الطب وصحة

طب النانو

سلاح القرن لقهر الأمراض المستعصية

د. محمد شريــف الإسكندراني

شرد ذهني طويلا بعد محاضرة عن تطبيقات تكنولوجيا النانو كنت قد تلقيتها خلال مرحلة دراستي للماجستير في عام 1985 بإحدى الجامعات اليابانية، ورجعت بي الذاكرة إلى ما قبل ذلك التاريخ بنحو 20 سنة حين شاهدت وأنا في العاشرة أحد أشهر أفلام السينما الأمريكية وهو (الرحلة الخياليةFantastic Voyage ). لم أكن الوحيد الذي لاحظ ذلك التشابه الرابط بين فلسفة طب النانو وتلك الفكرة الخيالية للمؤلف الأمريكي (ديفيد دونكان) التي نُسج حولها الفيلم، حيث تدور أحداثه حول فريق من الجراحين استقلوا مركبة على هيئة غواصة بحرية تم تقليصها وهم على متنها إلى ما دون حجم الخلية ليحقن بها المريض كي تغوص وتسبح، فتصل إلى المخ حيث يقوم الجراحون المتقلصة أحجامهم بإذابة تجلط دموي فيه!

وبرهنت فكرة الرواية على تأثر مُبدعها بمحاضرة تاريخية ألقاها الفيزيائي الأمريكي الشهير (ريتشارد فينمان)- الأب الروحي لتكنولوجيا النانو – في عام 1959، وهي تُعد حجر الزاوية لفلسفة تكنولوجيا النانو التي تفجرت مع بداية القرن الحادي والعشرين لتحقق هذا التقدم التكنولوجي الهائل والمستمر الذي نشاهده في كل المجالات، والذي صبغ ما يعرف بالثورة الصناعية الرابعة.

تكنولوجيا النانو وصحة الإنسان 

تمثل تكنولوجيا النانو أحد المكونات الرئيسية للثورة الصناعية الرابعة التي يشهدها العالم حاليا، وقد فرضت نفسها على كل المجالات الصناعية والتطبيقية. ولم يكن من المُستغرب أن يحتل القطاع الصحي رأس قائمة اهتمامات تلك التكنولوجيا التي سخرت كل العلوم الأساسية والتقنيات المستحدثة من أجل صحة الإنسان وسعادته، واستطاعت أن تفتح للبشرية آفاقًا واعدة.

واحتل مُصطلح (طب النانو Nanomedicine) مكانًا مهما في قائمة المُصطلحات الطبية والدوائية. ويمكن تعريفه بأنه مجموعة من التقنيات الطبية الحديثة التي تستظل بظل تكنولوجيا النانو لتشمل كل ما يتعلق بالمجالات الطبية الرامية إلى تحسين صحة الإنسان والحفاظ على سلامته.

وقد حقق طب النانو ثورة شاملة في مفاهيم طرق العلاج التقليدية وتطوير تقنيات التشخيص والكشف المُبكر عن الأمراض والأورام. وتزامنت هذه الثورة التكنولوجية مع ثورة التكنولوجيا الحيوية التي تُشَكل مع تكنولوجيا النانو نهجا جديدًا قائما على علوم وتقنيات مترابطة اصطلح على تسميتها باسم (تكنولوجيا النانو حيوية Bionanotechnology).

ونتيجة للتقدم السريع في مجال بحوث تكنولوجيا النانو فقد تم تحقيق طفرات مثيرة تمثلت في ابتكار أنواع متقدمة من أجهزة التوصيف، تم توظيفها من أجل فهم وتحليل بنية وتركيب الحمض النووي DNA للإنسان والفيروسات على حد سواء. وأدى هذا إلى معرفة سلوك الأمراض والفيروسات وميكانيكية حركتها وتنقلاتها داخل الجسم، ومعرفة الطرق والحيل التي تسلكها لمهاجمة خلاياه وذلك على مستوى النانومتر الواحد.

النانــوروبوت 

على الرغم من الخيال العلمي المنعوت بالخصوبة في فكرة رواية فيلم (الرحلة الخيالية)، التي سبق الإشارة إليها ، فإنها حصلت على قبولٍ واهتمامٍ كبيرين لدى فئة كبيرة من العلماء، فانكبوا على نمذجة ومحاكاة الفكرة، وذلك من خلال تقديم مزيج متجانس لأبحاث رائدة في مجالات المواد والتكنولوجيا الحديثة مثل :

المواد المتقدمة ، والإلكترونيات النانوية.

ونتج من ذلك النانوروبوت المتوقع أن يكون له استخدامات عديدة في المجال الصحي.

عقاقير نانوية

تتصدر العقاقير الطبية المكونة من حبيبات نانوية قمة العقاقير الطبية من حيث الكفاءة والأمان. وتم تصميم المواد الكيميائية لتلك العقاقير كي تتلاءم مع الأحجام المختلفة للجزيئات الحيوية الموجودة في الجسم وكذلك مع أحجام الفيروسات والبكتريا التي يُصاب بها، وهي تعتمد في أداء مهامها على صغر حجمها، مما يمنحها مزية التخفي عن جهاز المناعة في الجسم الذي يقاوم أي جسم دخيل ويهاجمه. ومع التقدم المستمر في إنتاج تلك الفئة من المواد الذكية، فإن العقاقير النانوية تميزت بأمور عدة منها تقليل نسبة سمية الدواء، وتحسين توزيع المادة الفعالة للدواء في خلايا الجسم المصابة، و التحكم في معدل خروج المادة الفعالة للدواء من خلال تصغير أقطار مسام الكبسولات المغلفة له، مما يعني زيادة في فعالية الدواء لكن بكمية دوائية أقل وعدد منخفض من الجرعات .

توصيل الدواء 

إن نجاح أي عقار طبي يعتمد على طريقة تعاطيه وآلية توصيله إلى الجزء المُعتل داخل جسم المريض، وذلك في أقل مدة زمنية ممكنة وبأقل تأثيرات جانبية محتملة. لذا ليس من الغريب أن تتنافس شركات الأدوية في احتكار طرق فريدة معنية بإيصال الدواء إلى داخل جسم الإنسان، وأن تهيمن على تقنيات وصول جزيئات الدواء إلى المكان المراد دون تعثر أو خلل في التوجيه. ويستخدم مصطلح (التوافر الحيوي Bioavailability ) للدلالة على مقدار نسبة وجود الجرعة الدوائية – جزيئات المادة الفعالة للدواء – في بلازما الدم بعد تعاطيها. وكلما زادت هذه النسبة واقتربت من الواحد الصحيح، دل ذلك على كفاءة الدواء وارتفاع قدرته العلاجية . ويعد رفع قيمة التوافر الحيوي لأي دواء من الأمور الصعبة التي لا تتأتى عن طريق زيادة نسبة جزيئات المواد الكيميائية الداخلة في تركيبه أو زيادة الجرعة التي يتعاطاها المريض، لأن هذا يؤدي إلى زيادة في نسبة سميته مما ينجم عنه عواقب وخيمة .

وتعد تكنولوجيا النانو المعول الرئيسي المناسب لتطوير منهاج العقاقير الطبية والأدوية من خلال زيادة نسبة

توافرها الحيوي في الدم، وذلك عن طريق استحداث أساليب مبتكرة . وتقدم تلك التكنولوجيا حلولا أثمرت نجاحات كبيرة في عمليات توصيل ونقل الدواء، تمثلت في رفع القدرة على نقل جزيئات المادة الكيميائية الفعالة للدواء إلى خلية محددة من خلايا الجسم نقلاً مباشرًا وفي أقل فترة زمنية .

آلزايمر و الجلطات الدماغية

جرى حديثا تأهيل عدد من المواد النانوية لتوظيفها في علاج حالات صحية مرتبطة بالخلايا العصبية . ومن المرجح أن تنجح الأبحاث الخاصة بزراعة تلك المواد في المخ والاعتماد على صغر حجمها في خداع (الحاجز الدماغي الدموي Blood Brain Barrier) الذي يقوم بحجب ومنع أي مادة غريبة من الذهاب إلى المخ، وهو يمثل في ذلك مصفاة للدم الواصل إلى مخ الإنسان – لتتسلل إليه حيث تمكث هناك لتهيمن على نشاط خلايا الدماغ وتحفزها كهربائيًا، من خلال إطلاق موجات

عصبية قادرة على علاج بعض الأمراض العصبية المستعصية مثل آلزايمر. كذلك فقد أدى التطور المستمر في بحوث طب النانو إلى ابتكار أنواع متطورة من المستحضرات الطبية المذيبة للتجلط الدموي.

السرطان والبلورات النانوية

إن عملية اكتشاف وتحديد بؤر الخلايا السرطانية وانقساماتها خلال المراحل المبكرة من تكون الورم مسألة صعبة تقنيًا؛ نظرًا لصغر أحجام تلك البؤر التي تفوق دقة الأجهزة المستخدمة في اكتشافها ، ومن ثم فإن تلك الخلايا الصغيرة حجما والمتواضعة كمية تكون عادة خارج نطاق دقة الأجهزة ، فلايتم تحديدها إلا بعد أن تكون قد تكاثرت وازداد عددها. وقد أتاحت تكنولوجيا النانو آفاقًا واعدة لعمليات التشخيص المبكر للسرطان من خلال بلورات نانوية يُطلق عليها أيضًا اسم (النقاط الكمية Quantum Dots) . وهذه النقاط مواد لأشباه الموصلات تُحضَّر على هيئة حُبيبات كروية ذات أبعاد متجانسة تراوح أقطارها بين 2 و10 نانومترات، بحيث تحوي ما بين 10 و 50 ذرة. وتوجد تلك الجسيمات في هذه الأحجام النانوية، وامتلاكها لذلك العدد من الذرات يجعلها تسلك سلوك الذرة الأحادية ويؤهلها لاحتكار خواص بصرية وموصلية متميزة لاتوجد في أي فئة من فئات الموصلات وأشباه الموصلات. ومن أجل الحصول على خواص بصرية أفضل ولضمان عدم تأثر خلايا الجسم بأي تسمم قد ينتج عن استخدام تلك الحبيبات، فإنها تغلف بطبقتين. ويتم تحميل بروتينات PEGالأجسام المضادة الخاصة بالخلايا السرطانية على السطوح الخارجية لتلك الحبيبات لتترسب عليها. وعند حقن المُصاب بمحلول يحوي تلك الحبيبات، فإن الأجسام المضادة المُشتقة من بروتينات الخلايا السرطانية والعالقة بسطح الحبيبات تؤدي دور المرشد في توجيه الحبيبات إلى مواضع الخلايا السرطانية دون غيرها من الخلايا غير المصابة . وعند تعريض الجسم لموجات من الأشعة تحت الحمراء باستخدام تقنية الليزر، تستثار الحبيبات فتتوهج معطية بذلك صورة خريطة تُظهر بدقة عالية أمكنة وجود الخلايا السرطانية وانتشارها، مهما بلغ صغر هذه الخلايا أو قلت أعدادها. وقد حققت هذه المواد النانوية تقدما هائلا في التصوير الجزيئي الخاص بالكشف المبكر عن الأورام، وقتل تلك الخلايا الخبيثة من دون آي آثار بيولوجية وخيمة على الإنسان .

وقاد التقدم المذهل في تكنولوجيا النانو إلى ابتكار أنواع متميزة من موصلات الأدوية تستخدم في مكافحة (سرطان الخلايا النجمية Astrocytoma) الذي يُعد أكثر وأخطر أنواع السرطانات التي تصيب خلايا المخ ويتركز في منطقة تقع وراء العين . ووجود الورم في ذلك المكان الحساس يشكل صعوبة بالغة للأطباء في التعامل الجراحي معه أو العلاج الإشعاعي له؛ نظرا لقصور التقنيات التقليدية في الاستهداف الدقيق للورم وتشعباته في خلايا المخ ، مما يؤدي غالبا إلى استئصال أو إتلاف خلايا سليمة مجاورة .

قذائف الذهب النانوية لقهر السرطان 

شاع في الآونة الأخيرة استخدام حبيبات

الذهب النانوية في علاج السرطان. وارتبطت هذه الحبيبات باسم القذائف نظرًا لأنها تنطلق عند حقنها بالجسم مثل طلقات القذائف الموجهة لتصيب الورم السرطاني في مقتل دون غيره من الخلايا السليمة. وإضافة إلى هذا “المُسمى الوظيفي” ، فقد أُطلق على نوع آخر من أنواعها العديدة مصطلح حبيبات الصدف النانوية Nanoshell Particles ، نسبًة إلى تركيبها الصدفي الذي يشبه محارة بحرية كروية الشكل. وهذه القذائف تعكس مدى استفادة الإنسان من التراكم المستمر للخبرات والمهارات المبنية على الأسس العلمية والفلسفات المنطقية المُدعمة بالتقنيات الفنية المتعددة التي اكتسبها الإنسان خلال العقود الماضية.

وثمة بروتينات للأجسام المضادة تحضر من الخلايا السرطانية ثم ترسب على سطح الطبقة الذهبية من هذه الحبيبات. وبعد ذلك يتم شحن الحبيبات في محلول ليحقن به المصاب، حيث تقوم الأجسام المضادة بتوجيه قذائف الحبيبات للذهاب إلى ميدان المعركة فتخترق الخلايا المصابة بالسرطان مُحتلة أصغر وأدق المواقع فيها.

وبعد مرور نحو ست ساعات، والتأكد من وصول القذائف إلى مواقعها الاستراتيجية، يتم تسليط كم إشعاعي ضوئي من موجات الأشعة تحت الحمراء بطول موجي قدره 810 نانومترات نحو الأمكنة المُصابة التي سبق تعيين مواقعها بواسطة حبيبات البلورات النانوية، فتمتص الحبيبات الضوء المُسلط عليها، ومن ثم تتحول الطاقة الضوئية المُمتصة داخلها إلى طاقة حرارية حيث ترتفع درجات حرارة سطوحها الخارجية لتبلغ نحو 42 درجة مئوية تكون كافية لقتل كل الخلايا السرطانية.

ووجود تلك النسبة الضئيلة جدا من الحبيبات الذهبية داخل الجسم – بعد الانتهاء من مهامها القتالية – لايسبب أي مشكلة صحية؛ لأن فلز الذهب يتوافق مع الأوساط البيولوجية في جسم الإنسان ولا يسبب أي مشكلة تتعلق بالتسمم. ومع تطوير سمك الطبقة الذهبية الخارجية وتعديل مقاييس أقطار الحبيبات الذهبية المُكونة للدروع الخارجية من

القذائف ، فإن هذا سيؤدي إلى زيادة في قدرة الحبيبات الموجودة في بؤر سرطانية تكون بعيدة عن سطح الجلد في امتصاص الإشعاع الضوئي وتحويله إلى طاقة حرارية، مما يعني تعظيم القدرات الهجومية لتلك الحبيبات. وهنالك أبحاث واعدة بهذا الصدد تشير إلى احتمال القضاء على ذلك المرض القاتل خلال سنوات قليلة وتخليص البشرية من ويلاته.

belowarticlecontent
Show More

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Back to top button