د. فهد الفضالة
باحث أكاديمي، ومستشار في المعهد العربي للتخطيط (الكويت)
تعكس مسيرة التنمية البشرية المراحل المختلفة لنظريات التنمية بصفة عامة ونظريات النمو الاقتصادي بصفة خاصة. واستخدمت الكثير من التعبيرات الدولية لمفهوم التنمية البشرية، فاستخدم في البداية تعبير ”تنمية العنصر البشري“ أو ”تنمية رأس المال البشري“ أو ”تنمية الموارد البشرية“ أو ”التنمية الاجتماعية“. ثم جاء استخدام مفهوم التنمية البشرية كما حدده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP عبر تقارير التنمية البشرية التي ظهرت مع بداية التسعينات من القرن العشرين، والتي تبين أن التنمية بمفهومها الحديث تجاوزت مفهوم النمو الاقتصادي أو التنمية الاقتصادية وبدأت تُعرف باسم التنمية البشرية Human Development.
ويعيد المفهوم الأخير ربط العلاقة بين البشر والتنمية، ولاسيما الجانب الاقتصادي منها، ليس فقط لأن البشر عنصر من عناصر التنمية (مفهوم الموارد البشرية) بل أيضا – وقبل كل شيء – باعتبار البشر غاية التنمية. ومفهوم التنمية البشرية المتداول حاليا يغطي أبعادا متعددة لعملية التنمية.
البُعد البشري للتنمية
ثمة ثلاثة خيارات تبقى جوهرية في كل مستويات التنمية، وهي أن يعيش المرء حياة طويلة وصحية؛ وأن يحصل على المعارف؛ و على الموارد الضرورية لتوفير مستوى معيشي لائق. لكن التنمية البشرية لا تقف عند هذا الحد بل تمتد وتتراوح بين الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى إتاحة فرص الإبداع والابتكار.
وللتنمية البشرية جانبان أساسيان هما: تكوين القدرات البشرية نتيجة تحسن الصحة والمعرفة والمهارة، واستخدام الناس للقدرات التي اكتسبوها في الأغراض الإنتاجية أو أغراض ممارسة النشاط الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي. وإذا تحقق توازن دقيق بين هذين الجانبين فإن ذلك يؤدي إلى تعاظم الدور البشري في المجتمع.
وفيما يخص مفهوم بناء القدرات البشرية، فهي جاءت محصلة للتطور في نظرية وتجربة التنمية الاقتصادية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وكانت أول مهمة إنمائية في تلك الفترة هي تعمير أوروبا الذي كان ثمرة لتعاون إيجابي للاقتصاديين، كما كان تسارع بلدان العالم الثالث لنيل استقلالها ومباشرتها لمسيرتها التنموية جانبا آخر في تطوير هذا المفهوم، الذي يتمحور حول تنمية معارف ومهارات وقدرات الموارد البشرية اللازمة لتعزيز النمو الاقتصادية وإنتاجية العمل والكفاءة، تلك الأمور التي تحقق المزيد من الرفاهية الاجتماعية، مع أن المفهوم في بعض الاتجاهات يفسر على أنه التدابير التي تؤدي إلى تنمية كفاءة العاملين في مؤسسات العمل الحكومية والخاصة وغير ذلك من الهياكل التنظيمية. لذا، يتضح أن تنمية الموارد البشرية فكرة واسعة وتتضمن جوانب تتصل بالأسرة والمؤسسة التعليمية ومكان العمل والمجتمع بالقدر الذي يؤثر به في تنمية الفرد وبناء قدراته وعلى الأخص في مؤسسة العمل.
ومن المعلوم أن هذا المفهوم لا يمكن أن يتأصل في كيان المجتمع ومؤسسة العمل على وجه الخصوص دون أن يحقق مفهوم الاستثمار البشري لأفراد المجتمع وذلك من خلال ثلاثة عناصر هي: التعبئة المثلى لأفراد وقوة العمل
في المجتمع من خلال إتاحة فرص العمل المناسبة؛ وتوفير الأدوات الرئيسية التي تسهم في تحقيق الاستفادة المثلى من قوة العمل في المجتمع عبر إتاحة فرص التعليم والتدريب والتنمية؛ وتأكيد مبدأ العمل الجماعي المشترك لفئات المجتمع.
وتشكل هذه العناصر الثلاثة جوهر ومفهوم الاستثمار الأمثل للموارد البشرية، وذلك من خلال
مـــا يبــذل مــن تنميــة قدــرات الأفــراد وإمكاناتهـــم واستعداداتهم العقلية والجسمية إلى أقصى حد ممكن لإحداث التقدم المنشود.
وعليه، فإن العلاقة بين مفهوم التنمية البشرية وتنمية الموارد البشرية تندرج تحت علاقة الجزء بالكل؛ إذ إن التنمية البشرية مفهوم إنساني واسع في حين تعتبر الموارد البشرية بمثابة مفهوم يخدم الجانب الاقتصادي لمؤسسة العمل.
أما فيما يتعلق بمجالات تنمية الموارد البشرية فإنها تمارس الأنشطة الثلاثة التالية: التدريب: الذي يعبر عن التعلم الذي يركز على العمل الحالي للمتعلم؛ والتعلم: الذي يركز على العمل المستقبلي للمتعلم؛ والتنمية: وهي التطوير المستمر للمتعلم.
مجالات الاهتمام بالموارد البشرية ثمـــــة أربعة مجـــالات للاهتمـــام بالمـــوارد البشـــرية يتضــح منهــــا مـــا يقـــع ضمـــن مجال تنميـــــة المــــوارد البشــــــرية، وهي:
(أ) إدارة الموارد البشرية Human Resources Management (HRM)
وهي ممارسة الإدارة للموارد البشرية. وشهد هذا المجال عدة تطورات تاريخية حيث كان يطلق عليه مسمى الأفراد Personnel، ثم تحول إلى عبارة”استخدام الموارد البشرية” Human Resources Utilization (HRU)، ثم تطور بدخول الحاسوب الذي أصبحت أنظمته جزءاً مهماً من تطبيقات إدارة الموارد البشرية.
(ب) تنمية الموارد البشرية Human Resources Development
ظهر هذا المجال نتيجة لتطور المجتمعات وما صاحبها من ظهور المتغيرات في عالم الوظائف والأعمال، الأمر الذي برزت معه الحاجة لتزويد العاملين بالمهارات والخبرات والمعارف المرتبطة بالتغيرات الاقتصادية والصناعية والتكنولوجية، وضرورة نقل هذه الخبرات الجديدة إلى العاملين بالمؤسسة لتحقيق أهدافها وأغراضها. ومع احتدام المنافسة بين مؤسسات العمل، أصبح على الجهاز التنفيذي للمؤسسة أن يتعامل مع الموارد البشرية بطريقة تعمل على إنجاح عمل المؤسسة ووضع معايير محددة لقياس هذا الأداء. ويتميز هذا المجال بأنه يتضمن تدريب وتقييم أداء قوة العمل في المؤسسة.
(ج) بيئة الموارد البشرية Human Resources Environment (HRE)
تعتبر بيئة الموارد البشرية مناخا لهندسة الموارد البشرية التي تتم ببطء ملحوظ، نظراً لأنها تتم بطريقة تلقائية دون تدخل من عناصر خارجية. وكان يعتقد أن تنمية الموارد البشرية وتنمية المنظمات بمثابة مجال واحد من مجالات الموارد البشرية، بيد أن لكل منهما اختصاصه وتميزه. وعندما لا يكون التمييز واضحاً بينهما، فإن ذلك يعتبر بمثابة دليل على أن ثمة خطأ ما داخل المؤسسة ينبغي تداركه وإصلاحه. وتعتبر تنمية الموارد البشرية مجالاً من مجالات التعلم في حين تعتبر تنمية المنظمات بمثابة الميدان التطبيقي لتطوير السلوك المؤسسي.
(د) وظائف الموارد البشرية
هنالك ثلاث وظائف رئيسية للموارد البشرية ذات علاقة مباشرة بمجال تنمية الموارد البشرية داخل مؤسسة العمل، وهي: توفير التعلم لتحسين العمليات الداخلية؛ وتوفير التعلم للوصول إلى تحقيق أهداف المؤسسة؛ وتوفير التعلم لمؤسسات أخرى.
رأس المال البشري والاقتصاد المعرفي
إن الحقيقة الظاهرة تتجلى في أن الموارد البشرية في عالم اليوم أضحت رقمية ومتحركة ومتنوعة المهارات، وعلى الجانب الآخر فإن مؤسسة العمل أيضاً باتت متغيرة ومرنة وشبكية. وأضحى هذا الوضع المؤسسي يُشكّل تحدياً كبيراً، فيما يرى بعضهم أنه فرصة للتغير والنمو وطريق للإنجاز.
ويمكن للمؤسسات أن تستثمر هذا التغير في ضوء الاقتصاد المعرفي الذي يجاري التحولات الاقتصادية والثورة المعرفية وتطور نظم الاتصالات. وثمة مصطلحات كثيرة ارتبطت بهذا الجانب، مثل اقتصاد المعلومات والاقتصاد القائم على المعرفة وغيرها من ذات الدلالة والارتباط بالمعلومات والقرارات الاقتصادية المبنية عليه، والتي ترتكز على إنتاج المعرفة واكتسابها ونشرها واستعمالها وتخزينها. إن ذلك يعطي مثالاً على مدى تغلل المعرفة في الأنشطة الإنتاجية والخدمية وتكاملها مع تكنولوجيا المعلومات وشموليتها لقطاعات كبيرة ومتعددة في نظم الإدارة المؤسسية.
ولايمكن لأي مؤسسة إدارة أنشطتها بكفاءة دون الاعتماد على المعرفة وتجديدها. لذا، فإن المعرفة تُعد الاستثمار الأمثل للمعلومات والبيانات، وذلك من خلال توظيف مهارات الأفراد وقدراتهم وأفكارهم وإبداعاتهم في عالم يتعاظم فيه رصيد وكم المعلوم من المعرفة. وهنا يأتي دور المستفيد من إدارة المعرفة ليوظفها في تعزيز الابتكار والإبداع باعتبارهما عنصرين فاعلين للتفوق على المنافسين في عصر تحول العالم فيه من اقتصاد للصناعة إلى اقتصاد للمعرفة.
إن المعرفة تُكتسب بالعمل وتتطلب كثيراً من التعليم والتدريب للعاملين في المؤسسة، ويأتي ذلك عن طريق الممارسة والتجريب والتطبيق. وهنا لابد من إيجاد الثقافة التنظيمية التي تساعد وتُسهم في بناء استراتيجية للموارد البشرية بالمؤسسة، واستخدام أساليب وطرق مبتكرة في دعم رأس المال البشري فيها، كبرامج التشجيع للمبادرين وتبني الاقتراحات والأفكار التطويرية وإتاحة التعلم المؤسسي للجميع.
إدارة المواهب والاستحواذ الوظيفي
لقد بشر بيتر دراكر Peter Drucker، الأب الروحي للإدارة الحديثة، بثورة المعلومات وسيطرة المعرفة على مختلف جوانب الحياة البشرية عندما نشر في عام 1969 كتابه “عصر التغيير” The Age of Discontinuity، وهو صورة جديدة للمستقبل تتنبأ بسيطرة المعلومات على حياة الناس وقيادتها للمتغيرات الاقتصادية والتقنية وتأثيرها في حقل الاقتصاد والأعمال والتحول إلى الاقتصاد المعرفي، وأن العنصر البشري الموهوب الذي يمتلك المعرفة هو من سيحرر اقتصاد العالم. وفي كتابه الآخر “الإدارة للمستقبل: التسعينيات وما بعدها” Managing for the Future: The 1990s and Beyond الصادر في عام 1992، أعلن أن مجتمع المعرفة الذي تنبأ به أصبح حقيقة، وأن الدول والمؤسسات الناجحة ستتقدم إذا امتلكت زمام المعرفة.
ولما كانت المعرفة أضحت قيمة اقتصادية، وأن الاقتصاد الجديد يستند إلى المعرفة، فقد أصبح العنصر البشري المتميز والموظفون الموهوبون مطلبا ملحا للعديد من المؤسسات. وسعت برامج التأهيل والتدريب المتقدمة إلى بناء وتطوير رأسمالها البشري، وأدى هذا الاتجاه إلى بروز ظاهرة بناء وإدارة المواهب والاحتفاظ بها كرأس مالي معرفي وفكري للمؤسسة. وعلى النقيض من هذا الاتجاه، برزت أيضاً ظاهرة الاستحواذ الوظيفي، وهو الطلب على المواهب والكفاءات المؤهلة وسرعة تحرك وانتقال هذه الكفاءات الوظيفية بين المؤسسات ولاسيما المؤسسات العاملة في قطاع التكنولوجيا والاتصالات والمعلومات والذكاء الاصطناعي وغيرها من القطاعات التي تعتمد في إدارة وتقدم أنظمتها على الابتكار والإبداع، حيث يستطيع هؤلاء الموهوبون التأثير في كفاءة المؤسسة وفعاليتها وتقدمها المالي والاقتصادي.
وحتى تستطيع المؤسسة توظيف مواهبها والاحتفاظ بها وأهمية ذلك في إنتاج القيمة المضافة لها، فقد حدد أوسينغ Osinge في عام 2009 أربعة أنواع من هذه المواهب.
إن موقع رأس المال البشري الموهوب في اقتصاد المعرفة حتّم على مؤسسات العمل التفكير في نهج استثماري فعال لضمان صناعة المعرفة من المواهب المتوفرة في المؤسسة. وقاد هذا الاتجاه إلى الاهتمام بالاستثمار في رأس المال البشري وتطوير قدراته وخبراته المهنية، بما ينعكس على إنتاجية وتقدم العمل بالمؤسسة وتحقيق تنافسية مستدامة.
ويرى العديد من الاقتصاديين أن الاستثمار في المواهب يحقق معدلات أسرع للنمو الاقتصادي على مستوى المؤسسة أو المجتمع يفوق ما يحققه الاستثمار المادي، وبناء على ذلك شاعت أفكار مفادها اعتبار الموارد البشرية أصولا اقتصادية، وأن هناك علاقة بين الاستثمار البشري وزيادة العوائد الاقتصادية، ومن ثم تحقيق الميزة التنافسية للمؤسسة.
لذا، فإن الداعم الأساسي لبناء رأس المال البشري في المؤسسة هو تهيئة بيئة محفزة للإبداع والابتكار، تتوافق بالتوازي مع استراتيجية متقدمة لإدارة الأصول البشرية تعمل على استخراج وتمكين كل القدرات الفنية والإبداعية الكامنة لدى العاملين، وتكون ركائزها كما يظهر الشكل التالي: