياران للذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، فهناك ما يسمى الذكاء الاصطناعي المتخصص أو الضعيف، وهذا النوع من الأنظمة مصمم لتطبيقات معينة لإنجاز مهمة محددة مسبقاً، ويعتمد على بناء نماذج رياضية بناء على بيانات مسبقة، ومن ثم يمكن للنظام تخزين نوع من الإجابات المسبقة لجميع المواقف التي يمكن أن يتعرض لها، وكمثال على تلك الأنظمة نظام المساعد الشخصي (سيري) المستخدم في أجهزة شركة أبل، إذ إنه مبني على محرك قوي لمعالجة الكلام ثم تحويله إلى نصوص ليتم معالجتها وفهم الأوامر التي يطلقها المستخدم، ومن ثم ربطها بإجابات تم برمجته عليها مسبقاً. وبشكل مشابه طورت شركة أمازون نظام المساعد الشخصي (أليكسا) الذي يستخدم في عدد كبير من المنتجات الإلكترونية التي تخدم إنترنت الأشياء على وجه الخصوص وفي دول عديدة ، فمثلا يمكن استخدامه للتحكم في المنازل الذكية والسيارات الذكية وأجهزة الحاسوب والأجهزة الملبوسة وغيرها، وكذلك فإن برامج لعب الشطرنج، كبرنامج ( Deep Blue ) – الذي طورته جامعة كارنجي ميلون الأمريكية بتمويل من شركة IBM والذي تغلب على بطل العالم في الشطرنج في عام 1997 (الشكل 2)، تدخل تحت صنف الذكاء الاصطناعي الضعيف.
لكن هذا النوع من الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى مشكلات خطيرة في بعض الحلول؛ وذلك لغياب جانب الوعي والإدراك من تلك الأنظمة، فعلى سبيل المثال قد تسبب تلك الأنظمة حدوث كوارث في السيارات ذات التحكم الذاتي.
أما التيار الآخر فهو الذكاء الاصطناعي الكامل أو العمومي، وهذا النوع من الأنظمة لا يعتمد على إجابات مسبقة بل على مبدأ تحليل البيانات لإيجاد ارتباطات بين أجزاء مختلفة منها، مع إمكانية تعميم ما تم إيجاده على أي حالة جديدة لم يتعرض لها النظام من قبل، وذلك عن طريق تطوير استراتيجيات جديدة بناء على خبرات النظام التعليمية. والباحثون في هذا التيار يطمحون إلى بناء آلات لديها من الوعي والإحساس والإدراك والعقل ما تستطيع من خلاله حل أي مشكلة يمكن أن تواجهها دون الرجوع إلى الإنسان لاتخاذ القرار. وهذا النوع من الأنظمة لا يزال غير موجود في وقتنا الحاضر لعدة أسباب أهمها أننا – نحن البشر – لا نزال عاجزين عن فهم مبادئ الإدراك والوعي في العقل البشري، لكن العلماء يتوقعون أن تبدأ هذه الأنظمة بالظهور بشكل عملي مع مطلع العقد الرابع من هذا القرن، وهو ليس ببعيد.
وعلى الرغم من هذا فقد حقق العلماء قفزات نوعية في هذا المضمار، فعلى سبيل المثال طورت شركة غوغل حديثا نظامها للتعليم الذكي ( DeepMind ) ليؤدي لعبة الأتاري ويفوز بناء على تجارب سابقة تم تدريبه عليها، لكن اللافت للنظر هنا أن النظام تمكن من اكتشاف استراتيجية جديدة تماماً للربح لم يسبق له أن شاهدها أثناء التعلم (الشكل 3). وقبل هذا النظام طورت الشركة نفسها برنامج ( AlphaGO) الذي فاز على بطل العالم في لعبة GO الشهيرة.
مكونات الذكاء الاصطناعي
إن نجاح الذكاء الاصطناعي بمفهومه الكامل يعتمد على تطوير خوارزميات وتقنيات تساعد على بناء مكونات ذلك الذكاء (الشكل 4) بشكل فعال كما يأتي:
تمثيل وهندسة المعرفة: يعتبر المكون الرئيسي في الأنظمة الذكية؛ فالآلات لن تستطيع محاكاة السلوك والعقل البشري ما لم يكن لديها معلومات كافية عن الواقع المطلوب التعامل معه بشكل موضوعات وأشياء وتصنيفات وخصائص، والكيفية التي يمكن بها لكل هذه العناصر أن يرتبط بعضها ببعض بحيث يمكن للآلة لاحقاً أن تقوم باستنباط الحلول والتفكير بشكل منطقي. وفي هذا السياق يتم استخدام خوارزميات وتقنيات علم التصنيف Ontology لتحقيق هذا الغرض.
التفكير والاستنتاج وحل المسائل: يعتبر هذا جزءا أساسيا لبناء أنظمة ذكية قادرة على اتخاذ القرارات الصائبة. وطور العلماء في التسعينيات من القرن الماضي عدة خوارزميات بهذا الصدد، لكنها كانت تعتمد على مبدأ استكشاف جميع الحلول الممكنة للمسألة ومن ثم اختيار الحل الأفضل بناء على بعض المعايير. وهذه الطريقة أثبتت فشلها حاسوبياً في المسائل المعقدة، وأنها لا تحاكي آلية العقل البشري الذي يعتمد كثيراً على الحدس البديهي في اتخاذ القرار، فمثلاً إذا أتينا بطفل صغير وطلبنا منه أن ينتقل من غرفة إلى أخرى داخل منزل فإنه بشكل فطري سيسلك أقصر مسار دون الحاجة للتفكير بالطرق الأخرى.
الإدراك: وهو قدرة الآلة على معالجة البيانات المقروءة من عدة حساسات تحاكي الحواس البشرية ومن ثم استنباط بعض المعلومات عن البيئة المحيطة، فمثلاً يمكن استخدام الكاميرات والميكروفونات وغيرها من الحساسات المستخدمة في إنترنت الأشياء لجمع بيانات عن البيئة المحيطة، لكن الصعوبة تكمن في تفسير هذه البيانات بشكل صحيح. فمثلاً عندما يلتقط الميكروفون إشارة صوتية يجب على النظام الذكي أن يحاول تقدير المسافة بينه وبين مصدر الصوت، وكذلك الأمر بالنسبة للإشارات المرئية، فهناك عدة جوانب يجب أن يدركها النظام كالمسافة وطبيعة الأشياء الموجودة في الصورة وغيرها حتى يستطيع اتخاذ القرار الصائب.
التخطيط: يقوم على تطوير خوارزميات قادرة على إيجاد تسلسل من الخطوات العملية أو استراتيجية معينة من أجل تحقيق هدف معين وذلك ليتم تنفيذها من قبل عميل ذكي، فعلى سبيل المثال إذا أردنا لروبوت أن يتنقل في بيئة معينة من نقطة إلى أخرى أو لسيارة ذاتية التحكم أن تتنقل على الطرقات من دون سائق من عنوان إلى آخر، فيجب أن يتمكن النظام الذكي من وضع خطة تنقل فعالة وبسرعة معقولة. ولتحقيق ذلك يتم استخدام لغات البرمجة المنطقية ولغات تخطيط خاصة بأنظمة الذكاء الاصطناعي، حيث يتم تجزئة الهدف المعقد الرئيسي إلى أهداف فرعية مبسطة، ومن ثم يتم وضع خطط ثانوية لتحقيق هذه الأهداف الفرعية مع المحافظة على علاقة الحالة والخطوة الحالية للمنظومة بالهدف الرئيسي المراد تحقيقه. فمثلاً إذا طلبنا من روبوت أن يذهب ويشتري حليبا وتفاحا ومنشارا فسيجزئ المسألة إلى ثلاث مسائل، ثم يوجد الطريق الأسرع لشراء كل سلعة مع مراعاة أن هناك ثلاث سلع يجب شراؤها، ومن ثم فإن الخطة يجب أن تضمن التنقل بين ثلاثة أمكنة في زمن معقول.
معالجة اللغات الطبيعية: تهدف هذه الخوارزميات إلى تمكين الأنظمة الحاسوبية من فهم اللغات البشرية واستيعابها، بحيث يمكن للنظام الذكي أن يقرأ ما يكتبه البشر لكي يطور مهاراته. وقد وصلت الأنظمة الحالية إلى إمكانات جيدة في بناء الجمل وتحليلها، وتم تطبيقها في مجالات استرجاع المعلومات والتنقيب عن النصوص والترجمة الآلية وغيرها. لكن أنظمة الذكاء الاصطناعي لا تزال بعيدة جداً عن مرحلة فهم المعاني الدلالية للألفاظ والتي تشكل قلب هذا المكون من الأنظمة الذكية.
التحريك والتحكم: وهذه الخاصية تركز على تمكين الروبوتات بخصائص ذكية، بحيث يمكنها التعامل مع الأشياء في البيئة المحيطة وتحريكها والتجول بشكل فعال وتجنب المعوقات. وهذا الجانب يركز على فهم الروبوت لمكان تموضعه،ومن ثم معرفة ما حوله وأخيراً التخطيط للتحرك نحو الهدف الذي يود تحقيقه. والمثير للاهتمام في هذا المجال أن الروبوتات باتت تستفيد من عناصر الذكاء الاصطناعي الأخرى لكي تدرب نفسها وتتعلم بشكل أسرع، كما هو الحال في روبوت المساعد المنزلي (Aeolus ) المصمم للمساعدة في العديد من أعمال المنزل من تنظيف وترتيب وغيرها.
الذكاء الاجتماعي: وهو يهتم بتزويد أنظمة الذكاء الاصطناعي بخصائص اجتماعية تمكنها من فهم مشاعر وأحاسيس الآخرين والتنبؤ بسلوكهم، بحيث تقوم هذه الأنظمة باتخاذ قرارات أقرب للبشر منها للآلات. فعلى سبيل المثال نلاحظ هذا النوع من التقنيات يستخدم في برامج المجيبات الآلية أو أنظمة المساعدة الشخصية التي تستخدم بعض اللطائف لكي تشعر المستخدم أنها ليست بآلة.
التعلم: هذا المكون يعد الأهم لبناء أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على التعلم من البيئة المحيطة. فكما هو معلوم فإن الثورة الصناعية الثالثة انتقلت بالكثير من القطاعات من الواقع الورقي الفيزيائي إلى العالم الرقمي الافتراضي، ثم جاءت الثورة الرابعة لتضيف إلى ذلك العديد من التقنيات والمنتجات التي تمكننا من مراقبة عدد كبير جداً من التغييرات في البيئة المحيطة، وهذا بحد ذاته أنتج كماً هائلاً من البيانات التي يمكن للأنظمة الذكية أن تستفيد منها لمساعدة الإنسان على اتخاذ القرار أو اتخاذ القرار بالنيابة عنه. وينقسم عنصر التعلم في الذكاء الاصطناعي إلى نوعين رئيسيين يكمل أحدهما الآخر، فالنوع الأول يسمى التعلم من دون مشرف، حيث يتم تزويد النظام بكم هائل من البيانات ليقوم وحده باكتشاف أي نموذج ذي دلالات عملية معينة. فمثلا يمكن أن نزود النظام بمجموعة من الصور ثم نطلب منه أن يوجد المزايا المميزة للأشياء الموجودة في الصور، أو أن نزود النظام بسلاسل من الأحماض النووية من الجينوم البشري ثم نطلب منه أن يوجد الأجزاء التي قد يكون لها وظائف بيولوجية معينة. أما النوع الثاني من التعلم فيسمى التعلم مع وجود مشرف، حيث يتم تزويد النظام بكمية كبيرة من البيانات لكن مع إخباره ماذا يوجد في كل عينة من البيانات، ومن ثم يمكن للنظام أن يتعلم من هذه البيانات ويبني نموذجا رياضيا لتصنيف مجموعة من الحالات. فمثلا يمكن استخدامه لتشخيص الأمراض بناء على الصور الشعاعية أو تصنيف منتجات معينة حسب جودة التصنيع أو التعرف على الأحرف الأبجدية من الصور. وفي هذا النوع من التعلم يمكننا أيضاً بناء نموذج رياضي للتنبؤ بقيم حقيقية. فمثلا يمكننا التنبؤ بأسعار الأسهم في قطاع معين أو معرفة احتمال الاصابة بمرض ما بناء على معلومات جينية معينة. ويوجد أنواع أخرى للتعلم تدمج بين النوعين السابقين وتستخدم خوارزميات مختلفة لتحسين أداء النظام كلما تم استخدامه أكثر وأكثر، وهذا ما تتطلبه معظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في عصرنا هذا. وأخيراً نسمع كثيراً بمصطلح (التعلم العميق)، وهو ليس بالجديد؛ إذ إنه مبني على نظريات تم طرحها في مجال الشبكات العصبية الاصطناعية منذ منتصف القرن الماضي (الشكل 5). لكن التطور السريع في تكنولوجيا صناعة الحواسيب مكن الباحثين والمطورين من استخدام أنظمة تعلم معقدة جداً، وتوافر كميات هائلة من البيانات جعل هذا ممكناً.
الذكاء الاصطناعي إلى أين؟
من واقع تجربتي الشخصية فإن هناك الكثير من الوهم حول استخدام الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته؛ فالكثير من الشركات تطلق الذكاء الاصطناعي على منصاتها ومنتجاتها لكنها لا تستخدم إلا مكونا واحدا أو بضعة مكونات من مكوناته، ومعظم الأنظمة تستخدم التعلم فقط. لذا نجد أن هناك انتشارا كبيرا لتطبيقات التعلم العميق في قطاعات كثيرة.
لاشك أن الذكاء الاصطناعي يؤدي دوراً فعالاً في المجال الطبي مثلاً، لكن معظم البرامج الطبية الذكية تستخدم خوارزميات التعلم العميق لبناء نماذج تصنيفية أو تشخيصية قد تتجاوز بدقتها أمهر الأطباء. و يجب ألا ننسى أن نجاح هذه الأنظمة مقترن بتوافر كميات هائلة من البيانات المعنونة ووجود مشرف بشري يدرب هذا النظام. ربما في السنوات الخمس أو العشر المقبلة سنشهد طفرات في هذا المجال بسبب انتشار تطبيقات إنترنت الأشياء في العديد من القطاعات، وقريباً سيصبح لدينا مخزون رقمي هائل من البيانات عن البيئات المحيطة بنا.
وختاماً أرى أن هذا هو الوقت المناسب جداً للشركات العربية لأن تتوجه إلى إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي في منتجاتها، ومن ثم تواكب القفزات التي ستحدث في العقد المقبل.