الالتهام الذاتي .. الوقاية من الأمراض والحد من تطورها
نادية الدكروري
عندما منحت اللجنة العلمية التابعة لمنظمة نوبل جائزتها هذا العام في مجال الطب للياباني يوشينوري أوسومي ، بررت ذلك الاختيار بالقول إن أبحاث هذا العالم الذي التحق بجامعة طوكيو عام 1963 واختار دراسة البيولوجيا الجزيئية لتكون مساراً لمستقبله «فتحت الطريق لفهم الأهمية الأساسية للالتهام الذاتي في العمليات الفيزيولوجية، الأمر الذي يساعد على علاج عدد من أمراض الجهاز العصبي وأمراض السرطان».
ولم يكن مستغربا منح تلك الجائزة لذلك العالم الفذ؛ فإنجازاته الرائدة في مجال (الالتهام الذاتي) مهدت الطريق لنظرة أعمق إلى بداية ظهور أعراض بعض الأمراض وكذلك تطورها، ومكافحة العداوى واضطرابات الصحة العقلية، وتطوير أدوية تسهم في الحد من الأضرار العصبية لأمراض ألزهايمر وباركنسون، وغيرهما من الأمراض العصبية التنكسية.
وعملية (الالتهام الذاتي) – الكلمة اليونانية الأصل التي قادت الدكتور أوسومي للفوز بجائزة نوبل – تعرّف بأنها آلية تدمير طبيعية تفكك بصورة منظمة المكونات الخلوية غير الضرورية أو المعطوبة؛ أي إن الجسم يستخدم آلات داخلية لإعادة تدوير ال “خردة”، مكونات الخلية التالفة، والاستفادة منها لتوليد الطاقة.
وخلال عملية الالتهام الذاتي للخلية يتم التقاط المخلفات الخلوية وجمعها في أغشية تشبه الكيس، ثم نقلها إلى صندوق المخلقات الخلوية المعروف بـ “الجسيمات الهاضمة” لتدميرها. هذه العملية أساسية للوقاية من السرطان، ومكافحة العدوى واضطرابات الصحة العقلية مثل داء هنتنغتون والشلل الرعاش، وكذلك الحفاظ على التمثيل الغذائي الصحي.
وبحسب مجلة “نيتشر” العلمية ، تنخفض قدرة الخلايا الجذعية العضلية على التجدد مع التقدم في العمر، إذ تدخل الخلايا في مرحلة شيخوخة غير قابلة للانعكاس. ويحفِّز منع الالتهام الذاتي في الخلايا الجذعية الصغيرة التابعة دخولها في مرحلة الشيخوخة، كما يرتبط بزيادة الخلل الوظيفي للخلايا، ومن ثم فإن تعزيز الالتهام الذاتي في الخلايا المسنة يعكس حالة الشيخوخة، ويستعيد قدرتها على التجدد في النماذج المصابة التي تمت دراستها.
و استغرق فهم عملية الالتهام الذاتي عقودًا، ففي خمسينيات القرن العشرين كشف العالم البلجيكي كريستيان دو دوف عن وجود بنية غير معروفة داخل الخلية أُطلِق عليها “الليسوسوم” أو “الجسم المُحلِّل”. وأثبت دو دوف” وآخرون أن هذه العضية تحتوي على العديد من الإنزيمات التي من شأنها، في ضوء ظروف مناسبة، أن تمزق البروتينات وحتى العضيات الأخرى، ما يتيح للخلية إعادة استخدام الأجزاء المكوِّنة لها أو لفظها خارجها.
وعند هذه النقطة توقفت الأبحاث ولم يُحرَز أي تقدم حتى تسعينيات القرن العشرين، عندما قرر أوسومي، المولود في مدينة فوكوكا اليابانية عام 1945، دراسة عملية الالتهام الذاتي في خلايا الخميرة، وحدد الجينات الرئيسية التي تشارك فيها، وأظهر كيف أن البروتينات التي تصنعها تلك الجينات تجتمع معًا لبناء أكياس محكمة الغلق تمهيدًا لتدميرها. كما أظهر فريقه البحثي أن هناك عملية إعادة تدوير خلوية مماثلة تتم في الخلايا البشرية.
جينات الالتهام الذاتي
وبفضل اكتشاف أوسومي لـ15 جينًا مسؤولة بصفة رئيسية عن تنظيم عملية الالتهام الذاتي للخلايا التي تمنح الجسد القدرة على التجدد وتعزز بقاء الجسم في حالة سليمة، أصبح العلماء يدركون أن عملية الالتهام الذاتي هي عملية أساسية لصحة الخلية بصورة مستمرة، بل وصفوا أنواعا محددة من الالتهام الذاتي، مثل هضم وتحلل الميتوكوندريا (مصدر الطاقة في الخلية) التالفة والشبكة الإندوبلازمية، التي تجمع البروتينات وتطويها وترسلها إلى بقية الخلايا.
وكانت أبحاث أوسومي الفريدة هي السبب وراء كل الأبحاث الهادفة إلى تطوير أدوية قادرة على استهداف عملية الالتهام الذاتي في مختلف الأمراض، باعتبار أن حدوث مشكلات في عملية الالتهام الذاتي قد يسهم في الأضرار العصبية لأمراض ألزهايمر ومرض باركنسون، وغيرهما من الأمراض العصبية التنكسية.