د. طارق قابيل
يؤدي التنوّع البيولوجي دوراً مُهمّاً في الاقتصاد العالمي؛ لأنه يمنحنا فرصةً للتعرّف على التركيبات الوراثيّة المختلفة للكائنات الحية، ممّا يساعد على تربية نباتات وحيوانات أفضل، ويُسهِم في إمداد البشر بكلّ ما يَحتاجون إليه من منتجات كالأخشاب والأغذية والملابس والأدوية.
وتبلغ قيمة الفوائد الاقتصادية والبيئية السنوية للتنوع البيولوجي في جميع أنحاء العالم عشرات البلايين من الدولارات. وهو أساس الحياة على سطح الأرض لأنه يُحافظ على التنوع الجيني والوراثي للكائنات الحية، وعلى توازنها، ويمنع حدوث خلل في الأنظمة البيئية، ويسهم في تطور جميع نشاطات الحياة، وتعزيز الإنتاج وزيادته.
وتُظهر دراسات رصينة أن التنوع البيولوجي يشهد حاليا تراجعاً كبيراً وتدهوراً واسعاً، وأن عوامل كثيرة تُساهم في انقراض أنواع كثيرة من الكائنات الحية، وأن هناك زيادة متسارعة في معدلات انقراض الأنواع المختلفة خلال العقود الأخيرة. وأعلن علماء البيئة أن انقراضًا سادسًا للحيوانات تواجهه الأرض حاليا، فقبل عصر الأنثروبوسين (ظهور الإنسان)، كان ينقرض نوعان من الثدييات كل قرن من بين عشرة آلاف نوع كانت تعيش حينها. لكن هذا الرقم ازداد في القرنين الـ 20 والـ 21 بمقدار 114 مرة، بسبب الانفجار السكاني الكبير، والزيادة الحادة في إنتاج اللحوم والألبان في العالم.
القيمة الاقتصادية للتنوع البيولوجي
يضمّ التنوّع البيولوجي على كوكب الأرض 1.7 مليون نوع كائن حي، ويشمل هذا الرقم 750 ألف نوع من النباتات، والباقي يكون على شكل مجموعات مركبة من الفطريات واللافقاريات والطحالب وغيرها من الكائنات الدقيقة. وتظهر القيمة الاقتصادية التي يضيفها التنوع البيولوجي على صعيد دعم المجتمعات البشرية في شكل توفير مصادر متنوعة من الكائنات، يخدم كل منها هدفًا بشريًا أو يحقق غرضًا إنسانيًا.
ويمكن اعتبار اختلاف وتعدد المحاصيل الزراعية نوعاً من أنواع التنوع البيولوجي. فحاجات الإنسان الضرورية من الغذاء كالكربوهيدرات، والبروتينات، والأملاح، والمعادن، والفيتامينات، وغيرها من العناصر الغذائية، لا يمكن تلبيتها جميعاً من خلال الاعتماد على مصادر غذائية محدودة التنوع. إضافة إلى أن كثيرين ينظرون إلى هذا التنوع على أنه مخزون من المصادر الفريدة القابلة للاستغلال في العديد من النشاطات الاقتصادية كصناعة الغذاء والأدوية وغيرها من المنتجات التي تعتمد على مصادر طبيعية. هذه النظرة بالتحديد هي السبب الرئيسي خلف تزايد المخاوف من استهلاك الأنواع الحية، وما سيعنيه ذلك من أثر سلبي في صناعات مختلفة تمثل عماد الاقتصاد في معظم المجتمعات.
يوفر التنوع البيولوجي مجموعة متنوعة من الأغذية، حيث تعتبر المحاصيل والثروة الحيوانية والأسماك مصدرًا غذائيًا مهمًا للبشر. ومع ذلك، فقد تم تدجين عدد قليل من الأنواع إذا ما قورن بعدد الأنواع الموجودة. ويمكن للأنواع والأصناف البرية أن تعزز دور الجينات في تحسين الأجناس المستأنسة من خلال تطوير إنتاجها ومقاومتها للأمراض وتحملها ونشاطها مما يزيد من عوائد الزراعة.
ويعتمد 70 % من سكّان العالم على النباتات في علاجاتهم، و40 % من الأدوية تَحتوي على مُكوّنات نباتيّة وحيوانية. ويأتي أكثر من 70 % من الأدوية الواعدة المضادة للسرطان من نباتات الغابات الاستوائية المطيرة. ومن بين 250 ألف نوع من النباتات المعروفة، بحث العلماء عن 5000 نوع فقط من أجل تطبيقات طبية محتملة. وتؤدي الحيوانات أيضًا دورًا مهما في صناعة الأدوية.
والاستخدام الحكيم للتنوع البيولوجي في مجال المكافحة البيولوجية للآفات قد يؤدي إلى حماية المحاصيل والحد من الخسارة الاقتصادية الناجمة عن فقدانها، وهي طريقة أكثر ملاءمة للبيئة مقارنة باستخدام مبيدات الآفات الصناعية. كما يمكن التحكم في عدد ناقلات الأمراض والأنواع الغازية؛ ومن ثم، يمكن الحد من الخسائر الاقتصادية التي تسببها هذه الأنواع.
ووفق دراسة نشرتها مجلة (بيوساينس) فإنه يتم إنفاق 20 بليون دولار أمريكي في العالم على مبيدات الآفات، لكن الطفيليات والحيوانات المفترسة الموجودة في النظم البيئية الطبيعية توفر ما يقدر بخمسة إلى عشرة أضعاف هذه الكمية من مكافحة الآفات. ومن دون وجود أعداء طبيعيين، فإن خسائر المحاصيل ستكون كارثية وستتصاعد تكاليف مكافحة الآفات الكيميائية بشكل هائل.
قد يكون التنوع البيولوجي مصدرا للطاقة والمنتجات الصناعية الأخرى مثل ألياف للملابس والخشب والزيوت ومواد التشحيم والعطور والأصباغ والورق والشموع والمطاط والراتنجات والفلين والبلاستيك البيولوجي والصوف والحرير والفراء والجلود وزيوت التشحيم والشموع، وكلها مستمدة من أنواع نباتية وحيوانية.
اقتصاديات التنوع البيولوجي
يدرس علم الاقتصاد الاستخدام الأمثل للموارد المادية والبشرية بهدف تحقيق أكبر إشباع للحاجات الإنسانية بأقل تكلفة ممكنة. لكن هذا المفهوم لعلم الاقتصاد بدأ بالتغير لأنه لا يأخذ بعين الاعتبار الجانب البيئي في النشاط الاقتصادي. ونعرض هنا بشكل مختصر لبعض المفاهيم الاقتصادية التي انبثقت حديثَا.
ظهر مفهوم الاقتصاد الأخضر مع تزايد الضغوط على البيئة نتيجة النشاطات المختلفة التي تخدم الاقتصاد وبخاصة في الدول الصناعية الكبرى، وهو يعني تحقيق النمو والتنمية المستدامة دون الإخلال بالنظام البيئي. ويهدف الى تحقيق تنمية اقتصادية عن طريق مشروعات صديقة للبيئة باستخدام تكنولوجيات جديدة، ويدعو إلى تغيير أنماط الاستهلاك غير المستدامة، مما يولد فرص عمل جديدة تعمل على الحد من الفقر، إلى جانب تقليل كثافة استخدام الطاقة واستهلاك الموارد وإنتاجها.
وفي هذا الإطار تسعى الدول الى وضع تصور لإطلاق اقتصاد مبني على استراتيجية الانتقال الى اقتصاد أخضر ووضع نموذج جديد للتنمية المستدامة؛ لأن الاقتصاد الأخضر هو نموذج للتنمية الاقتصادية على أساس التنمية المستدامة والاقتصاد البيئي. وهو نوع من الطرق المنظمة لإنشاء مجتمع وبيئة نظيفة ترفع من المستوى الاقتصادي وتدفع المجتمع نحو حياة أفضل، وتحافظ على موازنة البيئة من جميع أشكال التنوع البيئي.
أما اقتصاديات النظم البيئية والتنوع البيئي التي تُعرف اختصاراً بـ TEEB، فهي مبادرة عالمية تركز على لفت الانتباه إلى الفوائد الاقتصادية للتنوع البيولوجي. وهدفها هو تسليط الضوء على التكاليف المتزايدة لفقدان التنوع البيولوجي وتدهور النظم الإيكولوجية. وتقدم المبادرة مقاربة يمكن أن تساعد صناع القرار على التعرف والتقاط وإظهار قيم النظم الإيكولوجية والتنوع البيولوجي، بما في ذلك كيفية دمج هذه القيم في عملية صنع القرار.
ويشير الاقتصاد البيولوجي (Bioeconomy) إلى جميع النشاطات الاقتصادية المرتكزة على الأنشطة البحثية والعلمية الرامية إلى فهم الآليات والعمليات التي تتم على مستوى الجينات والجزيئات وتطبيقاتها الصناعية. وعادة ما يستخدم مصطلح التكنولوجيا البيولوجية (Biotechnology) للإشارة إلى المعنى نفسه. ويشيع استخدام مصطلح الاقتصاد البيولوجي في هيئات التنمية الإقليمية والمنظمات الدولية وشركات التكنولوجيا البيولوجية. ويمثل التطور الذي شهدته صناعة التكنولوجيا البيولوجية وتطبيقاتها على الزراعة والصحة والصناعات الكيميائية وتوليد الطاقة نموذجا لنشاطات الاقتصاد البيولوجي.
والاقتصاد البيولوجي المبني على المعرفة، هو الاقتصاد الذي يقوم على تحويل معرفة علوم الحياة إلى منتجات تنافسية وناجحة اقتصاديا ومستدامة. ومن أهم عناصر هذا الاقتصاد هي الاستعاضة عن الزراعة التقليدية بالزراعة العضوية. وتخصص الولايات المتحدة وأوروبا مبالغ كبيرة على البحث العلمي بهذه المجالات لتعزيز دور الاقتصاد المبني على المعرفة .
غياب السياسات العامة
من أسباب عدم اهتمام الأفراد بأهمية التنوع البيولوجي غياب المعرفة بأهمية ذلك التنوع وغياب السياسات العامة البيئية والبيولوجية التي تؤدي إلى حفظ المصادر. وأظهرت الدراسات العلمية فشل الحكومات في الوفاء بالالتزامات التي تم التعهد بها من خلال اتفاقية التنوع البيولوجي للحد من المعدل العالمي لخسارة التنوع البيولوجي.
ومن الاستنتاجات الرئيسية لهذه الدراسات استمرار البشرية في فقد التنوع البيولوجي بمعدل لم يسبق له مثيل في التاريخ، وقد تكون معدلات الانقراض أعلى بما يصل إلى 1000 مرة من المعدلات التاريخية.
ويرى معظم العلماء أننا نواجه الانقراض العظيم السادس للأرض على الرغم من أن الانقاراضات الخمسة السابقة نشأت عن أحداث طبيعية، مثل تأثيرات الكويكبات.
ولهذا يجب حماية التنوع البيولوجي والحفاظ عليه بالحرص على منع الصيد الجائر وتقطيع الغابات ومنع الامتداد العمراني إلى الأراضي الزراعية وإقامة المحميات الطبيعية النباتية والحيوانية وإنشاء بنوك للبذور الحقلية للحفاظ على الأنواع النادرة من النباتات.
كما يجب الحفاظ على تجميعة الجينات (Gene pool) ، وهي العدد الإجماليّ للأليلات التي يَتشاركها عدد من الأفراد الذين ينتمون إلى أحد الأنواع. ويُمكن أن تشير تجميعة الجينات إلى جين بعينه، أو إلى خصائص نوع بكامله. ولدى تجميعات الجينات تأثيرات مهمة في المخلوقات الحية، وبصورة عامة كلما كانت تجميعات الجينات أكبر كان ذلك أفضل للأنواع لأنها تمثل التنوع؛ والتنوع الوراثيّ الأكبر يَعني زيادة أكثر في قدرة المخلوق على تحمل الظروف البيئية التي يَخضع لها لأن الحيوانات التي تفتقر إلى هذه التجميعات تكون أقل قدرة على التكيف والبقاء.
وتجميعات الجينات مهمة صناعياً ومن ثم اقتصاديا، فمثلاً في مزارع الدواجن تستهدف تجميعات الجينات الكبيرة الحصول على أفراد معافين من الحيوانات، لاسيما في المزارع التي تربي حيوانات ذات عرق خالص، فهذه الحيوانات يُمكنها أن تظهر تكيفات ومُميزات جديدة إذا ما رُبيت بطريقة مُعينة. ولهذا يَهتم المُحافظون على التنوع البيولوجي أيضاً بتجميعات الجينات هذه، فأنواع الحيوانات المُهددة بالانقراض قد تبلغ نقطة حرجة لا تستطيع بعدها النجاة بسبب تضاؤل أعدادها وفقدانها لتنوعها الوراثيّ.
وتظهر التقديرات أنه بالنسبة للاستثمار السنوي البالغ 45 بليون دولار في المناطق المحمية وحدها، يمكن تأمين خدمات النظام الإيكولوجي التي تبلغ قيمتها نحو خمسة تريليونات دولار سنوياً وتقليل تكلفة الخسائر المستقبلية عن طريق الإدارة السليمة للنظام الإيكولوجي والتنوع البيولوجي.
وفي ضوء استمرار فقدان الموائل الطبيعية والتنوع البيولوجي، من الضروري تحديد نسبة التكلفة للاستثمارات في حفظ الموائل. وبحسب دورية «ساينس» فقد تراكمت الأدلة على أن حفظ الموائل يولد فوائد اقتصادية أكبر من فوائد تحويل الموائل. ويقدر الباحثون أن التكلفة الإجمالية لبرنامج عالمي فعال لحفظ الطبيعة البرية المتبقية هي 100 إلى 1 على الأقل. ولكي تتم عملية تقييم اقتصادي شامل للتنوع البيولوجي، كمصدر من المصادر الاقتصادية القومية، يجب أن تكون هناك رؤية واضحة لدى صانعي القرار والمجتمعات لإبراز أهميته والحفاظ على حق الأجيال القادمة في استدامته، وتطبيق برامج حماية الأنواع البيولوجية المحلية.
التطوير المستهدف
ولإحداث تطوير في هذا المجال هناك شقان لابد من الاهتمام بهما: هما العامل البشري ويتمثل في إقامة برامج تدريب فاعله وبناء القدرات الفكرية لدى القائمين على العمل، وتحرير النظم والإدارات التنفيذية من الجمود الروتيني. ويتمثل الشق الثاني في استخدام الحلول التكنولوجية لمجابهة زيادة الطلب على بعض الأنواع، مثل استخدام تقنيات زراعة الأنسجة للحد من الجمع الجائر للنباتات الطبية البرية، وإجراء تجارب الإكثار والتهجين، ودراسة تطوير إنتاجية هذه الأنواع ودراسة المصادر الوراثية ورصد ديناميكية التغير في الأنواع المزروعة.
إن التنوع البيولوجي يمثل رأس المال الطبيعي الحي الداعم للنمو الاقتصادي، ويجب أن تتعاون دول العالم للحفاظ عليه من خلال المصادقة على الاتفاقيات الدولية والإقليمية وتطبيق بنودها، ووضع الخطط والمشروعات المستقبلية المناسبة. >