حياتنا.. وإن طالت! طول العمر والشيخوخة
د. عبدالله بدران
كيف يمكن للكائنات الحية أن تعيش حياة مديدة؟ وماذا يقول العلم عن فترة امتداد الحياة لكل مخلوق؟ ولماذا تعيش الأنواع المختلفة مددا زمنية مختلفة الأطوال؟ وما علاقة الجينات بفترة بمرحلة الشيخوخة عند الإنسان، وما الألغاز المحيطة بحياة من عاشوا أكثر من مئة عام؟ تلك الأسئلة وكثير غيرها مما يحير بني البشر يجيب عنها كتاب (حياتنا.. وإن طالت!علم دراسة طول العمر والشيخوخة) الذي يتطرق إلى توضيح الجوانب العلمية المعنية بالشيخوخة وسعي الإنسان إلى تجنب آثارها، مع إطالة مدتها دون إشكاليات جانبية.
لوحة فسيفساء
لقد اعتقد علماء الكون في العصر الوسيط بوجود وحدة من نوع ما في تنوع فترات امتداد الحياة لأن كل شيء يعود إلى سلسلة رياضية منظمة إلهيّا. فهل العلم لديه تفسير موحد لاختلاف آماد الحياة، أم أن الأمر مجرد حشد هائل من الحقائق مثل كومة من قطع الفسيفساء تفتقد النظام أو التصميم؟ وماذا عن الشيخوخة – التراجع الوظيفي الذي يتراكم مع التقدم في العمر ويقضي حتى على أطول حياة؟ لماذا نَهْرَم؟ وهل تعجز الحيوانات والنباتات بسبب الهَرَم كما يحدث معنا؟
وهذا الكتاب هو لوحة الفسيفساء الخاصة بي، كما يقول المؤلف الدكتور جوناثان سيلفرتاون، وسأجمع فيه الإجابات التي يقدمها العلم الحديث عن هذه الأسئلة، وغيرها. وقطع الفسيفساء في اللوحة يجمعها إطار هو عبارة عن سلسلة من الألغاز المتصلة، وأحجية طول العمر هي فقط أولى الأحاجي بين هذه الألغاز. ويتطلب حل هذه الألغاز وفرة من الحقائق الغريبة والمثيرة لفضول البحث والمعرفة، ومجادلات بارعة وحُججا مبدعة.
ويضيف مؤلف الكتاب الذي ترجمته سحر توفيق ونشره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت في تسعة فصول، إن الكتاب يسعى إلى توضيح ما يعتمل في الفكر من تساؤلات عن سبب عدم وجود حياة بشرية قصيرة مثل الميكروبات، ومدى تأثير الوراثة على طول العمر، واكتشاف الحقيقة المدهشة التي مفادها أن تعديلا طفيفا في جينات معينة موجودة في كل الحيوانات يمكن أن يؤدي إلى إطالة الحياة بدرجة كبيرة جدا.
الموت والخلود والمصير
وبعد أن تناول المؤلف في الفصل الأول الذي عنونه ب (الموت والخلود والمصير) فقرات عدة عن تلك المعاني، ذكر أن ممن كتبوا بفطنة كبيرة وإدراك متمعن حول طول العمر الفيلسوف الإغريقي أرسطو (322-384 ق.م)، الذي يعتبر أيضا أول بيولوجي؛ بسبب ملاحظاته المباشرة حول العالم الطبيعي. ولاحظ أرسطو أن النباتات هي الكائنات الأطول عمرا لأنها تستطيع «تجديد نفسها باستمرار، ولهذا تستطيع الحياة زمنا طويلا».
ويرى الكتاب في فصله الثاني المعنون (ساعة رملية لاتتوقف.. طول العمر) أن الحياة ليست هي الوحيدة التي تبدأ بخلية منفردة، لكن حياة كل فرد منا تبدأ بهذه الطريقة أيضا – بخلية وحيدة هي البويضة المخصبة. وتنقسم الخلية، وينمو الجنين ويتطور بطريقة عالية التنسيق وشديدة الأمانة للتخطيط الذي ورثته بأن تنتج تشابها عائليا قويا بين الأبوين وذريتهما. ومن الأهمية البالغة لطول العمر أن تكون هذه الكائنات متعددة الخلايا تحت حكم مشترك لخلايا متعاونة. والجانب الإيجابي لكون الكائن متعدد الخلايا هو أنه يستطيع إصلاح نفسه باستخدام خلايا جديدة تحل محل الخلايا التالفة، أو البالية، أو المصابة. وهناك خلايا منيعة متخصصة تحارب الإصابة بالمرض عن طريق تمييز الكائنات المسببة للأمراض، وحصارها، ثم تدميرها. وهكذا، فإن الكائنات المتعددة الخلايا لديها وحدة إصلاح، وقوة دفاع خلوية، وخدمة صحية، وكلها تساعد على إطالة الحياة.
ويذكر الكتاب أن الحقيقة الغريبة المستمدة من موضوعات عدة عن الحياة والشيخوخة هي أنه طوال 2.7 بليون سنة، بدا أن التطور والارتقاء راض تماما بعالم من الميكروبات، محروم من أي شيء متعدد الخلايا أو طويل العمر. وربما كان الطول الاستثنائي لهذا التأخير مجرد مقياس لمدى الصعوبة التي لقيها التطور في الوصول إلى أي شيء أكبر أو أكثر تعقيدا، ولكن من المحتمل بالقدر نفسه أن الميزة التطورية الهائلة لقصر زمن الجيل أعطت الميكروبات مزية لا يمكن التغلب عليها. ونحن لا نزال نحاربها. وعندما ظهر الحكم المشترك للخلايا المتعددة أخيرا، كانت الخلايا التي تحويها مجهزة وموجهة لمهام مختلفة، لتقدم وسائل للنمو، والدفاع، وإصلاح التالف، وبالطبع أهم شيء على الإطلاق، تكاثر الكائن الحي. هذا التقسيم للعمل جعل من الممكن إطالة الحياة، ولكن كان له ثمن. والثمن، في الحيوانات على الأقل، هو خطر الإصابة بالسرطان الذي تتسبب فيه خلايا متشردة خبيثة تتصرف كأنها ميكروبات طفيلية لها حياة خاصة بها، منفصلة عن المنظومة التي تعيش فيها.
الشيخوخة.. بعد أصياف كثيرة
بعد أن بحث المؤلف بالتفصيل في محاور الفصل الثالث الذي عنونه بـ (بعد أصياف كثيرة:الشيخوخة) ذكر أنه ليست لدينا أي فكرة حول مزيد من الإنجازات التي يمكن إحرازها بالنسبة إلى العمر المتوقع في المستقبل، لكن يمكن أن نقول إن مثل هذه الإنجازات لايحتمل أن تحدث على حساب الشيخوخة. إن الشيخوخة لا تتوقف في السن المتقدمة جدا غير أنه عند الوصول إلى مثل هذه السن يكون معدل الوفيات السنوي مرتفعا جدا، حتى إن ذلك لا يعطينا أي فرصة لمزيد من الوقت.
أما الوصول إلى حالة توقف للشيخوخة في السن المتقدمة جدا، فمن المحتمل أن سببه غربلة الموت للأكبر وهناً، والذي يترك فقط أولئك الذين يتمتعون بصحة عِفيَّة أكثر من المتوسط طوال حياتهم، هل يمكن أن تكون هذه الصحة الطيبة في كبار السن موروثة؟ كان التقدم في علم الجينات سريعا جدا في السنوات العشرين الأخيرة حتى يمكن الآن أن نرى مباشرة الفروق الجينية بين الأفراد. فما الذي تقوله لنا هذه الفروق حول التقدم في السن؟
ويتناول الكتاب في الفصل الرابع الوراثة ودورها في الشيخوخة، وتجارب عدد من العلماء في ذلك، والجزء المهم من الجينات المؤثر في وصول المعمرين إلى عمر طويل مع تمتعهم بصحة جيدة، وبعض المصادفات العلمية التي أدت إلى تطورات علمية مرتبطة بالشيخوخة.
العمر الأخضر..النبات
بهذا العنوان انطلق المؤلف في الفصل الخامس ليتناول حياة النباتات ، والمدد الزمنية لأعمار بعض منها، ويسعى لاكتشاف سر التباين بينها في هذا الشأن. ويخلص إلى نتيجة مفادها أن لدى التطور قدرة على تغيير طول الحياة. وأنه يمكن رؤية ذلك بوضوح إذا فكر الإنسان كم يختلف معدل العمر المتوقع بين الأنواع ذات القرابة. ثم يضرب مثالا لذلك بالقوارض، فيقول إن معدل الأعمار بينها يختلف من عام أو اثنين في الفئران إلى عشرة أضعاف ذلك على الأقل في فأر الخلد العاري. هذا الاختلاف بين الأنواع يبرهن على أن طول العمر له أساس جيني، لكن الشيء الأكثر إثارة للدهشة هو وجود تنوع جيني بالنسبة إلى طول العمر داخل الأنواع. ويرى أنه في كل الكائنات الحية، بما في ذلك النباتات والشعاب المرجانية، يبدو أن طول الحياة يتقرر بناء على تسوية تتسم بالمرونة بين اختيارات متعددة: النمو والتكاثر، والتجدد. هذه النتيجة تقود إلى سؤال عويص مفاده: إذا كان من الممكن تأجيل الشيخوخة، وإذا كانت مدة الحياة شديدة المرونة، فلماذا لا يقوم الانتخاب الطبيعي بمحو الشيخوخة وإطالة مدة الحياة إلى أجل غير مسمى؟
ويتطرق الكتاب في الفصل السادس إلى موضوع الانتخاب الطبيعي الذي يعد محرك التطور والارتقاء، وكيفية عمل آلية الانتخاب، ونظريات البيولوجيين حول ذلك.
الحياة ومعدل السرعة
في الفصل الثامن يناقش الكتاب مقولة (عش سريعا تمت صغيرا) ومدى دقتها علميا وسلامتها تطبيقيا، وتبين أن هذه المقولة ومعكوستها: (عش بطيئا، تمت عجوزا) هي قاعدة لا بد أن تعيش بناء عليها كل الكائنات. إن سرعة الحياة ليست لها علاقة كبيرة بمعدل العمليات الحيوية، ولها علاقة كبيرة بمعدل سرعة تعاقب الأجيال. هذا المعدل تضبطه أخطار حياة الكبار. والنوع البشري يعيش الحياة ببطء بالغ، حتى بالنسبة إلى مستويات التكاسل التي تبديها أقاربنا من الرئيسيات. فلماذا جعلنا التطور بهذا التراخي والتكاسل؟
من الممكن أن تتنبأ نظرية معدل الوفيات بأن الإجابة تكمن في قدرة أسلافنا على الهرب من معدلات الوفيات المرتفعة للكبار، وهي من الخصائص النمطية للثدييات كمجموعة. تسكن الرئيسيات على الأشجار، وهذا الأسلوب للمعيشة يرتبط بحياة أطول في جميع الثدييات التي تشترك في هذه العادة، ولهذا فقد بدأنا بميزة حملناها معنا عندما تخلى أسلافنا عن الحياة على الأشجار. وهناك نمط آخر وجدنا أنه سائد بين الثدييات: هو أن الأنواع ذات الأمخاخ الأكبر حجما تعيش حياة أطول. ومن ثم فإن حيواتنا البطيئة لا بد أيضا من أن تدين بشيء لسرعة بديهتنا وذكائنا. هذه البديهة السريعة أيضا مسؤولة عن القفزة الكبرى في طول العمر التي أنجزها نوعنا البشري: مضاعفة مدة الحياة على مدى السنوات الـ200 الأخيرة.
أغرب مفارقة
ناقش الكاتب في الفصل الأخير موضوع الشباب الدائم وآلياته، والبحث المستمر للوصول إليه، والأحلام الكبيرة المبنية على تحقيقه. ثم قال في ختامه : لقد احتفظت بأغرب مفارقة للنهاية، وهي مفارقة قد تتجادل بشأن اعتبارها الأكثر أهمية من وجهة النظر العملية، وهي : على الرغم من حقيقة أن البشر لم يهزموا الشيخوخة، فقد حدثت زيادة هائلة في معدل طول حياة الإنسان منذ عام 1840، حيث زادت 15 دقيقة لكل ساعة في مدة الحياة على مدى السنوات المئة والسبعين الماضية.
ويرى الكاتب أن كثيرا من هذه الزيادة يرجع إلى انخفاض معدل وفيات الأطفال، ولكن أيضا ساهم فيها التحسن في صحة الكبار. وهذه التدابير جعلت الشيخوخة تتأجل، ولم تهزمها. وإذا كان قد جرى كل هذا التقدم من دون تغيير الشيخوخة تغييرا جوهريا، فلابد من أن نسأل أنفسنا إن كان المزيد من التحسينات في مدة الحياة سيكون ممكنا من خلال برامج هندسة الشيخوخة، أو من خلال التحسينات في الصحة لكبار السن.